بقلم أحمد فخري
قصة قصيرة العبقري-الجزئ الثاني
عاد عبدالله من المانيا مكللاً بالنجاح حاملاً معه شهادة خبير في نظم السيطرة الالكترونية. ابتدأت المشاريع تزدحم في رأسه لانه كان يحلم ان يستحدث ورشة صغيرة ببيته كي يقوم باشباع رغبته الجامحة في اختراع المعدات الالكترونية الحديثة خاصة التي يخدم بها بني البشر من حوله، وهو الآن يشعر بانه مدجج بسلاح العلم الذي اكتسبه من دورته بالمانيا والتي دامت اقل من العام بقليل.
وبعد عودته ولقاءه بابنته مريم للمرة الاولى قرر صاحبنا ان يسترخي لاسبوع او اسبوعين في بيته كي يأقلم نفسه للمهمة الجديدة التي وضعها الله في احضانه الا وهي مهمة الابوة المقدسة وان يكون بصحبة حبيبته وقرة عينه نسرين الزوجة الصالحة الوفية.
استيقظ يوماً على نداء والدته من الطابق السفلي وهي تصرخ، "استيقض يا عبد فقد جاءك ضيوف وهم ينتضرونك في الصالة".
هرع عبدالله الى الحمام ورمى الماء على وجهه ثم توجه مباشرة الى صالة الجلوس فشاهد رجلان غريبان لم يسبق له التعرف عليهما، يلبسان بدلات سوداء. وقف الرجلان عند مشاهدة عبدالله فتكلم احدهما قائلاً،
- اسمح لي ان اقدم لك نفسي، المقدم ضياء سالم العتبي، وهذا زميلي مقدم فيضي محمد السامرائي.
- اهلاً وسهلاً. تفضلا، اتشربان الشاي ام القهوة؟
- كلا نحن على عجل من امرنا.
- كيف لي ان اساعدكما؟
- نحن مبعوثان من هيئة التصنيع العسكري وقد أرسِلنا كي نبلغك بانك ستبدأ العمل معنا ابتداءاً من صباح يوم السبت القادم على هذا العنوان. اعطاه الرجل ورقة كتب فيها عنوان الهيئة. استلم عبدالله الورقة وهو في غاية الدهشة ثم قال،
- ولكني لم اخطط للعمل في التصنيع العسكري لاني كنت افكر في عمل ورشة خاصة ببيتي.
- هذا قرار متخذ من قبل الدولة التي ارسلتك الى المانيا. وليس لديك الحق ان تعترض على قراراتها.
- حسناً ولكن يوم السبت قريب جداً وانا مالبثت أن وصلت قبل اسبوع فقط واود ان استريح قليلاً قبل ان اباشر باي عمل.
- لا تقلق يا عبدالله فالعمل عندنا بسيط وستكون انت مسؤول عن مشاريع تخص الدولة وامنها وسلامتها.
- حسناً ساحاول ان احضر يوم السبت.
- بل ستأتي يوم السبت حتى لو كنت تحتضر الموت.
- حسناً فهمت.
- استودعناك الله اخ عبدالله.
- في امان الله.
جلس عبدالله في الصالة مهموماً ومثقلاً بالافكار السلبية. كيف تتمكن محادثة دامت ربع ساعة ان تغير خططه ومسار حياته كلها؟ كيف لهم ان يقرروا ما يريد عمله وما لا يريد؟ ماذا لو رفض رفضاً قاطعاً تلك الاوامر؟ بالتأكيد سوف لن يؤذوه لانه حصل على درجة علمية جيدة وهو ثمين بالنسبة لهم. لا بل سوف يشنق قبل ان ينطق بكلمة واحدة ويعترض على القرار. "يا الهي ماذا اعمل؟"
- ماذا يقلقك يا ولدي؟ ومن هما هؤلاء الضيوف؟
- يا امي هؤلاء مبعوثان من الحكومة ويريدانني ان ابدأ عملي يوم السبت في هيئة التصنيع العسكري.
- وما العيب في ذلك يا ولدي؟ العراق في حرب شعواء وكل مواطن يجب ان يقدم العون لبلده. وبما ان لديك اختصاص يمكنك من خلاله تقديم الكثير لوطنك فإن ذلك سيكون مفخرة لنا جميعاً وحتى والدك سيفرح بقبره لانه انجب بطلاً مثلك. وستكون ابنتك مريم اول من يقول "ابي بطل".
- لكن هذه الحرب غير مجدية يا امي وسوف لن تنتهي.
- بل ستنتهي باذن الله وستعود المياه الى مجاريها. قم وتوضأ ثم صلي ركعتين لوجه الله كي يكتب لك الامان والسلامة في عملك الجديد.
توجه عبدالله على امه وقبل يدها ورأسها وتوجه نحو الحمام.
دخل عدي الى مكتبه حيث كتب على باب مكتبه "رئيس قسم الابحاث والتطوير الدكتور عدي حردان الجبوري) ونادى الساعي قائلاً، "تعال ابو سامي جيبلي ستكان جاي" ثم نادى سكرتيره قائلاً، "فريد، جيبلي قائمة الموظفين الجدد"
دخل فريد المكتب، حيى رئيسه ووضع القائمة بيده. بعد ان ترشف الشاي ووضع لفافة بفمه مسك عدي القائمة وصار يقرأ الاسماء
صباح عمانوئيل مرقص
شفيق محمد البياتي
ليث جبار الهيتي
فؤاد عبد الستار كامل
عبدالله محمد سالم
خليل سعدون ال...
ثم عاد وقرأ الاسم ثانية "عبدالله محمد سالم"
"يا اهلاً ويا ميت سهلاً بصديقي العزيز. جيت والله جابك. لعد تريد تشتغل عندي؟ اهلاً وسهلاً ومرحباً"
ثم نادى السكرتير ثانية وقال له،
- متى سيحضر الموظفون الجدد؟
- اليوم حضر الجميع وهم بصالة الانتضار الآن.
- اريد ان لا تستدعيهم بالتسلسل. بل نادي على عبدالله محمد سالم اولاً.
- حسناً سيدي.
نادى السكرتير اسم عبدالله محمد سالم فوقف عبدالله ودخل مكتب عدي ونظر اليه وقد اصابته الدهشة عندما رآه جالساً خلف مكتب فاخر وكرسي رئاسي وثير وقد رسمت على وجهه ابتسامة صفراء.
- مرحباً عدي حبيبي. ما كنت اعرف انك تشتغل هنا.
- انچب واحترم نفسك ابن الكلب. ناديني استاذ عدي مفهوم؟
تلعثم عبدالله قليلاً لكنه علم ان الامر اخطر من ان ينفعل ويرد بنفس الحدة، لذا تراجع وقال،
- أنا آسف جداً لقد تخيلتك زميلي في الدراسة.
- اي نعم اني كنت مع جنابك بالكلية لما تآمرت وخليت العميد يطردني. بعدين رجعوني وقدمولي اعتذار وحالوا العميد على التقاعد وكملت الدكتوراه وراها. وهسة اني رئيس قسم الابحاث والتطوير يعني انت تشتغل عندي، مفهوم؟
- مفهوم استاذ، انا آسف جداً اعذرني.
- ياله اطلع برة. صارت ريحة جايفة بالمكتب.
خرج عبدالله من مكتبه وهو في غاية الغضب. شعر وكأن رأسه سينفجر. ماذا سيفعل؟ وكيف سيتلافى المواجه مع هذا الاحمق الذي استغل بعض المحسوبيات والدرجات الحزبية فقام باحالة عميد الجامعة على التقاعد ثم حصل على شهادة دكتوراه خلال عام واحد فقط. هل يعقل ذلك؟
ادخل عبدالله بغرفة فيها 5 موظفين وجلس خلف مكتبه الجديد المتهرئ. القى التحية على زملائه الجدد فحيوه بمثلها وبقي ينتضر. بعد ساعة كاملة جاء الساعي بحزمة اوراق ووضعها على مكتب عبدالله ثم غادر. تفحص عبدالله الاوراق فوجد فيها كتاب فيه البيان التالي:
الى جميع مهندسي قسم الابحاث والتطوير
تطلب الادارة على وجه السرعة القيام بتطوير نظم السيطرة على الصواريخ القصيرة المدى وذلك اثر طلب من قادة الجيش على جبهات القتال لتحسين ادائها في اصابة الاهداف. فهي تخطئ بما يقرب من 60% من الاهداف. سيترأس فريق التطوير المهندس اول منتظر قاسم عبد الجبار وستتم متابعة كل فرد على حدة. المشروع يجب ان يكون جاهزاً خلال مدة اقصاها شهر واحد والا فإن جميع القسم سيتعرض للعقوبات القصوى.
رئيس قسم الابحاث والتطوير
الدكتور عدي حردان الجبوري
نظر عبدالله الى ذلك الكتاب وهو في غاية الدهشة ثم نظر الى احد زملائه في الغرفة وسأله،
- ما هي المعطيات التي يجب دراستها كي نقوم بالتطوير؟ وما هي البيانات الرئيسية في التصميم القديم لنظم السيطرة؟ ومتى نبدأ العمل الفعلي بالمختبر؟ وهل ستكون لدينا حاسبات الكترونية لعملية التطوير؟
- لا ولا ثم لا. هذه الاجابة الكاملة على تساءلاتك. الافضل لك ان تتحلى بالصمت وتعمل فقط ما يطلب منك.
شعر عبدالله بمرارة في فمه كادت تخنقه. لكنه صمت وكتم وسلم امره لله. بعد ذلك لاحظ ان زملائه المهندسين لديهم حرية التنقل. فهم يغادرون مكاتبهم ويرجعون لها متى ما يحلو لهم. لذا صار يتنقل هو ايضاً ويتفحص المختبرات القريبة من مكتبه فعثر بطريق الصدفة على جهاز حاسوب متروك باحدى المكاتب الفارغة وليس بجانبه احد فقال لنفسه، "هذه فرصتي كي اقوم انا بتطوير النظام قبل ان يطلب مني. فذلك هو من صميم تخصصي وانا متأكد من انني قادر على فعل ذلك بفترة اقل بكثير من المدة المحددة.
رجع الى مكتبه وسأل زميله قائلاً،
- لقد لاحظت جهاز كومبيوتر متروك في المكتب الموجود بآخر الممر. فهل يسمح لنا استعماله.
- اجل بامكانك استعماله متى ما شئت فهو متطور للغاية ولكن ليس هناك الكثير ممن يستطيعون تشغيله واستعماله لانه يعمل بنظام اوبنتو.
- لا تقلق فانا سبق لي ان عملت على اجهزة شبيهة له وبنفس نظم التشغيل.
- تفضل على الرحب والسعة.
خرج عبدالله مسرعاً يكاد ان يركض. لانه شعر انه سوف يقدم شيئاً من اختصاصه وسوف يثمنون جهوده نحو بلده.
جلس خلف لوحة المفاتيح وكبس على مفتاح التشغيل فدبت الروح بالحاسوب وصار يعمل بشكل جيد. تفحصه جيداً فوجده ممتاز ويفي بالغرض.
ابتدأ بالبحث بقرصه الصلب فوجد نسخ ورسومات وخرائط للتصميم القديم لنظم السيطرة التي كان يبحث عنها، فقرر ان يدرسها بتمعن. وعندما وصل الى آخر صفحة في الملف علم ان عملية التطوير بسيطة وممكنة جداً فما عليه سوى اضافة مجسات ومفاتيح للجاذبية تمكن القذيفة من الاستشعار بزاوية الاقلاع وزاوية الهبوط للصواريخ فتقوم بتعديل فترة الانفجار استناداً للمسافة التي يحددها الكاشف الضوئي الذي يستعمله طاقم الاطلاق.
صار يشتغل بهمة ونشاط وابتدأ بخلق ملفات خاصة باسمه كي يتمكن من العودة اليها في الايام اللاحقة. وعندما شارف وقت العمل على الانتهاء اغلق الحاسوب وخرج مع باقي الموظفين. بالايام التالية صار يعمل بكل شغف على الكومبيوتر وصار يدخل المعادلات الرياضية ويقوم باستخدام محاكيات برمجية خوارزمية للاجزاء الالكترونية. وعندما تأكد من ان نظامه سيعمل نظرياً قرر ان يفاتح المهندس اول منتظر عبد الجبار بخصوص التطوير كي يتم بناء النموذج المبدئي prototype ويجرب في اصابة الاهداف بدقة افضل. وحالما انهى آخر وحدة من تصميمه. هم بغلق الحاسوب كي يذهب الى مكتب المهندس اول منتظر عبد الجبار الا ان يداً قوية مسكت بكتفه ومنعته من غلق الحاسوب. نظر من فوق كتفه فوجد ثلاثة رجال غلاض يقفون ورائه.
- نعم اخواني ماذا هنالك؟
- تفضل معنا اخ عبدالله.
- الى اين؟
- ستعرف لاحقاً.
سار عبدالله في الممر يتأبطه رجل من اليمين ورجل من الشمال والثالث يسير خلفهم. دخلوا غرفة عدي الجبوري وغلقوا الباب خلفهم. وجدوا عدي يجلس على مكتبه منكباً على الاوراق التي امامه. رفع رأسه ونظر الى عبدالله وابتسامته الصفراء مرسومة على وجهه ثم نظر الى الرجال الذين جاءوا بعبد الله واومأ لهم بالمغادرة، فخرجوا من مكتبه. وقف عدي وتوجه نحو عبدالله ثم صار يدور حوله. التزم عبدالله الصمت لانه يعلم تماماً ان هناك مؤامرة تحاك وان عدي سوف لن يترك ثأره القديم ولن يهدأ له بال الا بتحطيمه.
- ماذا كنت تسرق من الحاسوب؟ والى اي جهة كنت تريد ارسالها؟ وهل لديك اتصالات بالمخابرات الايرانية او الاسرائيلية؟
- اسمع يا عدي...
- تناديني سيدي يا حيوان يا ساقط يا جاسوس.
- اسمع مني يا سيدي. كل ما اردت ان اعمله هو ان انفذ ما طلب منا بخصوص تحديث انظمة التصويب في الصواريخ التي جاء بها بكتاب من رئيس قسم الابحاث والتطوير اي حضرتك يا دكتور لا اكثر ولا اقل. فكيف تظن بي كل هذه الظنون. انا عراقي وطني مثلك تماماً ولا يخطر ببالي ان اخون العراق ابداً.
- بل انت خائن وسأحيلك الى المخابرات العامة. هي التي ستتولى التحقيق بامرك افهمت؟
- سيدي انا لم اقترف اي ذنب وانت تعرف ذلك. اسألك بالله عليك لماذا تريد تحطيم حياتي هكذا؟
- اخرس ولا تتكلم بعد الآن افهمت يا ابن الكلب؟
- اجل فهمت. انا آسف.
ضغط عدي على زر في مكتبه فدخل السكرتير. طلب منه ادخال رجال المخابرات كي يأخذوا عبدالله معهم.
كبلت يد عبدالله باصفاد من حديد واقتيد الى خارج مبنى المركز. ادخلوه سيارة سوداء من نوع مرسيدس ووضعوا قماشاً اسود فوق رأسه كي لا يرى الطريق واقتادوه الى بناية الامن العامة بالكرادة. حالما هبط من السيارة سقط على الارض بسبب دفعة تلقاها من احد الحراس.
بعد بضع ساعات سمعت ام عبدالله جرس الباب وهو يدق بوتيرة مستمرة. فنادت على زوجة ابنها قائلة،
- افتحي الباب يا نسرين فانا مشغولة.
- حسناً يا عمتي سافتح الباب.
فتحت نسرين الباب فوجدت اربعة رجال غلاض يقفون على شكل دائرة. تكلم كبيرهم بصوت منخفض وقال،
- اريدك ان لا تصرخي ولا تبكي ولا تولولي. والا قطعنا رقبة ابنتك مريم.
- ولماذا كل ذلك؟ ماذا حصل؟ ولماذا جئتم؟ ومن انتم؟
- لقد جئنا بجثة زوجك الجاسوس الخائن للوطن. نريد ان ندخله الى الصالة. تذكري ان اي صراخ او بكاء سيسبب لك المأساة.
- ادخلوه...
حمل الرجال جثة عبدالله وادخلوها الى الصالة وهموا بالخروج. وقبل ان يخرج رئيسهم نظر الى نسرين وقال،
- الجثة يجب ان تدفن في الغد صباحاً، هل هذا مفهوم؟
اومأت نسرين برأسها لانها وجدت ان لسانها قد عقد ولن ينطق بشيء.
خرج الرجال الاربع وركبوا سيارتهم واختفوا عن الانظار. وبتلك اللحظة دخلت والدة عبدالله ونظرت الى جثة ولدها ممدة على الارض فسقطت على الارض مغمى عليها. وبهذه اللحظة دخلت احدى جاراتهم المقربة ونظرت الى جثة عدي فلطمت وجهها وسرخت. فقفزت نسرين اليها ووضعت يدها فوق فمها وقالت،
- لا تصرخي ارجوك، فقد هددوا بذبح ابنتي إذا سمعوا صراخنا.
- وكيف نسكت وقد غدروا بهذا الشاب الرائع. انه شهيد الوطن.
- بل هو شهيد عبقريته.
1649 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع