بقلم لواء الشرطة الحقوقي
محي الدين محمد يونس
خياران أحلاهما مر
في عصر أحد أيام ربيع عام 1980 وبينما كنت مكلفاً بواجب ضابط خفر مديرية شرطة محافظة أربيل وإذ بشاب في مقتبل العمر يراجعني متبرعاً للإخبار عن جريمة قتل فتاة من قبل والدها، طلبت من الشاب الجلوس بعد أن شكرته والإدلاء بإفادته مفصلاً حيث ذكر: -
أسكن مع عائلتي في محلة خانقاه في دار كلاسيكية شرقية قديمة تحوي عشرة غرف وكل غرفة منها مؤجرة لعائلة (كانت الكثير من العوائل قديماً وبحكم السلوك الاجتماعي المتسم بالألفة والمحبة والتعاون والحالة الاقتصادية المتدنية مجبرة على أن تسكن في دار واحدة عكس ما يحصل في يومنا الحاضر حيث يرفض ابن العائلة وفور زواجه من السكن مع والديه وأخوته ويفضل الانفصال عنهما والسكن في بيت مستقل) توجد معنا في الدار عائلة متكونة من رجل طاعن بالسن وكذلك زوجته وابنتهما الشابة المراهقة البالغة من العمر خمسة عشر عاماً والخارجة عن سيطرة والديها بتصرفاتها غير السوية مع الشبان في المحلة وخارجها وجعلت والدها يشعر بعدم الارتياح والخجل من جراء تلطيخ سمعته وهو الشيخ الكبير المتمسك بالتقاليد العشائرية وتعاليم الدين الإسلامي...
سألت الشاب: ((من أين لك كل هذه المعلومات؟ وكيف تجزم بأن المذكور قد قام بقتل ابنته؟))
أجاب الشاب: ((كما ذكرت لكم من أننا نسكن في دار واحدة سوية ولا أخفي عليك بأنني كنت أحبها وقد قضينا مراحل الطفولة سوية وكنت على امل أن تصبح شريكة حياتي في يوم من الأيام، نصحتها كثيراً وطلبت منها الكف عن هذا السلوك المنحرف إلا أنها استمرت في نهجها واختارت هذا الطريق لكونها طفلة مراهقة وأغرتها العطايا المالية والعينية من الذين كانت ترافقهم.))
سألت الشاب: ((أعود فأسألك كيف تجزم بأن والدها قد قتلها؟))
فأجابني الشاب: ((بالرغم من محاولات أبويها ثنيها عن سلوكها الخطأ إلا أنها استمرت دون فائدة وقبل خمسة أيام وكان الوقت ليلاً متأخراً وكنت مع عائلتي جالسين في غرفتنا حيث سمعنا صوت صراخ وعندما خرجنا والعوائل الأخرى إلى رحبة الدار شاهدنا والد الفتاة وهو يمسك بشعرها ويضربها بعصا على كافة أنحاء جسدها وهي تصرخ طالبة النجاة... قمنا بتخليصها منه والأم تبكي وتلعن حظها العاثر يوم رزقت بهذه البنت الوكحة المسببة لها ولزوجها الشقاء والتكدر وهما في أرذل العمر واتعسه حيث تكالبت عليهما الأمراض.
وفي تلك الليلة وبعد أن قمنا بتخليص الفتاة من قبضة والدها والذي رفع كلتا يديه إلى السماء وهو يحلف بأغلظ الأيمان بأنه سيقتلها إن عادت وتصرفت بأي تصرف غير أخلاقي وطلب من جميع الحاضرين أن يكونوا شهوداً على كلامه هذا...))
سألت الشاب: ((هل التزمت الفتاة بكلام أبيها وتركت السلوك المنحرف؟))
أجاب الشاب: ((كلا لأنها كانت تعتقد بأن والدها غير قادر على تنفيذ تهديده لها بقتلها... واستمرت وخرجت في اليوم التالي حيث كانت على موعد مع شاب وكأن شيئاً لم يكن...))
أخذت الشاب المخبر معي وبدلالته إلى الدار المعنية حيث دخلتها ووقفت في فنائها الكبير والذي تحيط به عشر غرف بالإضافة إلى مكان آخر يستخدم كحمام ومرافق صحية من قبل جميع العوائل الساكنة في الدار (كانت تكثر مثل هذا النوع من الدور في محافظة أربيل وربما في المحافظات الأخرى في ذلك الزمن وكانت تسمى بالعرف الدارج (الحصار)
خرجت معظم العوائل عند علمهم بوجودي في باحة الدار ومعي عدد من أفراد الشرطة وبعد أن دلني الشاب على غرفة والد الفتاة والتي كانت تقع في بداية المدخل الرئيسي للدار، طلبت من العوائل الدخول إلى غرفهم لكي نتمكن من انجاز عملنا الذي جئنا من أجله.
دخلت الغرفة واستقبلني الشيخ الكبير والذي كانت عوامل السنين الماضية من تعب وقهر وارهاق قد بانت على وجهه وملامحه وبنيته... وزوجته جالسه في زاوية من زوايا الغرفة وعلامات البؤس وعدم الارتياح بادية عليها.
كانت الغرفة صغيرة وهي لا تحوي إلا على بعض الأثاث البسيط مساحتها 4x 4 متر مبنية كباقي الغرف الأخرى من الطين واللبن، توجد خلفها فسحة صغيرة مساحتها 4x2 متر تستعمل للطبخ، نظرت في انحاء الغرفة ولم أرى شيئاً يستحق الاهتمام، خرجت إلى الفسحة الخارجية مستصحباً معي والد الفتاة وكنت اقطعها طولاً ذهاباً وإياباً وأنا اتحدث معه واستفسر منه عن ابنته.
سألته: ((أين ابنتك؟))
أجابني والد الفتاة: ((لقد خرجت قبل أربعة أيام صباحاً لغرض شراء الخبز واللبن ولم تعد وبالرغم من البحث عنها في كافة الأماكن المحتمل وجودها فيه إلا أننا لم نجدها لحد الآن...))
عندما كنا نسير سوية شاهدت في أرضية منتصف الفسحة والتي كانت ترابية وغير مبلطة بقعة ترابية محفورة حديثاً وقد ورى التراب عليها وكنت ألاحظ والد الفتاة يتحاشى المرور من فوقها ويمعن النظر فيها عند الاقتراب منها.
أمسكته من يده وجعلته يقف على البقعة المذكورة رغماً عنه وقائلاً له: ((اعلم لماذا قمت بقتل ابنتك وقبل أن نحفر هذه البقعة أرجو أن تعترف لي بما فعلت))
انهار وهو يردد: ((ماذا أفعل لقد أجبرتني على قتلها... فكرت كثيراً وبقيت حائراً بين أن اتركها سائبة وهي تتصرف دون الشعور بالمسؤولية تجاه والديها حيث لوثت سمعتنا وأهانت كرامتنا والخيار الثاني والذي اخترته هو قتلها والتخلص منها ومن شرها للأبد...))
الأم كانت تراقبنا من داخل الغرفة وعند وصول علمها توصلنا إلى الحقيقة واعتراف زوجها بدأت بالصراخ والعويل وهي تردد: ((لماذا يا ابنتي فعلت بنا هذا العمل وكنت مصرة على تصرفاتك المشينة وحطمت قلب والديك))
استصحبته معي إلى الدائرة وكلفت البعض من مراتب الشرطة يعاونهم بعض الشباب من الحضور لإخراج جثة المجني عليها من الحفرة... في الدائرة باشرت بتدوين إفادة الجاني... والتي كانت كما يلي: -
((قبل خمسة أيام وكانت ابنتي قد خرجت صباح ذلك اليوم ولم تعد حيث انتظرتها دون جدوى بالرغم من تحذيرها وتهديدها بالقتل قبل يوم لذلك عقدت العزم على تنفيذ ما عزمت عليه عند عودتها وفعلاً عادت في الساعة الحادية عشر وخمسة واربعون دقيقة، تظاهرت بالنوم وكانت والدتها نائمة وبعد ساعة وبعد أن خلدت لنوم عميق نهضت ورفعت قنينة غاز فارغة إلى الأعلى بكامل قوتي وتركته ينزل بكل ثقله على رأسها فيحطمه وتموت دون حراك، أفاقت زوجتي على صوت سقوط قنينة الغاز وارتطامه برأس ابنتها، حاولت أن تصرخ وأن تبكي إلا أني وضعت يدي فوق فمها ومنعتها وطلبت منها السكوت خوفاً من افتضاح أمرنا وقمت بحفر حفرة في الفسحة الملحقة بغرفتي ودفنتها فيه بملابسها وقمت بعد ذلك بغسل مكان قتلها وإزالة الدماء والأثار منه, وإني الآن غير نادم على ما فعلت ولا تهمني إجراءات الحكومة وما تصدره من حكم بحقي وأنا بعمر أشرف على الموت واترك أمري لله العلي القدير ورحمته))
كتبت تقريراً مفصلاً حول الحادث وارفقت به إفادة المخبر والجاني إلى قاضي التحقيق الخفر لذلك اليوم والذي كنت قد اتصلت به هاتفياً وأعلمته بتفاصيل الحادث والإجراءات التي اتخذتها وعند عرض الأوراق التحقيقية عليه قرر توقيفه لمدة خمسة عشر يوماً واستكمال الإجراءات التي ستؤول إلى قاضي التحقيق المختص.
حال الرجل وزوجته جعلنا نشفق عليهما من خلال الإجراءات التحقيقية وإحالة القضية إلى محكمة جنايات أربيل والتي أصدرت قرار بالحكم عليه بالحبس لمدة سنتين بعد ان راعت الظروف المخففة التي يستحقها من خلال تأييد عدد كبير من الشهود على سوء سلوك الفتاة القتيلة وما سببته له من ضغط نفسي كبير وهو رجل طاعن في السن دفعته إلى ارتكاب هذه الجريمة ومن الجدير بالذكر بأن المجلس الوطني لإقليم كردستان العراق وبموجب المادة الأولى من القانون رقم (14) لسنة 2002 والذي ينص على أنه: ((لا يعتبر ارتكاب الجريمة بحق المرأة بذريعة بواعث شريفة عذراً قانونياً مخففاً لأغراض تطبيق أحكام المواد 128 و130 و131 من قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969 المعدل)).
1016 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع