بقلم المحامي المستشار
محي الدين محمد يونس
العظيم ... والمذاق الأول
تقع ناحية العظيم في منتصف المسافة بين العاصمة بغداد ومحافظة كركوك وتعد من أشهر وأبرز المناطق الزراعية المنتجة لمحاصيل الرقي على مستوى محافظة ديالى والعراق بشكل عام وحديثي عنها يرتبط بأول لقاء لي مع (المسكرات) حيث تخرجت في عام 1969 من كلية الشرطة ومنحت رتبة ملازم ونسبت إلى الفوج العاشر من وحدات آمريه قوة الشرطة السيارة وكان موقع الفوج يقع في منطقة (شيوه سور) الواقعة في منتصف الطريق بين محافظة كركوك وقضاء كويسنجق وكان معظم ضباط الفوج من المتخرجين حديثاً وبرتبة ملازم حيث كانت التعليمات المتبعة في ذلك الوقت تقضي بخدمة الضباط الأحداث في الآمرية المذكورة لمدة سنة أو سنتين أو ثلاثة عند التخرج لأول مرة ومن ثم ينقلون إلى مختلف دوائر قوى الأمن الداخلي في العراق وهم من سكنة العاصمة بغداد وأنا واحد منهم وحسب التعليمات كنا نقضي واحد وعشرون يوماً في الدوام ونمنح بعد ذلك إجازة لمدة سبعة أيام عدا يومي الطريق في الذهاب والاياب وكانت تسمى بالعرف العسكري بالإجازة الدورية.
في إحدى هذه الإجازات وكان عددنا ثمانية ضباط يرافقنا مساعد آمر الفوج والذي كان برتبة رائد، وبعد إيصالنا بسيارة الفوج والتي كانت عبارة عن سيارة لوري شيفرولية مسقوفة وفيها مساطب على الجانبين لغرض الجلوس حيث لم تكن آنذاك دوائر الدولة تمتلك السيارات بمثل ما هو عليه الحال في دوائر الدولة الآن من حيث النوع والعدد.
وعند وصولنا إلى كراج نقليات كركوك استأجرنا سيارة من نوع مرسيدس 18 راكب وكانت كثيرة الاستعمال في ذلك الوقت وصلنا إلى ناحية العظيم وكان فيها مطعم ودار استراحة يعود إلى هيئة السياحة الحكومية وكانت مرفقا على درجة عالية من التنظيم والرعاية والخدمات ولم يكن يرتادها إلا ميسوري الحال لارتفاع الأسعار فيه وانصراف الغالبية من المسافرين الآخرين إلى المطاعم الشعبية الأخرى في الناحية...
وبعد دخولنا إلى المطعم المذكور وجلوسنا خاطبنا مساعد آمر الفوج قائلاً: ((شتكَولون لو نشربلنا شي عالسريع))
وبعد أن كانت إجابات الضباط بالإيجاب نادى على نادل المطعم مخاطباً إياه: ((شوف الشباب شيشربون جيبلنا مشروب)) وعند استفساره منا وكنت جالساً بجانب مساعد آمر الفوج والذي أجابه: ((أني جيبلي ربع ويسكي)).
والتفت نحوي بعد ذلك فأجبته على الفور مقلداً الذي قبلي: ((أني هم ربع ويسكي)) ولم أكن قد شربت أي نوع من المشروبات الروحية لحد تلك اللحظة من حياتي وكنت أجهل أنواعها ومواصفاتها ولم يمضي على تخرجي وتعييني في الوظيفة سوى أربعة أشهر، وربما كان البعض من زملائي الجالسين معي تنطبق عليهم نفس مواصفاتي ولكن قصر فترة الاختلاط معهم وتباعد محلات اشتغالنا تحول دون معرفة ذلك...
استمر النادل في تسجيل طلبات الضباط الآخرين إضافة إلى بعض أنواع المقبلات التي حددها (المساعد له) ... بعد دقائق عاد النادل وهو يحمل طبقاً كبيراً يحوي على كل الطلبات وبعد أن وضعها فوق المنضدة موزعاً إياها على ضوء طلب كل واحد منا.
بدأ الجميع في تعمير كؤوسهم (كلمة تستعمل في هكذا مناسبات) وكنت أتابعهم مقلداً ما يفعله (المساعد) الذي فتح قنينة الويسكي وصب كمية منها في القدح وأردف ذلك بوضع بعض القطع من الثلج وعندما تقدم النادل منه وهو يحمل (دولكه الماء) محاولاً إضافة الماء إلى القدح نهره قائلاً: ((ما أريد مي)).
وعند تحويله (دولكه الماء) نحو قدحي رفضت ذلك قائلاً: ((أني هم ما أريد مي)).
وبعد إتمام الجميع تعمير كؤوسهم رفع المساعد كأسه وشاطره الجميع ذلك وهو يردد: ((يلا جيرس بصحة الجميع))، وكانت المفاجئة المرة القاسية بالنسبة لي عندما تجرعت محتويات الكأس بكامله ولم أشعر إلا ولهيب النار يجتاحني في لحظات الشرب كالزلزال يحرقني... يغرقني... يكسرني نصفين كالهلال... كما يقول مطربنا الشهير (كاظم الساهر) في أغنيته والتي كلماتها من شعر الشاعر (نزار قباني) مع اختلاف مصدر الزلزال بين كلينا.
وضعت كأسي على المنضدة بعد أن أفرغت ما فيه في جوفي على عكس زملائي الجالسين معي حيث لاحظت أنهم تناولوا جرع صغيرة من مشروباتهم بدأت أفكر في تلك اللحظات بأمرين...
الأمر الأول: كيف يتجرع الإنسان تناول المشروبات الكحولية وهي بهذا المذاق المقرف؟ وما هي المبررات التي تدفعه لتناولها؟ وقد يجيبك أحدهم... (اشجابرك على المر غير الأمر منه).
الأمر الثاني: كيفية التخلص من ما تبقى في قنينة الويسكي؟
حيث انتظرت إلى أن أكمل الجميع شرب أقداحهم وتعميرها مرة أخرى وقمت بذلك أيضاً ولكنني كنت أتظاهر برفع القدح إلى فمي وأقوم بعد ذلك بسكبه على أرضية المكان وخاصة عند انشغال الجالسين بطرح النكات والضحك دون أن ينتبهوا إلى ما أفعله...
بعد الانتهاء من تناول الطعام والشراب عدنا إلى السيارة وفي طريق العودة... التفت نحوي المساعد مستفسراً: ((محي الدين – اشگد صارلك تشرب))
تفاجئت من هذا الاستفسار وحرت في كيفية الإجابة عليه: ((سيدي صارلي أربع خمس سنوات))
المساعد موجهاً كلامه للزملاء الأخرين: ((شوفوا سكرنا كلنا وهو ما بي شي)) دون أن يعلم بأنني قد أفرغت معظم محتويات القنينة على أرضية المكان الذي كنا جالسين فيه وتحت المنضدة التي كنا ملتفين حولها.
وبينما أنا عازم على ختام مقالتي هذه حول مدينة العظيم والمسكرات وإذا بذاكرتي تفاجئني بنداء طالبة مني التريث وتنبهني إلى ضرورة استكمال الحديث في أمرين:-
أولهما: ما آل إليه الوضع الأمني والاقتصادي لمنطقة العظيم بعد سقوط النظام السابق في عام 2003 حيث أصبحت ميداناً مفتوحاً للصراع العسكري بين الجيش العراقي والقوات الأمنية من جهة والمنظمات الإرهابية المختلفة وأخرها جماعة داعش, وكان من نتائج هذا الوضع فقدان الأمان على هذا الطريق الحيوي والاستراتيجي الرابط بين محافظات أربيل والسليمانية وكركوك والعاصمة بغداد, وانعكاس ذلك سلباً على انسيابية تنقل الناس والبضائع وتوقف المصالح في كثير من الأحيان وتوج الوضع المأساوي لمنطقة العظيم والمناطق المجاورة لها باحتلالها من قبل عصابات داعش الإرهابية ونزوح معظم ساكنيها منها إلى المحافظات الأخرى وتوقف النشاط الاقتصادي والزراعي فيها.
تم تعييني في وزارة الداخلية العراقية في شهر شباط من عام 2004 بمنصب وكيل مساعد لشؤون إقليم كردستان وكان الخوف ينتابني عندما كنت استعمل هذا الطريق في تنقلاتي بين محل اقامتي وسكني محافظة أربيل ومحل اشتغالي بغداد لكثرة حوادث القتل والسلب فيه وكنت أشعر بالراحة النسبية عند تجاوزي لهذه المنطقة في الذهاب والإياب.
ثانيهما: تذكرت استفساراً وجهه لنا الدكتور (محمد شلال حبيب) نحن الطلاب الدارسين في المعهد العالي لضباط قوى الأمن الداخلي في بغداد عام 1985 ومفاده إقبال الكثير من المسلمين على تناول المشروبات الكحولية وامتناع معظمهم إن لم نقل الجميع منهم في تناول لحم الخنزير بالرغم من تحريم تناولهما على المسلمين وحسب الشريعة الإسلامية السمحاء.
تعددت الإجابة من قبل الدارسين وكانت إجابتي السبب في ذلك يعود إلى كون لحم الخنزير توجد له بدائل كثيرة من لحوم الحيوانات والطيور والاسماك، في حين لا يوجد بديل للمشروبات الروحية (المسكره) وقطعية التحريم فيما يخص لحم الخنزير ووجود آراء وفتاوى شرعية عديدة من قبل علماء المسلمين في تحريم المشروبات الروحية...
أتيت على نهاية مقالي والذي سردت فيه حكاية حصلت معي في مقتبل حياتي الوظيفية في عام 1969 مع هذا المشروب اللعين ... أرجو أن تكون قد راقت لكم وأدخلت السرور إلى نفوسكم الطيبة.
756 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع