بقلم لهب عطا عبد الوهاب، اقتصادي عراقي
أحداث مايس ١٩٤١ تحت المجهر، وقفة للتأمل والمراجعة
مرت قبل أيام الذكرى السادسة والسبعون لأحداث مايس ١٩٤١ المعروفة بحركة رشيد عالي الكيلاني، حيث تمكن رهط من الضباط المغامرين، العقداء الأربعة والمشار اليهم كذلك بـ “المربع الذهبي” وهم صلاح الدين الصباغ، فهمي سعيد، محمد سلمان وكامل شبيب، من إسقاط الحكومة الشرعية التي كان يرأسها الفريق طه الهاشمي وإجبار أعضائها وأركان النظام على الهروب إلى البصرة (الأمير عبدالاله، نوري السعيد، جميل المدفعي ...الخ) وإعلان ما يعرف بـ “حكومة الإنقاذ الوطني” برئاسة الكيلاني . وكانت من أولى الخطوات التي اتخذتها دعوة مجلس الأمة (البرلمان) للانعقاد، حيث صوت المجلس بالإجماع على إقالة الوصي على العرش وتنصيب الشريف شرف (والد رئيس الوزراء الأردني لاحقا الشريف عبد الحميد شرف المتوفي عام ١٩٨٠) وصيا على العرش مكانه.
لاقت الحركة الوطنية قبولا شعبيا عارما باعتبارها حركة مناوئة للإنكليز دون إدراك لتداعياتها الخطيرة.
كانت أتون الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩ ـ ١٩٤٥) ما تزال أوارها مشتعلة على كافة جبهات القتال. انحاز زعماء الحركة لألمانيا الهتلرية ـ دول المحور ـ في ظنهم أن ألمانيا النازية التي دغدغت مشاعر العرب بإعلانها الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني في مطالبه المشروعة بوطن بعد استقبالها بحفاوة بالغة لمفتي القدس الشيخ أمين الحسيني ـ وهو لاعب فاعل في حركة الكيلاني ـ هي في طريقها لتحقيق النصر المؤزر على “الحلفاء” بعد ان غزت ألمانيا روسيا في حزيران ١٩٤١.
إلا أن حسابات “الحقل” لم تتطابق مع حسابات “البيدر” بانتصار الحلفاء الكاسح في نهاية المطاف.
كانت الحركة الوطنية تعترض بشدة على أحد بنود المعاهدة العراقية ـ البريطانية لعام 1930 والتي تسمح بمرور القطعات العسكرية البريطانية عبر أراضيها في طريقها إلى الهند. استشاط الإنكليز غضبا لذلك وقاموا باحتلال البلاد من جديد ـ معركة سن الذبان ـ ودك الطيران الحربي البريطاني العاصمة بغداد بعد أن كان العراق قد تمكن بجهود رجاله من الرعيل الأول ـ الملك فيصل الأول ـ من نيل استقلاله بعد انتهاء فترة الانتداب البريطاني وقبوله عضوا في عصبة الأمم عام ١٩٣٣.
انهارت حركة مايس بعد شهر من اندلاعها وهرب زعماؤها الى ايران. وقد ترافق مع انهيار الحركة يومي 2،1 حزيران/ يونيو عام 1941 اندلاع هيجان جماهيري واسع ، وصب الغوغاء منهم جام غضبهم على الاحياء اليهودية في بغداد ، حيث قتل أكثر من200 يهودي . كما تعرضت محلاتهم وبيوتهم السكنية الى عمليات نهب وسلب فيما اصبح يعرف قي التراث الشعبي البغدادي "الفرهود"
عاد الوصي، الأمير عبدالاله إلى البلاد بعد انهيار الحركة . القي القبض لاحقا على زعماء الحركة من الضباط وسيقوا إلى المحاكم العسكرية التي قضت بإعدامهم.
أعلنت الأحكام العرفية في البلاد لحين وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وتشكيل حكومة توفيق السويدي عام ١٩٤٦ التي أخذت على عاتقها صيانة الحريات العامة والاحتكام إلى المواد الدستورية (القانون الأساسي)
جاء إعدام "العقداء الأربعة" نذير شؤم ليدق أول اسفين في نعش النظام إذ تسببت في خلق نقمة كبيرة بين صفوف ضباط الجيش (الضباط الأحرار لاحقا) ليبلغ الاستياء أوجه صبيحة ١٤ تموز ١٩٥٨, حين أطيح بالعائلة المالكة في مجزرة قصر الرحاب إيذانا بولادة النظام الجمهوري.
هناك من يُحمّل الأمير عبدالاله المسؤولية لما آلت إليه الأمور، لا سيما في قسوة تعامله مع ضباط الحركة، خلافا للنهج الذي سار عليه العاهل الأردني الملك الراحل حسين بن طلال لاحقاً في تعامله مع المتآمرين (حركة ابو نوار الفاشلة) اذ بعد أن حكم عليهم بالإعدام خففت أحكامهم ليتم إطلاق سراحهم لاحقا ولينقلبوا إلى اشد المدافعين عن النظام الملكي الهاشمي.
إن اتهام الأمير عبدالاله بـ "اللؤم" كما ينعته خصومه هو تعميم فضفاض، يحدثنا الاستاذ عطا عبد الوهاب، السكرتير الخاص للمغفور له الملك فيصل الثاني والأمير عبدالاله (انظر كتابه الموسوم: الأمير عبدالاله، صورة قلمية، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمان ٢٠١٧) عن لقاء جمعه بالأمير عبدالاله في واشنطن عام ١٩٥٢ ـ أثناء الزيارة الرسمية للملك والأمير إلى الولايات المتحدة ـ إذ سأله الأمير ـ كان عطا عبد الوهاب يعمل في حينه في المندوبية الدائمة للعراق في الأمم المتحدة ـ كيف تنظرون لي انتم الشباب؟ فأجابه "نحن الشباب نعتبرك لئيما! فاعتدل الأمير في مجلسه مجيبا: أنا لئيم؟ كيف هذا وانا أعدت للخدمة العديد من رجال رشيد عالي الكيلاني ـ موسى الشابندر(وزير خارجية الكيلاني الذي عين سفيرا في أمريكا) علي محمود الشيخ علي , ومحمد علي محمود ومحمد حسن سلمان. حرام عليكم يا معشر الشباب!
لم يكن النظام الملكي الذي دام ٣٧ عاما (١٩٢١ – ١٩٥٨) مثاليا، بيد انه كان يحمل في طياته نواة لنهضة اقتصادية ـ اتفاقية مناصفة الأرباح مع شركات النفط الاحتكارية ـ ونهضة عمرانية ـ مجلس الإعمار ـ ونهضة علمية (نظام البعثات للخارج دون النظر إلى الخلفية الطائفية أو الأثنية أو القومية للمتقدم)، يعززه نظام مؤسسي مع استقلال القضاء المشهود له بالنزاهة، وينظر إليه اليوم، أي النظام الملكي بعد الويلات التي حلت بالبلاد بانه كان "العصر الذهبي" والأقل سوءا.
درس في التاريخ علنا نتعظ من عبره.
1161 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع