نزار جاف
من أوراق العمر..أستاذان(٢ـ ٣)
في مدينة السعدية التي هي بالاساس مدينة صغيرة وکانت تمثل لي الامتداد والتواصل والجذور، خصوصا عندما کنت أمر بالجامع الکبير حيث بناه جدي وفيه يرقد آبائي وأجدادي، أو عندما کان العديد من المسنين يستوقفونني ويسألونني عن إسم أبي، وکانوا يٶکدون وهم يجرون حسرة عميقة بإنني أشبهه تماما، وهو ماکانت تٶکده المرحومة والدتي وأکده المغفور له عمي والکثير من أقربائي، وجر تلك الحسرة کانت من حقيقة أن والدي کان صاحب أملاك شاسعة بالمعنى الحرفي للکلمة تمتد مابين قضاء دربنديخان وصولا الى ناحية السعدية ورثها عن جدي الذي لاأدري لحد الان لماذا جعل معظمها لأبي ولم يعط إلا بعضا منها لعمي وعمتي، مع إن لتلك الاملاك قصة کانت معروفة في أوساط عشيرة ال"بکزادة"، أي شيوخ عشائر الجاف والتي أنتمي لها.
الوالد جمال الجاف (الأول من اليمين) وحسن الجاف
تلك الاملاك الواسعة التي کانت عبارة عن أراضي زراعية وبساتين، لفتت نظر العائلة المالکة العراقية، حيث وکما روت لي والدتي"التي نقلت هي الاخرى ماکان والدي قد أخبرها" بعث الملك فيصل الاول في طلب والدي، فقال لوالدي"باللغة الترکية":
جمال بك أنت تملك أملاکا أکثر مني کملك للعراق، وأريد منك إما أن تشتري أملاکي أو تبيعني أملاکك؟ .
وتقول والدتي بأن والدي علم بأنه يقف أمام ملك طامع في أملاکه ولذلك فقد حدد سعرا للأملاك فأجابه الملك فيصل الاول وهو يلمح لرفضه لذلك السعر:
غازي مظلوم!
وهو يشير الى الامير غازي الذي صار فيما بعد ملکا للعراق، عندما قال والدي: إذن فلتکن هدية لغازي! وخرج أبي من عند الملك وهو لم يشرب إلا فنجان قهوة کلفه کما تقول والدتي معظم الاراضي الزراعية الشاسعة التي کان يملکها!
رويت هذه الحادثة لأنها ترکت أثرها في نفسي الى أبعد حد ولازالت ترافقني حتى رحيلي عن هذه الدنيا، ذلك إنها علمتني عزة النفس والاعتداد والثقة بها، وفي السعدية حيث کان النظرات تصوب دائما إلي وکإنها ترى المظلومية تتجسد في شخصي ولاسيما وإنني شبيه أبي، جعلتني أعيش في هذه الحادثة التي روتها لي والدتي أيام کنا في بغداد والسليمانية، فجاءت الاقدار بنا الى المدينة التي إنطلق منها والدي ليلاقي ملك العراق ويغير من مسار حياته وحياة أبنائه وأحفاده بزاوية مقدارها 360 درجة.
لم يمض الوقت طويلا بالاستاذ ثابت الذي کان مدرسا للغة العربية لصفنا"الاول المتوسط"، حتى فوجئنا ذات يوم بأن يدخل الاستاذ عبدالرزاق الصف برفقة المدير لخبرنا الاخير بأن الاستاذ عبدالرزاق قد صار مدرسا لنا من الان فصاعدا، وقد فرح طلاب الصف کلهم بذلك ولکنني کنت الاکثر فرحا من بينهم خصوصا وإنه رمقني بنظرة ودودة وهو يخبرنا بذلك. والحق فإننا شعرنا بالفرق الکبير جدا بين تدريسه وتدريس الاستاذ ثابت خصوصا عندما کان يشفع دائما تدريسه بأبيات شعرية أو أمثال وحکم وقصص قصيرة ومآثر أدبية وتأريخية، والحق إن درسه کان ممتعا بحيث کنت أحيانا أتصور وکأنني أمام حلقة تلفزيونية أو مشهد مسرحي ممتع أو أوراق من کتاب موضوعه شيق.
ليس المهم ماتقرأه وإما الذي يجب أن تقرأه! هکذا کانت أول نصيحة من الاستاذ عبدالرزاق لي عندما رأى بأنني أقرأ کالنار التي تلتهم کل شئ أمامها، إذ نبهني الى إن عملية الاختيار في القراءة والمطالعة هي المهم وقد کان له الفضل بأن نبهني الى ضرورة أن أطالع الکتب التي تصقل ثقافة الانسان وتعمق من فهمه وإستيعابه للذات والموضوع معا! وحتى إنني قلت له مستغربا ذات مرة:
کيف نعمق من فهمنا وإستيعابنا لذاتنا؟.
فقال مالا أنساه أبدا:(ذاتنا أکبر من الکون کله لأنه ومن دون معرفتها فإننا سنصبح مثل حجارة أو ذرة تراب ما لاتأثير لها)!
کانت درجة الانشاء التي تمنح للطلاب وقتها 30، وکان الاستاذ عبدالرزاق يمنحني دائما 29 من ثلاثين، وذات مرة سأله تلميذ آخر في الصف عن السبب في عدم منحي 30 من ثلاثين، فضحك وهو يقول لايوجد في الانشاء 30 مثلما لايوجد في درس لعربية بصورة عامة 100 من 100! لکن الذي أذهلني وأذهل الطلاب إنه منحني ذات يوم 30 من 30، حيث کان الموضوع المختار للکتابة عنه (العيون والبحر)، فکتبت إنشاءا أتحدث فيه عن فتاة تقف على شاطئ بحر وهي ترنو بنظرها بعيدا باحثة عن حبيب فقدته ذات يوم بين أمواجه، حيث لازلت أتذکر لحد الان کم کانت الفرحة طاغية على وجهه وهو يقرأ موضوعي للصف کله، وعندما إنتهى هتف قائلا: أخبرتکم بأنه لاتوجد درجة 20 في الانشاء ولکنني اليوم سأحطم هذه القاعدة وأمنح نزار هذه الدرجة!
تأثير الاستاذ عبدالرزاق کان کبيرا خصوصا وإنني کنت أسأله دائما في الکتب التي أهم بقراءتها وکان حکمه بالنسبة لي هو الاساس وأعمل في ضوئه وبقيت على هذا النهج حتى صار الاستاذ محمد حسين آل ياسين مدرسا لنا، وفجأة وعلى حين غرة، جاء ذلك اليوم الذي ذهب فيه الاستاذ عبدالرزاق ولم يعد، يومها کنت في الصف الثاني المتوسط، وکانت صدمة لي عدم عودته والاکثر إيلاما من ذلك عدم معرفتي بالسبب الکامن وراء إختفائه المفاجئ هذا وللحديث صلة.
للراغبين الأطلاع على الجزء الأول:
https://algardenia.com/maqalat/38372-2018-12-25-16-21-08.html
2186 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع