علي المسعود
قراءة في كتاب ( نزعة إلى الموسيقى)
أن الاستماع للموسيقى ليس سمعياً وعاطفياً فحسب، بل هو حركي أيضاً, فكما كتب نيتشه، «نحن نستمع للموسيقى بعضلاتنا»، أي نواصل أداء حركات توقيعية وفق نغم ما، لا إرادياً حتى لو لم نكن نصغي إليه بشكل واع، وتعكس وجوهنا ووضعياتنا حكاية اللحن والأفكار والمشاعر التي يستحثها.
من المعلوم أن الموسيقى تشكل أحد أهم المحددات الثقافية التي قد يشترك فيها جميع البشر بغض النظر عن الاختلافات الحضارية بين بلد وآخر وعلى الرغم من التغير الذي يطرأ على الموسيقى في عصور مختلفة، فإن أساسياتها وقواعدها العامة ما تزال هي عينها التي ابتدعها الإنسان قبل آلاف السنين، وما الاختلاف الظاهر سوى انعكاس للواقع الثقافي الذي يتم معايشته في كل عصر.
يعرض الطبيب ( أوليفر ساكس ) في كتابة الذي يحمل عنوان " نزعة الموسيقى" جملة من القصص و الحكايا لمرضى أصيبوا بحالات مختلفة من التفاعل غير الطبيعي مع الموسيقى , الكتاب من اصدار ( دارالعربية للعلوم ) وترجمة " رفيف كامل غدار ويقع في 432 صفحة.
ومن خلال معرفته الواسعة والمتميزة يستكشف شاعر الطب الأول كما أسمته الـ "نيويورك تايمز" المكانة التي تحتلها الموسيقى في الدماغ وكيف تؤثر في الحالة البشرية.
وفي كتابه هذا يدرس ساكس قوى الموسيقى من خلال التجارب الفردية للمرضى، والموسيقيين، والناس العاديين وأناس يعانون من عمى الموسيقى، وتبدو لهم أي سيمفونية مثل قعقعة القدور والمقالي، ورجلٌ تدوم ذاكرته سبع ثوانٍ فقط، لأي شيء باستثناء الموسيقى. يصف الدكتور" ساكس" كيف يمكن للموسيقى أن تحرك مصابين بداء باركنسون لا يستطيعون التحرك بغير ذلك، وأن تهب الكلمات لمرضى سكتات دماغية لا يستطيعون الكلام بغير ذلك، وأن تُهدِّئ وتنظم أناساً أفقدهم داء ألزهايمر أو الفصام حسّ المكان والزمان. يقسم الكتاب إلى مجموعة من الأجزاء الأساسية والتي تحوي فصول فرعية يقدم من خلالها "ساكس" عدد من الحوادث والحالات المرضية التي جعلت المصابين بها يتحولون من أفراداً عاديين في تفاعلهم مع الموسيقى إلى تفاعل استثنائي وفي بعض الأحيان إلى حالة الهوس الموسيقي، ليس استماعاً فقط ولكن أداءً وتأليفاً كذلك، وهو ما لم يعرف عنهم قبل إصابتهم بهذه الحوادث أو الأمراض. "نزعة إلى الموسيقى" كتاب مفيد وممتع في آن نتعرف من خلاله أن الموسيقى ليست مسألة حادثة في تاريخ التطور البشري، بل هي مرتبطة بتكوين الإنسان الفطري وقديماً قالوا الموسيقى غذاء الروح .
في فصل " مطاردون بالموسيقى " يعرض علينا ( أوليفر ساكس ) النزعة المفاجئة الي أصابت " طوني سيكوريا " نحو الموسيقى بعد أن أصابه البرق بصعقة كهربائية وهوداخل كابينة الهاتف العمومي قبل شيوع الهاتف النقال ( بالتحديد عام 1994). مرور وميض الضوء في جسده ترك عنده الرغبة والهوس في الموسيقى, ( سيكوريا ) طبيب جراح عظام وبات يعتقد ان السبب في نجاته هي الموسيقى وتلك اللحظة منحته موهبة في التأليف ألموسيقى وانجز اول مقطوعة موسيقية واطلق عليها إسم مجازي ( الموسيقى من الفردوس ). كذالك يخبرنا " ساكس " أن – سيكوريا – أصبح روحانيأ بعد صعقة البرق وأقترابه من الموت . بعدها يحدثنا " أوليفر ساكس " عن حالة مماثلة للمرضى الذين ظهرت عندهم أعراض الاهتمام المفاجئ بالموسيقى أو الفن كما في حالة عالمة الكيمياء " سليما أم " وهي في العقد الخامس من عمرها . بعد العملية الجراحية التي إجريت لها لازالة ورم في الدماغ , وتصف " سليما" حالتها قبل الجراحة بأنها إمراة متحفظة الى حد ما لكنها اصبحت هرة سعيدة كما يصفها زوجها أصبحت ( إختصاصية فرح ). وكان إبتهاج سليما في العمل و في البيت واضحا وأضيف إليه شغف جديد وهو شغف الموسيقى وأصبحت تتوق الى سماع الموسيقى و الذهاب الى الحفلات الموسيقية وتتأثر مشاعرها حد الطرب والبكاء عند سماع الموسيقى والذي لم تكن قبلا تثير فيها اي إحساس .
" أوليفر ساكس" مواليد 1932و أستاذ علم الأعصاب والطب النفسي في جامعة كولومبيا. تلقى تعليمه ولقد عانى فى البدايه حيث دخل مدرسه داخليه هو وشقيقه وكان ذلك دون علم اسرته ،ثم ذهب الى مدرسه سانت بول بلندن ،وتلقى تعليمه الى ان حصل على بكالوريوس فى علم الاعضاء وعلم الاحياء،واكمل دراسته ليحصل على الماجستير لكى يؤهل نفسه لممارسه الطب ،ثم غادر انجلترا الى كندا ثم منها الى الولايات المتحده ،والتى كانت تعد خطوه ايجابيه نحو مسار وظيفى مختلف تماما عما كان يعهده ،ولقد عمل بمستشفى صهيون فى سان فرانسيسكو ،وفى جامعه كاليفورنيا ،ولقد كافح الى ان صار طبيا فى الاعصاب وكاتبا وصيدلى ،وحصل على منصب استاذا علم الاعصاب بجامعه نيويورك للطب ،ثم بعدها حصل على عددمن المناصب فى عدد من الجامعات للطب ،ولقد الف الكثير من الكتب التى حصلت على اكثر مبيعا مثل كتاب " الرجل الذي حسب زوجته قبعة " ،ثم قام بعدها بعدد من الدراسات على مجموعه من حالات الناس الذين يعانون من اضطرابات عصبيه ، ولقد منحته جامعه اكسفورد الدكتوراه الفخريه فى القانون المدنى ،كما حصل على منصب (كولومبيا الفنان )،ولقد كانت إنجازاته سببا فى حصوله على عدد كبير من الجوائز التى تشهد بعلمه وتفوقه فى مجاله الطبى. توفي أوليفر ساكس في عام 2015. ولقد حصل على تكريم فى ذكرى وفاته فى اسهاماته الواضحه والمتميزه فى دعم العلاج بالموسيقى وتاثير هذه الموسيقى على الدماغ البشرى.
"أوليفر ساكس " بأسلوب سلس و وصف أدبي و علمي، تمكن من إيصال رسالته من هذا الكتاب بكل وضوح، "الموسيقى أشبه بكائن جميل، محبوب، قادر على اسعادك عندما تغرق في الظلام.
أن الكتاب ممتع جدا في قراءته، لأنه يلقي الضوء على تفاعلاتنا مع الموسيقى من وجهة نظر نمارسها من دون أن ننتبه إليها لأنه ردة فعل الحواس التلقائية . أجمل ما يمكنني قوله عن هذا الكتاب أنه كتاب للحفظ و القراءة مرة بعد مرة.
علي المسعود
المملكة المتحدة
2354 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع