قصة قصيرة - الرقيق الابيض (الجزء الاول)

                                            

                        بقلم أحمد فخري

قصة قصيرة -الرقيق الابيض (الجزء الاول)

جلس بلال امام الكومبيوتر ببيته بكوبنهانكن يبحث عن رسالة الكترونية سبق وان وصلت اليه من دائرة حكومية ورد فيها ان المساعدات المالية التي تمنحها له البلدية قد توقفت وهو متأكد من ان خطأ ما قد وقع، لذلك قرر ان يطبع نسخة من الرسالة ويأخذها الى المكتبة العمومية كي يطّلع عليها المحامون المتطوعون هناك والذين يتواجدون مرة بالاسبوع. فهو يعلم ان بدون هذه الرسالة فانه سوف لن يتمكن من اقناع المحامين كي يساعدوه على ارجاع هذه المساعدات لأنه مازال طالباً ولديه سنتان اضافيتان قبل ان يتخرج من الجامعة. وبينما هو منهمك بالبحث عنها سمع جرس الباب يقرع باصرار فقفز مسرعاً كي يفتحه واذا بصديقه المقرب چالاك يقول،

- صباح الخير بلال، كيف حالك حبيبي؟ لقد اشتقت اليك فاتيت لازورك.
- صباح الخير كاكا چالاك. لم ارك منذ مدة، اين انت ولماذا لا تتصل بي هذه الايام؟ حتماً عثرت على صديقة جديدة كعادتك، اليس كذلك؟ "من لكا احبابا نسا صحابا" تفضل، تفضل ادخل فلدي الكثير من العتاب.
- كنت ماراً من هنا فقررت زيارتك والوقوف على صحتك. فالبرد هنا بالدنمارك اصبح لا يطاق واغلب الناس مصابون بالانفلونزا هذه الايام. وكلا سيدي، انت اعز من مليون صديقة عندي. هل انت بخير؟
- نعم انا بخير والحمد لله، لكني لا اخرج من البيت كثيراً، فانا اقضي معظم اوقاتي في الدراسة وكما تعلم انا وحيد واغلب عائلتي مازالت بالعراق. قل لي الآن، هل ترغب بشاي ام قهوة؟
- انت تعرفني يا بلبل لا اشرب سوى الشاي الثقيل.
- حسناً ساعمل لك قهوة إذاً، هاهاها، كنت امازحك... ساعمل لك احلى شاي انتضر قليلاً.
- هل اتسمح لي ان استعمل حاسوبك؟
- بكل تأكيد، تفضل.
جلس چالاك امام الحاسوب وصار يحرك الفارة ويتفحص صفحات الانترنيت. هناك صاح باعلى صوته،
- ما هذا يا بلبل؟ اليس لديك كامرا لحاسوبك؟ هذه جريمة لا تغتفر. سابلغ عنك الهيئة العامة لحقوق الانسان.
- هذا صحيح فليس لدي القدرة على شراء كامرا حالياً. ربما ساشتريها بوقت لاحق.
- اسمع يا بلبل. عندي كامرا بالبيت ولا احتاجها ابداً. هل تريدها؟
- بالتأكيد، على الاقل استطيع رؤية اهلي عندما اتحدث معهم بالسكايپ.
- سأذهب الى بيتي بعد ان نشرب الشاي واحضر لك الكامرا.
- شكراً لك عزيزي چالاك انت حقاً صديق مخلص.
بعد ان شربا الشاي، خرج چالاك مسرعاً ثم عاد بعد ربع ساعة وبيده علبه صغيرة. حالما دخل الى شقة بلال فتح العلبة وأخرج منها الكامرا ثم ثبتها فوق شاشة الحاسوب وقام بربط الاسلاك. بعد ذلك اخرج قرصاً مدمجاً من العلبة ووضعه بمسوق القرص ثم نصّب برنامج الكامرا، صار يجربها وينظر الى صاحبه بلال ويقول،
- ان الكامرة جاهزة للاستعمال الآن. بامكانك مشاهدة من تتحدث معه من الآن فصاعداً. ليس ذلك فحسب فهناك برنامج مجاني بداخل القرص المدمج تتمكن من خلاله مشاهدة كامرات عمومية مركبة بعدة اماكن مشهورة ومختلفة حول العالم. انظر!
ضغط چالاك على ايقونة بالحاسوب ففتحت امامهم عشرات المناظر الحية لكامرات حول العالم.

   

صرخ بلال باعلى صوته وهو بقمة السعادة قائلاً،
- يا الهي كم هذا جميل. هل تعتقد ان جميع هذه المناظر حية وحقيقية؟
- بالتأكيد حقيقية وحية. انها كامرات عامة لعدة مناطق في العالم، لكنها مع الاسف صامتة.
- ولماذا لا يكتبون عليها اين نصبت هذه الكامرات؟
- لانها مواقع مشهورة جداً ولا تحتاج للتوضيح يا ذكي، فمثلاً هذا منظر ساحة الطرف الاغر بلندن، وهذا منظر قوس النصر بباريس وهذا منظر الكوليسيوم بروما وهذا منظر حديقة الهرستراو ببوخارست وهذا منظر تايم سكوير بنيويورك. كلها معالم مشهورة جداً ولا تحتاج للشرح، افهمت؟
- نعم، نعم اشكرك يا صديقي العزيز. انه حقاً عالم عجيب وغريب، فلقد فتح الانترنيت اعيننا على امور لم نكن نعرفها في السابق. كم ثمن هذه الكامرة؟ اخبرني فوراً؟
- لا تقل هذا يا صديقي، اغلق فمك، عيب عليك والله، انها هدية مني لك. فقط ارديك ان تسلم على الست الوالدة عندما تحاورها بالمرة القادمة على السكايپ، مفهوم؟
- مفهوم.
- ساتركك الآن. يجب عليّ العودة لعملي.
سار چالاك نحو الباب فودعه بلال ثم عاد الى الحاسوب وقد سحره ذلك المنظر العجيب، لانه نافذة على العالم باسره. يا الهي كم اصبح العالم صغيراُ بهذه التقنية الرائعة علماً ان هذه الكامرات تبث من مناطق مختلفة من ارجاء العالم بوضوح ودقة عالية جداً. فتح احدى هذه المناظر على كامل شاشته والتي تمثل الكامرا التي تطل على ساحة الطرف الاغر بلندن.

    

يا الهي ما اجمل هذا المنظر! انا جالس هنا بالدنمارك واراقب ساحة الطرف الاغر بلندن ايعقل هذا؟
كل هذه الحافلات الحمر التي تشتهر بها لندن. انظر، انظر، ماذا ارى! انها سيدة تدفع عربة لطفلها الصغير والطفل يأكل شيئاً، آه انه يأكل المثلجات. الله الله يا مسكين لقد سقطت المثلجات على ملابسه، ها هي امه تنظف ملابسه وتوبخه. والآن هي تدفع العربة وتخرج من اقصى يسار الصورة.
اغلق بلال هذا المنظر ثم فتح منظراً آخر على كامل الشاشة وصار يتفحصه ثم اغلقه ثانية وفتح منظر آخر ثم آخر ثم آخر وصار يستمتع بتلك المناظر الحية بمختلف المواقع بالعالم حتى فتح احدى المناظر التي تعرف عليها بشكل لا يقبل الشك. انه منظر شارع التسوق الرئيسي بكوبنهاكن والذي يعرف بشارع المشي. هذا الشارع يبعد مسافة عشرون دقيقة فقط سيراً على الاقدام عن شقته. قرر ان يواصل متابعة هذا المنظر عله يشاهد احد اصدقائه فيتصل به لاحقاً ويفاجئه بان يقول له مثلاً: لماذا كنت بشارع المشي اليوم بدلاً من أن تذهب لعملك؟ ستكون له مفاجئة حقاً.

   

استمر بلال يراقب طوال الصباح وبعد الظهر حتى قرب المساء وصارت حركة الناس تقل كثيراً ثم ما لبث ان توقف الناس عن الظهور على الشاشة. صار الظلام يخيم على المكان وبدأت المصابيح تظيئ الشارع والكامرا مازالت تعمل بكل وضوح وكفائة. الشارع اصبح خالياً من المارة تماماً الا لبعض سيارات التنظيف والصيانة وبعض سيارات نقل البضائع وهي تفرغ بضائعها في المخازن. ثم ابتدأت هذه السيارات تتناقص شيئاً فشيئاً. لكن بلال بقي مصراً ولم يغير الصورة، هناك شيء محير جداً شده الى هذا المنظر ربما لانه يعرف المكان بشكل جيد أو ربما لانه سبق وان مر به سيراً على الاقدام لعدة مرات. وبعد ساعة كاملة من خلو الشارع من المارة قرر بلال غلق المنظر والبرنامج كله والالتفات الى دروسه، فمسك بالفارة ووجه سهم الفارة على زر الغالق الاحمر، لكنه قبل ان يضغط عليه شاهد امرأة سمراء تسير وحدها ترتدي قميصاً ابيضاً وسروال جينز وهي عارية الكتفين تسير في الشارع. كان الخوف بادياً عليها بشكل واضح لانها كانت تنظر ورائها بشكل متقطع، مما دفع بلال على العدول عن غلق المنظر. اثاره الفضول واراد ان يعرف ما ستفعله تلك المرأة وما سر خوفها! توقفت المرأة عن السير، وقفت واشعلت سيجارة بالقرب من باب احد المتاجر المغلقة فتوجه نحوها رجل طويل القامة يرتدي سروال جينز ومعطف ابيض لكنها لم ترآه باول وهلة. وحينما شاهدته يسير نحوها وتعرفت على ملامحه رمت السيجارة على الارض وهربت منه بالاتجاه المعاكس، صار الرجل يطاردها لكن المسافة بينهما كانت كبيرة. ضلا يركضان حتى اختفيا عن الشاشة. "يا الهي ماذا اعمل يا بلال فكر؟ كيف استطيع مساعدتها؟ وماذا بامكاني فعله وانا جالس هنا ببيتي امام حاسوبي ولا حيلة لي؟ هل اخبر الشرطة بما رأيت؟ لكن ربما كان الامر لا يعني شيء وكان الرجل يجري وراء زوجته وكانا يلهوان ويلعبان، فالمنظر ليس به صوت وقد يكونان يضحكان ويقهقهان عالياً فكيف سيكون موقفي؟ ماذا ساقول للشرطة وقتها؟
ضل بلال متردداً وبحيرة من امره يراقب صورة الشارع الخالي من المارة حتى شاهد السيدة نفسها تعود مرة ثانية وهي تركض بهلع كبير باتجاه شاشته هذه المرة وكأنها خائفة على حياتها. وعندما اصبحت قاب قوسين او ادنى من كامرا المراقبة توقفت ونظرت مباشرة نحوه، ظهر الرجل من خلفها وبيده خنجر متوسط الحجم، لكنها لم تسمع خطواته ابداً كانت تحدق بالكامرا وكأنها تستنجد بمن ينظر اليها. صار بلال يصرخ ويقول "انتبهي خلفك، انه خلفك، وبيده سكين انتبهي، انتبهي" لكنها لم تسمعه. دنا الرجل منها ومسك برقبتها من الخلف بيده القوية ثم بسرعة وخفة متناهية وبيد خفيفة متمرسة غرس خنجراً بخصرها وبيده الثانية اغلق فمها كي لا تصرخ. ثم اخرج الخنجر من خصرها على عجل وغرسه ثانية برقبتها هذه المرة، فارداها قتيلة. وبهذه اللحظة قام بلال باخذ صورة لشاشته.

    

سقطت المرأة على الارض فاصيب بلال بالرعب وصار يرتعش. سحب هاتفه النقال وهم بطلب الشرطة الا ان شيئاً ما منعه من ذلك. القاتل توجه نحوه وصار يبحلق بالكامرا وكأنه ينظر الى بلال. بلال تسمر بمكانه وهو ينظر الى القاتل.

   

سقط الهاتف من يده من شدة الخوف فعاد والتقطه من الارض ونظر الى القاتل على الشاشة، كانت الصورة تملأ الشاشة باكملها. قام بلال على جناح السرعة بالتقاط صورة ثانية من حاسوبه ثم ابتعد قليلاً عن الحاسوب وهو يرتعد من الخوف. وبدلاً من ان يتصل بالشرطة قام بالاتصال بصديقه چالاك وقال له،
- چالاك، چالاك، اريد ان اسألك سؤالاً مهماً وخطيراً جداً. ارجوك يا چالاك ارجوك.
- ما الامر يا بلبل؟ تمهل قليلاً هل انت بخير؟ هل اصابك مكروه؟ اخبرني!
- اردت ان اسألك عن تلك الكامرات الموجودة حول العالم. إذا كنت اراقب احدى هذه المناظر مثلاً فهل يستطيع احد من هناك ان يشاهدني؟
- طبعاً لا. لماذا؟
- لقد كنت شاهداً على جريمة قتل وقعت امامي في احدى الكامرات المثبتة على شارع المشي هنا بكوبنهاكن.
- انت تمزح اليس كذلك؟ قل لي بانك تمزح يا محتال! انا لا اصدقك.
- اقسم لك يا چالاك اني لا امزح. لقد شاهدت رجلاً يطعن سيدة شابة امام عيني بشكل واضح جداً لا يقبل الشك.
وبينما كان بلال يشرح لصديقه چالاك عن تفاصيل الجريمة رأى القاتل يهرب باتجاه اليمين من الشاشة. هنا قال لچالاك،
- ساغلق معك الهاتف الآن عليّ ان اتصل بالشرطة وابلّغ عن الجريمة.
- ضحك چالاك على صديقه بلال بعد ان اغلق الهاتف وقال، "هذا الولد لديه مخيلة واسعة. يجب ان يتوقف عن متابعة افلام الجريمة. انه يتخيل اموراً عجيبة. هاهاها"
اما بلال فبعد ان اغلق الخط مع صاحبه چالاك، شاهد على شاشته سيارة الشرطة وهي تصل الى مسرح الجريمة خرج منها رجال شرطة قاموا بتطويق المكان بالشرائط الصفراء ثم تبعتها سيارة ثانية وثالثة حتى عج المكان كله بسيارات الشرطة. تجمهر جمع غفير من الناس كي يتابعوا ما حصل من باب الفضول. وبلال ينظر الى كل ذلك من خلال حاسوبه.


    

أخذ بلال الصورتين التي التقطهما للقاتل من شاشة حاسوبه وقام بطبعهما على ورقة ثم قام بتخزينهما في غيمة على الانترنيت. قام ولبس معطفه وانطلق للخارج. استقل حافلة متجهة نحو المنطقة التي وقعت فيها الجريمة، وعندما وصل هناك نزل من الحافلة وسار نحو شارع المشي. رأى الناس متجمهرين وهم يحجبون المنظر فقام يدفع الناس يمين شمال حتى وصل الى الموقع الامامي. وبدأ يتفحص كل شيء من حوله فرأى القتيلة على الارض وقد احاطتها بحيرة من الدم. المنظر كان مروعاً. الشرطة كانت تحوم حول القتيلة وفريق فني كبير يرتدي بدلات بيضاء يمشطون المنطقة بحثاً عن الادلة.

    

تفحص بلال وجوه المتجمهرين في الموقع لكنه صعق مما رأى. "يا الهي انه القاتل يقف بين المتجمهرين بمسافة بضعة امتار عني". اراد بلال ان يتأكد من انه هو القاتل فعلاً فاخرج احدى الورقتين من جيبه والتي طبع عليها صورة القاتل وصار يحدق بها ثم ينظر الى الرجل الواقف امامه وإذا بالقاتل يلاحظ بلال وهو يقارن بينه وبين الصورة التي بيده فتوجه نحو بلال مسرعاً. ارتبك بلال وعرف انه سيكون الضحية التالية إذا لم يهرب بالحال.
رجع للوراء قليلاً واطلق العنان لساقيه، لحقه القاتل وصار يجري خلفه. كان بلال اسرع من القاتل بكثير فقد كان يهوى رياضة الركض بشغف عندما كان صغيراً وقد فاز بجوائز كثيرة عندما كان في المدرسة المتوسطة بالعراق قبل المجيء الى الدنمارك.
استمر بلال بالركض حتى وصل الى الشارع العام، نظر خلفه فلم يجد احداً يتبعه. عرف وقتها ان القاتل صار بعيداً جداً وانه نفذ من قبضته فتنفس الصعداء. رأى حافلة تتوجه نحو الموقف فاستقلها وعاد الى منزله. وعندما وصل الى المحطة التي بالقرب من عمارته نزل من الحافلة وسار نحو البوابة الرئيسية. صعد السلم الى الطابق الاول ثم فتح باب الشقة ودخل. وفور دخوله قرر الاتصال بالشرطة مباشرة لاخبارهم بكل شيء الا انه قبل ان يطلب الشرطة سمع جرس الباب فتوقع ان يكون صديقه چالاك قد جاء لزيارته. فتح الباب فلم يشعر الا وعصاة غليضة تنزل على رأسه تسقطه ارضاً وتفقده الوعي.

  

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

795 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع