بقلم أحمد فخري
قصة قصيرة العبقري /الجزء الاول
كان عبدالله يستمتع دائماً عندما كان يصنع الاشياء بنفسه، فقد كان يجمع الاجزاء الكهربائية من لعبه بعد تفكيكها وتخزينها في علبة معدنية كان قد حصل عليها من والدته. ففي سن التاسعة من عمره عمل اول مروحة صغيرة تعمل على البطارية وكان فخور بها جداً.
ثم قام بصناعة لعبة صغيرة على هيئة سيارة كهربائية صغيرة تسير وحدها دون اسلاك خارجية. وما ان لبثت ان تطورت هوايته حتى اخترع جهاز انذار مبكر في غرفة نومه. كان الجهاز بدائياً جداً ويناسب سنه لكنه كان فخوراً به فقد ربط دارة كهربائية توصل البطارية بصفارة انذار صغيرة وبها مفتاح كهربائي مثبت على الحائط. يقطع الدارة الكهلابائية سلك ثبتّ احد طرفيه بمسمار على الباب والطرف الثاني ثبته على مسمار على الاطار الخلفي للباب. وعندما يفتح الباب، يتقارب المسماران نحو بعضهما البعض حتى يلتقيان فيضرب الانذار معلنا دخول احد الاشخاص الى غرفته. في العادة لم يكن احد ليدخل غرفته لكنه كان يتمنى ذلك كي يجرب اختراعه عملياً. لذا طلب من شقيقته الكبرى ان تفاجئه دون سابق انذار وتدخل الغرفة. وفي يوم فعلت ذلك فعلاً فضرب جهاز الانذار وفرح به كثيراً وطلب منها ان تتركه يقرع وكانه يعزف له سمفونية تشاكوفسكي. الا ان والدته سرخت عليه من الطابق السفلي وطلبت منه ان يوقف ذلك الضجيج.
لم تتوقف اختراعاته عند ذلك الحد بل استمر في عمل ادوات مفيدة وغير مفيدة. كان عبدالله مسؤولاً عن تصليح جميع المواد المنزلية التي كانت تعطل. فكثيراً ما كان يقوم بتصليح مجفف الشعر او فرشات الاسنان الكهربائية لاخته الكبرى. وكان مراراً يصلح لوالدته طاحونة القهوة وآلة فتح العلب الكهربائية والخلاط الذي تستعمله لخفق البيض عند عمل الكيك. في سن السادسة عشر طور اول جهاز لاسلكي صغير كان يستعمله مع اصدقائه عندما كانوا يلعبون لعبة الحرب. وعندما بلغ الثامنة عشر من عمره كانت نتائجه المدرسية ممتازة مما سمح له دخول الجامعة التكنولوجية فرع الالكترونيات. كان عبدالله من الطلاب المتفوقين في جميع مراحل دراسته في السنين الاربعة بالجامعة مما جعل العميد يكلفه ببناء اجهزة لمنظومة إذاعة خاصة بالجامعة ويكون هو المذيع الاول فيها. الا انه اعتذر له عن الشطر الثاني من الطلب لانه كان لا يجيد فن الحديث وكان يصاب بهلع عندما يتحدث امام المذياع. لذا كلف احد زملائه كي يصبح المذيع الرسمي. وصارت الاذاعة مشهورة جداً بين طلاب الجامعة بعد ان شاع خبر الاذاعة وكيف انه هو من صممها وصنعها من اجزاء الكترونية معزولة. صار جميع الطلاب ينظرون اليه باعجاب واحترام كبيرين ما عدى عدي الجبوري الذي كان يشعر بالغيرة منه. فعدي هو احد الطلاب المتفوقين بفرع الالكترونيات كذلك، الا انه لم يكن افضل من عبدالله بالاداء الاكاديمي، لذا كان يكرهه بشكل كبير ويتحيز الفرص كي يوقع به وبشهرته اللا محدودة. الا ان الاضواء التي كانت مسلطة على عبدالله لم تفسح له المجال كي ينتقم من غريمه.
بعد ان شدت حرب العراقية-الايرانية اوزارها اعلن رئيس قسم الالكترونيات عن مسابقة لمن يطور افضل جهاز تحكم عن بعد لرجل آلي يقوم بكسح الالغام كي يستعملها الجيش في الجبهة. شارك الكثير من الطلاب بتسجيل اسمائهم بمن فيهم الغريمان عبدالله وعدي بالعمل الدؤوب كي يقدم كل واحد منهما ما لديه من براعة، وقد ازداد فيها الحس الوطني لانهما يعلمان تماماً ان اختراعهما سينقذ الكثير من ارواح الجنود في ساحات القتال.
كان الجهازين الذين طوراهما عبدالله وعدي الافضل في المسابقة التي ساهم فيها تسعة عشر متسابقاً الا ان جهاز عدي كسب الجائزة الاولى لانه يعمل على مسافة تبلغ 120 متراً بينما كان جهاز عبدالله يعمل على مسافة 100 متر فقط. وعند تسليم الجوائز سأل عميد الجامعة الفائز الاول عدي وقال له، كيف استطعت ان تجعل موجات البث تصبح فريدة بحيث لا تتعارض مع كاسح الغام آخر يستعمل بنفس الوقت وبالقرب منه؟ فتلعثم عدي بالرد واعطى مبررات غير علمية مما زرع الشك في قلب العميد. فامر العميد رئيس القسم كي يحقق بالموضوع واتضح فيما بعد ان جهاز عدي كان مسروقاً من جهاز زراعي ياباني. مما اثار غضب العميد وامر بطرد عدي من المسابقة والجامعة ككل واعتبر عبدالله هو الفائز الاول.
عند تخرج عبدالله من الجامعة حصل على اعلى الدرجات في فرعه فكان الاول. دعى العميد عبدالله بمكتبه وقال له، "كل بضع سنين يبرز لنا طالب نابغة تفتخر به الجامعة وتعتبره من المميزين الذين يستحقون ارقى الدرجات واحسن المراتب في حياتهم العلمية والعملية. وانت اليوم اثبت بجدارة انك واحد منهم بل انت تفوقت عليهم جميعاً. لذلك باسمي وباسم لجنة عمادة الجامعة اود ان اقدم لك جائزة الجامعة المميزة وهي العتلة الذهبية. والتي تمنح فقط للطلاب الذين بلغوا مستواك العلمي المميز.
وبناءاً على ذلك فقد رشحتك الجامعة كي تحصل على بعثة الى المانيا للحصول على الدراسات العليا بهذا المجال" لم يتمكن عبدالله من التعقيب او الرد على ما قاله العميد سوى تكرار كلمة شكراً لعدة مرات.
رجع الى بيته مسرعاً كي يخبر والدته واخته بخبر تفوقه على زملائه والاهم من ذلك كله هو حصوله على بعثة الى المانيا. فرحت عائلته بتلك الاخبار الجميلة وقالت له والدته بان اباه ابو عبدالله رحمه الله كان سيفرح فرحاً كبيراً لو كان حياً. وقررت العائلة اقامة حفلة كبيرة يستدعون فيها الاهل والاقارب والاصدقاء بهذه المناسبة. وعندما كانا بمفردهما قالت والدة عبدالله لاخته الكبرى،
- ربما ستكون فرصة جيدة كي يتعرف عبدالله على احدى الفتيات في العائلة وربما ستسافر معه الى المانيا ونكون قد اطمأنينا عليه عندما يكون بالغربة معها.
- هذه فكرة رائعة يا امي، فانا اعتقد ان فاتن ابنة العم زيدان او سميرة ابنة الخالة ساهرة سيكونان افضل الخيارات.
- يجب ان لا نتدخل في اختيار شريكة حياته بل سنترك له الخيار حتى يكون ذلك افضل له مستقبلاً.
- حسناً يا امي. لكننا سنتدخل فقط في حالة اختياره اختياراً سيئاً كما لو كان قد اراد الزواج من ميسون مثلاً.
- لك الحق يا ابنتي. اعوذ بالله فهي انسانة سيئة الصيط ولا تصلح له كزوجة.
في يوم الحفلة حضر ما يزيد عن خمسين شخصاً جلهم من الاهل والاقارب. اما الغرباء فكانوا اربعة فقط وهم من اصدقاء عبدالله المقربين. وعندما جاء وقت الطعام تقربت احدى الفتيات من عبدالله وقالت له،
- انا نسرين صادق هل عرفتني؟
- اتقصدين العم صادق شقيق زوج خالتي؟
- نعم هو بعينه. لقد سبق ان رأيتك في حفل زفاف ابنة عمك فاتن.
- يبدو انني كنت اعمى وقتها او كنت اعاني من داء الغباء المزمن بذلك الوقت لاني لم انتبه لفتاة جميلة مثلك.
- اقتربت منك وقتها وسألتك إذا كنت تريد الجلوس بجانبي لكنك رفضت.
- كم كنت احمقاً والله. والآن اخبريني يا نسرين ماذا تعملين بحياتك؟
- انا طالبة بالصف الثالث في كلية الآداب فرع اللغة الفرنسية.
- يا سلام، وهل تستطيعين التحدث بالفرنسية؟
- mais bien sûr
- انا لا اصدق كيف تجتمع خصلتان بشخص واحد!
- ما هما يا عبد الله؟ اخبرني!
- الجمال والثقافة. فانت جميلة جداً وتتكلمين الفرنسية بطلاقة، هل بامكانك ان تعلميني اياها؟
- طبعاً انت على الرأس والعين. ولكن...
- ولكن ماذا يا نسرين.
- إذا لم نسرع الآن فسوف لن ينالنا شيء من الطعام وسنصاب بمرض المجاعة. هل تريد ان ترافقني الى طاولة الطعام أم انك تريدني ان اختار لك بنفسي.
- لكنك لا تعلمين ماذا احب وماذا اكره. فكيف ستختارين لي طعامي؟
- لا تخف يا عبود، هل تمانع ان اناديك عبود؟
- نادني ما شئت فهي تخرج من فمك كالعسل الصافي.
- لا تقلق يا عبود، ساختار لك ما سيعجبك من طعام. اجلس انت هنا وساعود لك بعد قليل.
وبينما هو جالس ينتضر عودة نسرين، نظرت اخته اليه وهمست لامها،
- يبدو ان السنارة قد غمست.
- هذا شيئ رائع فنسرين فتاة جيدة واهلها اناس طيبون. اتمنى ان تتكلل علاقتهما برباط متين.
- وانا كذلك، وإذا ما تزوج اخي منها فاننا سنترقب اطفالاً فائقي الجمال. فاخي اسمر حنطي ووسيم جداً ونسرين بيضاء البشرة وشعرها اشقر طبيعي وفائقة الجمال هي ايضاً. يا رب يا رب.
رجعت نسرين حاملة طبقين، اعطت الطبق الذي بيدها اليمنى لعبدالله فنظر لطبقه وقال،
- لاحظت ان المواد التي في طبقك لا تشبه ما في طبقي. فكيف عرفت ان طبقي هو الذي بيدك اليمنى؟
- هذا بسيط يا عبقري، فانا عسراء، لذلك وضعت طبقي بيدي اليسرى وطبقك بيدي اليمنى.
- هذا مستحيل. انت عسراء مثلي؟ لا اصدق ذلك ابداً! ما هذه الصدفة العجيبة؟
- انها حقاً صدفة رائعة. كل يا عزيزي وهنيئاً مريئاً لك. ام تريدني ان اطعمك بيدي؟
- لقد اخترت حقاً الطعام الذي احبه، فجميع المواد هي من الاطعمه التي احبها. شكرا حبيبتي... عفواً اقصد عزيزيتي نسرين.
- ولماذا تعتذر؟ هل تجد صعوبة بان اكون حبيبتك؟
قالتها بصيغة المزاح وهي تبتسم
- بل اعتقد ان الله سيرضى عني الى يوم الدين لو عشقت فتات مثلك.
- وكيف تعشقني وانت لا تعرف عني شيئاً؟
- إن ما اعرفه عنك يكفيني، الا ... الا اذا كان هناك ما خفي في الماضي!
- ليس هناك ما في الماضي ابداً فانا فتات اغدوا بطريقي واعود بطريقي ولم يدق قلبي لاحد بعد.
- وهل تعتقدين انه سيدق لواحد مثلي؟
- لا اعلم دعنا نرى ونترقب.
بعد ان انتهت الحفلة ذهب عبدالله الى امه وقال لها،
- يا امي اريد ان اخبرك بشئ مهم جداً.
- اعرف ماذا ستقول، وانا موافقة على نسرين.
- يا سلام! إذاً كان رادارك يعمل بشكل جيد.
- انا لست الوحيدة من لاحظ اهتمامك بنسرين. فجميع الحضور لاحظوا ذلك وفرحوا بذلك ما عدى بعض الفتيات الاخريات اللواتي قتلتهم الغيرة.
- اريد منك ان تتحدثي مع ذويها. فانا معجب بها حقاً.
- سيكون ذلك من دواعي سروري يا حبيبي.
لم تدم عملية المباحثات بين نساء العائلة طويلاً حتى جائت والدة عبدالله بالخبر اليقين واخبرته ان اهل نسرين قد وافقوا عليه مبدأياً وانهم جاهزون لاستقبالهم في بيتهم الكائن باليرموك.
تحضر عبدالله ووالدته وشقيقته عطارد وتوجهوا جميعاً الى اليرموك حيث كان الجميع في استقبالهم ما عدى نسرين. استغرب عبدالله من عدم وجود حبيبته بين المستقبلين الا انه لم يجد الفرصة المناسبة كي يحصل على جواب شافي لتسائلاته. وبعد ان ادخلوهم الى صالة الظيوف وجلس الجميع على الارائك، دخلت نسرين حاملة صينية ملئى بكاسات فيها عصير الرمان الاحمر. كانت وكأنها تسير بفلم خفضت سرعته للنصف. كانت ترتدي فستاناً احمراً جميلاً بدت فيه واكأنها اميرة او نجمة سينمائية. فاللون الاحمر لفستانها جاء متناسقاً مع لون بشرتها الابيض الناصع ولون شعرها الاصفر الذي يشبه الحرير. وثب عبدالله من كرسيه واقفاً وبقي مشدوهاً لجمالها لوقت طويل. لكنه سرعان ما شعر بان جميع العيون تنظر اليه فاصابه الخجل وتضاهر بانه يعدل بنطاله ثم جلس واستدار وجهه الى والدته وكأنه يطلب منها النجدة. بعد ان انتهى الجميع من كلمات الترحيب والترحيب المقابل ثم المجاملات المعتادة افتتحت والدة عبدالله الحديث وابلغت عائلة نسرين برغبتهم في طلب يد نسرين. فكانت الموافقة جاهزة لان والدة نسرين كان لديها علم مسبق قبل مجيئهم وهي موافقة على تلك الزيجة بكل سرور.
وما ان حل الخريف حتى كان عبدالله ونسرين متزوجان وقد ذهبا الى كركوك لقضاء شهر العسل. وبعد بضع شهور اعلن الزوجان عن انتضارهم لولي العهد. وبنفس الفترة بلغت الجامعة عبدالله كي يذهب الى مديرية البعثات والبحث العلمي لاجراء معاملة السفر. لكن عبدالله اصطدم بخبرين هناك. الاول هو انه سوف لن يدرس الماجستير باختصاصه بل انه سيخوض دورة خاصة في نظم السيطرة الالكترونية والدورة مدتها عام واحد فقط. والثاني هو انه لن يستطيع اصطحاب زوجته معه الى المانيا. لكنه لم يكن ليرفض تلك الفرصة الذهبية التي منحته له الدولة، لذا تمت الاجرائات وعاد الى البيت كي يخبر زوجته فقالت،
- طالما انها ستكون لمصلحتك ومصلحة مستقبلك فانا لا مانع لدي من ذلك. سابقى هنا الى جوار والدتك وابنك في انتضارك حتى تعود لنا سالماً.
- انا لا اعلم كم انا محظوظ بوجود انسانة متفهمة مثلك يا حياتي.
خرج جمع كبير تعداده 5 سيارات لتوديع عبدالله الى مطار صدام الدولي ليلاً لان الطائرات كانت لا تقلع بالنهار خوفاً من ان تتعرض للاعتداء من قبل الطائرات الايرانية.
وما ان وصل عبدالله الى المانيا ابتدأت الدورة مباشرة لان الدروس كانت تعطى باللغة الانجليزية وليست بالالمانية لذلك كانت مفهومة لديه. اما المواد فقد كانت مكثفة ومعلوماتها حديثة جداً ومعقدة. ولكن كلما ازدادت تعقيداً كلما ازدادت سعادة عبدالله لانه يعلم كل العلم انه يتلقى معلومات متطويرة وحديثة وجديدة عليه تزيده خبرة في مجاله الذي يعشقه كثيراً.
وما ان مر 11 شهراً على غربته حتى علم من ادارة معهده انه اجتاز الاختبار النهائي بتفوق وانه سيعود الى بلده بالقريب العاجل.
البقية في الجزئ الثاني...
1636 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع