بقلم المحامي المستشار
محي الدين محمد يونس
خزين ذاكرتي وطريف الحكايات - ورطة في الكرادة
كانا ضابطي شرطة الأول برتبة رائد والثاني برتبة ملازم يعملان في إحدى وحدات الشرطة في محافظة كركوك وصادف في ربيع عام 1970 أن جاءا إلى العاصمة بغداد في إجازة وهما يستقلان سيارة الثاني والتي كانت من نوع موسكوفج صالون زرقاء روسية الصنع موديل نفس العام وكان المذكور عندما يأتي بسيارته تلك إلى الدائرة ويوقفها أمام غرفته نقوم نحن الضباط بالتمتع بمشاهدتها من الخارج ومن الداخل وكان صاحبنا الملازم يصطحبنا بعض المرات معه في جولات داخل المدينة، حيث تجدر الإشارة إلى أنه لم يكن في متناول أي شخص امتلاك سيارة خاصة في ذلك الوقت بسبب ضعف الإمكانيات المادية لأغلب المواطنين وليس كما هو الحال في الوقت الحاضر حيث أن أغلب الناس يملكون سيارة واحدة أو أكثر، اعتمد (الملازم)على تمويل والده في شراء السيارة المذكورة حيث كان ملاكاً زراعياً متمكناً في محافظة ديالى من خلال التسجيل في الشركة العامة للسيارات حيث كان الحصول على سيارة في ظل النظام السابق ليس بالأمر الهين بسبب كون الحكومة العراقية وعن طريق الشركة آنفة الذكر هي المخولة فقط في استيراد السيارات وبمختلف أنواعها وتحديد أسعارها بعد أن يسجل المواطن اسمه لديها
سيارة موسكوفج 412 موديل 1967-1977
بشرط امتلاكه لإجازة سوق نافذة ووجود دعوة من الشركة للمواطنين ولمدة محدودة لتسجيل أسمائهم بعد تحديد نوع السيارة التي سوف تستوردها هي والذي كان محدوداً بنوع واحد أو نوعين ولم تكن رغبات المواطن محل اعتبار في هذا الشأن حيث كانت صفقات شراء السيارات تتم بشروط وضوابط بين الشركة العامة للسيارات والشركات العالمية المنتجة للسيارات وفي كثير من الأحيان كانت تتم بصيغة النفط مقابل السيارات.
سيارة فولكا 21 م – موديل 1962-1970 سيارة باسات برازيلي موديل 1988
كان على المواطن المسجل على السيارة أن ينتظر دوره وحسب تسلسل تسجيله قد تمتد لفترات طويلة في بعض الأحيان وفاتني أن أذكر بأن الشركة المذكورة كانت ترفض طلب التسجيل على سيارة لمن كان قد استفاد سابقاً من فرصة الحصول على سيارة.
وبهذه المناسبة تحضرني حكاية طريفة عن الصديق (فاضل خضر) والذي كان متمكناً من الناحية المادية إلا أنه سبق له الحصول على سيارة من الشركة آنفة الذكر مما حدى به اللجوء إلى صديقه المرحوم (فاضل وادي) للقيام بمراجعة شعبة التسجيل وتسجيل السيارة باسمه بعد أن سلمه مبلغاً إذا لم تخني ذاكرتي كان في حدود الألف والخمسمائة دينار، وكان الأول قد وعده بحصة من الربح الذي سيحصل عليه عند استلام السيارة وبيعها وفاتني أن أذكر بأن الأول كان ضابطاً في الشرطة والثاني ضابطاً في الجيش.
وبعد فترة تقدر بعدة أشهر قام المرحوم (فاضل وادي) بمراجعة الشركة طالباً إلغاء طلبه السابق على السيارة وإعادة المبلغ الذي حوله بعد استلامه إلى العملة الأمريكية (دولار) وأصبح بحسابات التبديل في ذلك الوقت مبلغاً كبيراً أنفقه جميعاً على سفرة سياحية فول مواصفات امتدت لأكثر من شهر قضاها في الدول الأوربية الشرقية (بلغاريا، رومانيا، بولونيا) وكان الذي بحوزته هذا المبلغ في ذلك الوقت يعيش في تلك الدول عيشة السلاطين... المهم عاد المذكور إلى أربيل بعد أن أجهز على آخر دولار من المبلغ وصديقنا (فاضل خضر) ينتظر دوره لاستلام السيارة معقباً أخبار وصولها دون نتيجة بالرغم من ملاحظته استلام المواطنين الآخرين لسياراتهم التي سجلوا عليها وإصرار زميله بأن دورهم وتسلسلهم لازال قيد الانتظار تصرفات الأخير أدخلت الشك والريبة في نفس الأول والذي كان متحمساً لاستلام السيارة وبيعها لوصول سعرها إلى الضعف من قيمة الشراء ومن العجيب عدم رفض المرحوم (فاضل وادي) مصاحبة صديقه (فاضل خضر) عندما طلب منه الذهاب معه إلى بغداد ومراجعة الشركة للاستفسار عن مصير السيارة المسجلين عليها وتأخر الاستلام بالرغم من استلام بعض المواطنين لسياراتهم وهم قد سجلوا عليها بعد المذكور حيث وصلوا العاصمة بغداد وقام الأخير بواجبات الضيافة للأول حيث نزلا في أرقى فنادقها وقضاء الأوقات الجميلة وأشهى الطعام...
وفي اليوم التالي توجها إلى الشركة وفي بابها كانت المفاجئة حيث توارى الأول عن الأنظار وبالرغم من قيام صديقنا (فاضل خضر) بالبحث عنه دون جدوى مما اضطره لمراجعة شعبة التسجيل في الشركة بعد أن أبرز الوصل الحسابي بالمبلغ المدفوع والاستفسار عن أسباب عدم استلامه للسيارة، وكانت المفاجئة المرة القاسية من الموظف المسؤول بأن التسجيل قد ألغى وتم سحب المبلغ قبل ثلاث سنوات، عاد إلى أربيل خائباً وحيداً وهو يلعن اليوم الذي أوصله إلى القناعة لتسجيل السيارة باسم صديقه بالرغم من عدم قناعته به من خلال الزمالة الطويلة بينهما...
وكانت شاكلة هذه المشاكل بين المواطنين كثيرة الحدوث، عندما كان أحدهم لا يستطيع التسجيل على سيارة بسبب عدم امتلاكه لإجازة سوق أو كونه مستفيداً في السابق ولجوئه لاحد أقربائه أو أصدقائه أو معارفه من الذين تتوفر فيهم الشروط أملاً في الحصول على السيارة وبيعها والاستفادة من فارق السعر السائد في السوق.
أود الإشارة إلى نوعية السيارات التي كانت تستوردها الحكومة العراقية عن طريق الشركة العامة للسيارات منذ عام 1968ولغاية عام 2003 وهو تاريخ استلام النظام السابق للحكم في العراق وسقوطه والغرض من ذلك إعطاء المواطن فكرة عن تجارة السيارات في ظل النظام السابق وخاصة للجيل الناشئ والذي كان فيه المواطن يتحصر على سيارة، وعلى عكس النظام الحالي الذي يشهد فوضى عارمة في مجال تجارة السيارات بشكل عشوائي دون ضوابط اقتصادية وفنية محددة والتركيز على الوارد المادي لهذه التجارة لا غير:-
1- السيارات الروسية: فولكَا - موسكوفج - لادا
2- السيارات الإيطالية: فيات (124-125-132)
3- السيارات الفرنسية: بيجو - رينو
4- السيارات البرازيلية: باسات
5- السيارات اليابانية: تويوتا (سوبر - كرونا - كرولا) - داتسن - ميسوبوتشي
6- السيارات الجيكوسلوفاكية: سكودا
7- السيارات الكندية: سلبرتي - أوزموبيل - ماليبو
8- السيارات المصرية: فيات نصر
9- السيارات البولونية: فيات بولسكي
10- استوردت الشركة العامة للسيارات في تسعينيات القرن الماضي سيارات (بروتون) وكانت ماليزية المنشأ.
اعتمدت على ذاكرتي في حصر السيارات التي كانت تستوردها الشركة العامة للسيارات وربما قد نسيت ذكر سيارة معينة واترك ذلك للقراء الأعزاء وذاكرتهم وأرى من الضروري أن أوضح بأن الحكومة العراقية كانت في كثير من الأحيان تستورد في صفقات خاصة أنواع من السيارات لصالح جهات معينة ومحددة: -
1- سيارات لكبار موظفي الحكومة العراقية وقيادة حزب البعث والدرجات الحزبية من عضو فرقة فما فوق وكانت هذه السيارات من أنواع مختلفة وحسب درجة ومكانة الشخص الذي تخصص له السيارة فكانت سيارات المرسيدس و B.M.W والسوبر والكرولا.
2- سيارات خصصت لضباط الجيش العراقي في المرحلة الأولى من نوع ماليبو وبعدها شملوا بسيارات السوبر أما نواب ضباط الجيش العراقي فقد شملوا بتوزيع سيارات المسيوبوتشي عليهم ومن الجدير بالذكر بأنه شاعت نكتة في ذلك الوقت مفادها هو أن كردياً ذهب الى اليابان وشاهد هناك أعداد كبيرة من سيارات المسيوبوتشي في شوارعها فما كان عليه إلا أن يردد ((أيباه اشكَد عدهم نائب ضابط)) وبالمناسبة كان الأكراد مستهدفون في هذا المجال وجاء بعدهم أخواننا الدليم في هذا الاستهداف ولا أدري من هم المستهدفون في الوقت الحال بالنكتة السياسية والاجتماعية في العراق.
3- سيارات لأصحاب ذوي الكفاءات وهم العراقيون الذين يحصلون على شهادات عليا في مختلف الاختصاصات خارج العراق حيث كان يحق لهم جلب سيارة خاصة معهم عند عودتهم إلى العراق.
ما دمنا نتحدث عن تجارة السيارات في ظل النظام السابق فإننا نستطيع القول بأن العلاقات السياسية والاقتصادية بين العراق والدول الأخرى المصنعة للسيارات كان له الدور الذي لا يستهان به في مجال تجارة السيارات.
اعتذر من السادة القراء لأن التطرق إلى سيارة الملازم في مقالنا هذا جرني للحديث عن السيارات وكيفية استيرادها في ظل النظام السابق وكما يقول المثل العراقي (حچي يجر حچي) والآن نترك الحديث في مجال الجد وننتقل لقراءة هذه الحكاية الطريفة للترفيه عن تفكير المواطن المتعب من جراء الأخبار السيئة والوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتردي.
نعود لسرد حكاية الضابطين الذي بدأنا به مقالنا هذا ففي إحدى الليالي كان الاثنان يتجولان في شوارع بغداد وعند وصولهما إلى شارع النضال بالقرب من قيادة القوة الجوية والمسرح الوطني شاهدا فتاة ليل جميلة واقفة على الرصيف وكان ذلك المكان يعج بهن في ساعات الليل في ذلك الوقت ولا أدري سبب وقوفهن في ذلك المكان وكيفية السماح لهن من قبل حرس القيادة المذكورة.
أثارهما شكلها وتوقفا بالقرب منها وبعد الاتفاق معها استقلت السيارة معهما وفي الطريق استفسرا منها عن المكان الذي يمكنهما الذهاب إليه وقضاء الوقت فيه... فوجئت بهذا الاستفسار وتعجبت منهما قائلة: ((كيف اتفقتم معي وأنتم لا تملكون مكاناً لقضاء الوقت فيه))
أجابها: ((أتينا اليوم من كركوك ولم نتخذ الاستعدادات لهذا اللقاء))
فأشارت عليهما بالتوجه إلى أحد أزقة الكرادة لعدم وجود غير هذا الحل، توجها إلى المنطقة المشار إليها على ضوء إرشاداتها لهم إلى أن وصلا إلى زقاق معين فأشارت عليهما بالتوقف فيه.
كان الوقت ليلاً والظلام مخيم على الزقاق والهدوء يسود فيه إلا أن سوء حظهما جعل ساكن الدار التي أوقفوا سيارتهم امامها يلاحظ حركة غير طبيعية أمام داره من خلال النظر من شباك الغرفة المطلة على الزقاق حيث لاحظ حركات مريبة من رجلين وامرأة... اتصل على الفور بشرطة النجدة وجيرانه من ساكني الزقاق ... ما هي إلا دقائق معدودة مضت إذ دخلت سيارتي نجدة للزقاق المذكور بكامل الاستعداد من صافرة إنذار والاشارات الضوئية المتحركة فوقها وتوقفت بجانب سيارة المذكورين وترجل من سيارة النجدة المفوض آمر الدورية ومعه عدد من أفراد الشرطة وبالتزامن مع وصول دورية النجدة خرج ساكنو الزقاق جميعاً من الرجال والنساء والأطفال... يا له من موقف صعب لا يتمناه الإنسان لعدوه.
اختلط الكلام ... المفوض مع صراخ ساكني الزقاق بتوجيه اللوم والتقريع والإهانة للمذكورين: ((ما تستحون شوفوا طولكم وأنت شوف شيبات رأسك... ما لكَيتو غير هذا المكان بين العوائل))
الملازم تمالك نفسه وسيطر على أعصابه واقترب من المفوض ماسكاً يده وهو يعصرها وهامساً في أذنه: ((أخويه تصرف وخلصنا من هاي الورطة ... أني ملازم شرطة والأخ رائد شرطة))
عندها رد عليه المفوض بصوت غير مسموع من الآخرين جراء كثرة الأصوات الصادرة من ساكني الزقاق والأزقة الأخرى الذين تجمعوا في المكان: ((فهم صاحبك الرائد... شما أكَول لا تعترضون))
وبعدها أخذ يصرخ المفوض: ((يلا سرسرية كَدامي شوفوا شراح أسوي بيكم الليلة))
استقلا السيارات وكانت سيارة المذكورين في الوسط وبعد حركتهم من المكان تم توديعهم بالهلاهل والكلمات المهينة...
بعد خروج السيارات من المنطقة إلى منطقة أخرى بعيدة عن مسرح الفضيحة ... توقف آمر الدورية ونزل من سيارة النجدة واتجه نحو المذكورين الجالسين داخل سيارتهم مخاطباً إياهم: ((سيدي قبل كل شيء اعتذر منكم عن ما بدر مني من تصرفات مسيئة تجاهكم بالدربونة ولكن ما باليد حيلة هي الوسيلة الوحيدة لتخليصكم من هذي الورطة ... بعدين سيدي مو عيب خليتوا نفسكم بهيجي موقف صعب))
جاوبه الرائد: ((والله ابني- هذي البنية دلتنا على هذا المكان))
ثم التفت إلى الفتاة وهو يصرخ في وجهها: ((يلا لج إنزلي ولي))
وعندها خاطبه الرائد: ((عيني وين تولي... الاحسان بالتمام... دلينا على مكان نكمل سهرتنا بيه))
فأشار عليهما بمتابعته إلى أن أوصلهما إلى شارع القناة وتركهما يكملان سهرتهم فربما تنسيهم ما وقعوا فيه من موقف لا يمكن أن ينسوه طيلة حياتهم.
1239 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع