حامد خيري الحيدر
نظرة على الأدب الملحمي -القسم الثاني
قراءة في ملحمة گلگامش
تعتبر ملحمة كًلكًامش أقدم وأطول نموذج لأدب الملاحم في تاريخ الحضارات القديمة، حيث أنها صيغت بأسلوب أدبي شعري يستحق أن يوضع بين شوامخ الادب العالمي، لذلك فلا غرابة أنها تركت تأثيراً كبيراً في آداب وملاحم الحضارات القديمة الأخرى، ويتبين ذلك واضحاً من الانتشار الواسع الذي وصلت اليه، فقد تم اقتباس الكثير من أفكارها ورموزها لدى تدوين تلك الملاحم، بعد أن استنسخت وترجمت الى العديد من لغات العالم القديم، حيث وجدت نسخ منها في أسيا الصغرى وفلسطين وإيران وحران.
دونت الملحمة لأول مرة في عصر فجر السلالات الثاني (أواسط الالف الثالث قبل الميلاد) أي أنها تسبق ملحمتي الإلياذة والأوذيسة اليونانيتين، بما يقارب الألف وخمسمائة عام. وكانت الملحمة في بداية تأليفها عبارة عن أربع قصص سومرية محورها البطل كًلكًامش الملك الخامس في سلالة الوركاء الاولى، الذي حكم بحدود 2650 ق.م، وهذه القصص هي (كًلكًامش وأنكيدو والعالم الأسفل)، (كًلكًامش وأرض الحياة)، (كًلكًامش وثور السماء)، (موت كًلكًامش)، إضافة الى قصة (الطوفان) التي كانت جزءاً هاماً من التراث الأدبي والتاريخي لشعب وادي الرافدين، باعتبارها واقعة حقيقية أتخذها العراقيون القدماء نقطه معلومة ودالة لتثبيت حوادثهم التاريخية، جمعها الكاتب البابلي في مطلع الالف الثاني ق.م خلال الفترة المسماة (العصر البالي القديم)، وأعاد تدوينها باللغة الاكدية/ البابلية على أثني عشر لوحاً طينياً، وبأسلوب مُسبك رصين في رواية ملحمية واحدة رائعة الفكرة والمضمون، أسوة بباقي الآداب السومرية التي أعيد تدوينها خلال هذه الفترة باللغة الأكدية، حيث أعتبر البابليون أنفسهم ورثة التراث السومري، لذلك فعلى عاتقهم تقع مسؤولية حمايته والمحافظة عليه من الضياع والتحريف. وقد سميت الملحمة عند تدوينها في هذه الفترة باسم أول كلماتها وهي (هو الذي رأى)، وهو أسلوب تعارف على إتباعه كتاب وادي الرافدين، حيث يتم عنونة كتاباتهم بالعبارة الأولى التي ترد في النص المكتوب، كما سميت أيضاً باسم سلسلة (كًلكًامش) تيمناً ببطلها، وتعبير سلسلة الذي يسبق العنوان، يدل كما هو واضح على أنها مدونة عدة الواح وليس لوح واحد. ثم أعيد تدوين الملحمة بشكل أكثر تكاملاً ونضجاً في فترة العصر الآشوري الحديث (مطلع الالف الاول ق.م)، حيث عثر على نسختها الأخيرة المعتمدة والمدونة باللغة الأكدية/ الآشورية بألواحها الاثني عشر في مكتبة الملك الأشوري آشوربانيبال 668_626 ق.م في مدينة نينوى، خلال التنقيبات غير العلمية التي قام بها البريطانيون في أواسط القرن التاسع عشر.
أن أهم ما يميّز ملحمة كًلكًامش أنها تتحدث وتتعامل مع أشياء محسوسة واقعية، مثل الانسان والطبيعة والمغامرة وتتطرق لتناقضات الحياة وغدرها وتطورها، وشهوات البشر وغرائزهم ومشاعرهم الانسانية من حب وصداقة ووفاء، وأيضاً ما هم بحاجة اليه لتحقيق ذاتهم وكرامتهم الانسانية، وقد كتب كل ذلك بأسلوبٍ بارع مشوق جداً. كما وتصور الملحمة صراع الانسان مع قوى مفترض أنها أقوى منه، قد تكون آلهة أو مخلوقات غريبة، تسير في خدمتها وتنفيذ رغباتها ونزواتها، وتسعى لتلبية مصالحها.
ومن الموضوعات والمفاهيم الهامة التي أوضحتها الملحمة جانب هام من المعتقدات التقاليد السائدة في العراق القديم، حيث صورت الملحمة بطلها كًلكًامش على أنه إنسان هجين بين الآلهة والبشر، حيث كان ثلثاه من مادة الآلهة وثلثه الباقي من مادة البشر (أمه الآلهة (ننسون) وأبوه الملك (دموزي) أبن الملك (لوكًال بندا))، وهذا الاختلاط ناتج حتماً عن عملية الزواج المقدس، التي كانت تتم بين ملك البلاد وبين الكاهنة العليا، خلال أعياد رأس السنة الرافدينية في الاول من نيسان من كل عام، من أجل أحلال الخصب والنماء في الأرض، ويتجسد خلال ذلك الصراع بين البطلين كًلكًامش وأنكيدو عند محاولة الثاني منع دخول البطل الى المعبد لممارسة تلك الشعيرة، ليحدث الاقتتال العنيف بين الجانبين، (أنكيدو) باعتباره رمزاً للشعوب التي أخذت مجتمعاتها تسلك مَنحاً تصاعدياً في رقيها والذي يعكس طريقها المنطقي في عملية التطور، و(كًلكًامش) الذي وصف بالحاكم المستبد الظالم.. (ما فتئ يضطهد الناس بمظالمه.. لم يترك عذراء لأمها ولا أبناً طليقاً لأبيه)، الذي هبّ مدافعاً عن مركزه الديني باعتباره سيد البلاد ووكيل الآلهة في الأرض، بعد ظنه للوهلة الأولى أنه سيُسلب منه، وبالتالي سيجلب الخراب الى مدينة الوركاء ويحل القحط فيها، خاصة أذا كان منافسه في ذلك (أنكيدو) الذي تم تصويره بهيئة انسان بدائي متوحش هائم مع الحيوانات في البرية لم يكن بديلاً مناسباً له، لذلك كان هذا اللقاء بمثابة صورة رمزية بليغة للصراع بين الحضارة والهمجية، في مرحلة هامة ودقيقة في تاريخ الانسانية، حيث كانت المدنية وهي في بواكيرها الاولى سائرة نحو النضوج والرقي، لينتهي هذا الصراع في نهاية المطاف بانتصار الحضارة بشكل باهر، وليس هذا فقط بل أن ذلك الانتصار جعل الطرف الآخر (أنكيدو/ الهمجية) يتحول الى أنسان آخر أرتدى لباس المدنية نتيجة اختلاطه بالحضارة.
كما توضح العبارة الواردة في الملحمة (ما أن رأى الناس (أنكيدو) يدخل المدينة، حتى تجمعوا حوله) شكل متقدم لبواكير الثورات الشعبية في التاريخ، وكيفية حدوث التجمع الجماهيري الذي يسبق عادة كل ثورة والتفاف الشعب حول رمزها وقائدها، من أجل الوقوف سوية بوجه الطغمة الغاشمة، ورغم أن تلك المواجهة في نهاية المطاف لم تكن في صالح الشعب (أنكيدو)، لكنها انتهت بعقد صلح متين مع السلطة القائمة (كًلكًامش)، بعد أن قوّم الثوار حالها لتبدل منهج تعاملها مع شعبها باتجاه الخير. في إشارة الى أن الثورة الجماهيرية لا يمكن ان تندلع أو يُكتب لها النجاح إلا اذا وصل الانسان الى مرحلة متطورة من الرقي الفكري والاجتماعي، تنقله من مرحلة التبعية المطلقة للطبيعة (شرعية الآلهة) الى مرحلة الاستقلال الذاتي والحضاري، كي يستطيع استقطاب عموم الجماهير المضطهدة المظلومة ويكون نداً مماثلاً في القوة للسلطة الحاكمة المستبدة.
كل هذه الأفكار والمواضيع وتفاصيل أخرى كثيرة، تناولتها هذه الملحمة الخالدة بأسلوب جميل بسيط مستساغ، بالإضافة طبعاً للموضوع الرئيسي للملحمة الذي هو هم أنساني بحت يمكن اعتباره القاسم المشترك بين جميع البشر، وهو حتمية الموت واستحالة نيل الخلود كونه حكراً على الآلهة، ومحاولة الانسان لتغيير مصيره أو تبديله في تحدي واضح لمشيئتها، وهنا تختلف ملحمة كًلكًامش عن ملاحم الشعوب الاخرى، في أن تلك الملاحم قد دونت لتخليد افراداً معينين أو تمجيداً لمآثر شعباً من الشعوب، لكن هذه الملحمة في سابقة فكرية غير مطروقة بين أفكار الامم القديمة الاخرى، قد كتبت لتوضيح فكرة انسانية بحتة لازمت الانسان منذ بدايات حياته الاولى، حيث اتخذت من الانسان وصراعه الازلي مع فكرة الموت موضوعاً لها ومحوراً لسير احداثها واصفة بمصداقية عالية وأسلوب إنساني بديع رغبة النفس البشرية في حب الحياة والسعي نحو البقاء والتشبث بالخلود.
وتمثل الملحمة تمثيلاً بارعاً الصراع الازلي ما بين إرادة الانسان وتشبثه بالوجود والبقاء، وبين حقيقة الموت البديهية التي فرضت عليه من قبل الآلهة التي استأثرت هي وحدها بالخلود، الذي تعذر على الانسان بشكل كامل بما فيهم الابطال الخارقين من كان ثلثاهم من الآلهة والباقي من مادة البشر الفاني، أمثال كًلكًامش، لتبقى حقيقة الموت المطلقة صورة مبهمة ولغزاً خفياً عن مدارك النسان، حتى بعد محاولته معرفة ماهية ذلك المصير المحزن المحتوم على جميع البشر، عن طريق السعي لمعرفة سر الخلود من رجل الطوفان (أوتونبشتم، زيوسيدرا، أتراحاسيس) لينتهي به الامر في نهاية المطاف الى الفشل الذريع والشعور بالاستسلام والقناعة بما كتب عليه.
لقد وضع المفكر العراقي القديم عند كتابته ملحمة كًلكًامش، عدة خيارات أمام الانسان بعد أدراكه لطبيعة نهايته المحزنة... فهل يصيبه اليأس والقنوط وينبذ الحياة، ليفر منها ويهيم بين أصقاع الارض شارداً هارباً منها، في محاولة منه لنسيان ذلك المصير المحتوم.. وهذا ما يتوضح بجلاء في المحاورة البليغة بين (كًلكًامش) وبطل الطوفان (أوتو_نبشتم)، الانسان الوحيد الذي منحته الآلهة الخلود...
يا (أوتو_نبشتم).. كيف لا تذوب وجنتاي ويمتقع وجهي
ويغمر قلبي الحزن وتتبدل هيئتي
ويصير وجهي اشعث كمن أنهكه السفر الطويل
وأهيم على وجهي في البراري ويلفحه الحر والقر
أن خلي وأخي الأصغر (أنكيدو) الذي أحببته حباً جماً
(أنكيدو) الذي تغلب على جميع الصعاب
وأرتقى أعالي الجبال ورافقني في جميع الأسفار
قد ادركه مصير البشرية
فبكيته ستة أيام وسبع ليال ولم أسلمه للقبر
حتى خرج الدود من فمه
لقد أفزعني الموت فهمت على وجهي في الصحارى
فالنازلة التي حلت بصاحبي قد جثت بثقلها على صدري
وأقضت مضجعي حتى همت مطوفاً في الصحاري
أذ كيف أهدأ ويقر لي قرار، وصاحبي الذي أحببت قد صار تراباً
وانا ألا سأكون مثله فأهجع هجعة لا أقوم من بعدها أبد الدهر؟
لذلك قد طوفت في كل البلاد واجتزت الجبال الوعرة
وعبرت كل البحار
ولم يغمض لي جفن ولم أذق طعم النوم
أنهكني السير والترحال وحل بجسمي الضنى والتعب
قال (أوتو_نبشتم) لكًلكًامش:
أن الموت قاس لا يرحم
هل بنينا بيتاً يقوم الى الأبد؟
وهل ختمنا عقداً يدوم الى الأبد؟
وهل يقسم الأخوة ميراثهم ليبقى الى آخر الدهر؟
وهل تبقى البغضاء في الأرض الى الأبد؟
وهل يرتفع النهر ويأتي بالفيضان على الدوام؟
أن الفراشة لا تكاد تخرج من شرنقتها
فتبصر وجه الشمس حتى يحين أجلها
ولم يكن دوام وخلود منذ القدم
وما أعظم الشبه بين النائم والميت
ألا تبدو عليهما هيئة الموت؟
ومن ذا الذي يستطيع أن يميّز بين العبد والسيد أذا وافاهما الأجل؟
أن الآلهة العظام تقدر المصائر
وتقسم الموت والحياة
فأبقوا على الموت سراً لم يكشفوا عن يومه
أم ترى الأنسان يقبل على الحياة بكل جوارحه، معتبراً إياها رحلة مفروضة عليه، يجب أن يعيش هناء تفاصيلها، يغتنم كل أوقاتها ليرتوي من لذاتها ومباهجها، ويعيش متعتها وكل لحظات سعادتها، فهي أن انتهت لا مجال لإعادة أيامها وتجديد ساعاتها وشبابها، وهذا ما وضحته (سيدوري) صاحبة الحانة الى كًلكًامش...
الى أين تسعى يا كًلكًامش؟
أن الحياة التي تبغي لن تجد
حينما خلقت الآلهة البشر
قدرت عليهم الموت
واستأثرت هي بالحياة
اما أنت يا كًلكًامش فليكن كرشك ملئاً على الدوام
وكن مرحاً ليل نهار
وأقم الأفراح في كل يوم من أيام حياتك
وأرقص وألعب ليل نهار
وأجعل ثيابك نظيفة زاهية
واغسل رأسك في الماء
ودلّل الطفل الذي يمسك بيدك
وأفرح الزوجة التي بين أحضانك
فهذا هو نصيب البشرية
أم يسلك الطريق الثالث فيقبل الانسان ذلك التحدي الصعب، ليقوم بأعمال عظيمة في حياته تخلده أبد الدهر، عن طريق الذكر الطيب والاحدوثة الحسنة بين الاجيال اللاحقة، وهذا تماماً ما قرره وسعى اليه بطل الملحمة، رغم أنه كان أقل بكثير من طموحه وما كان يتمناه باقي البشر، لكنه جاء معقولاً ومنسجماً مع العقائد الفكرية والدينية لشعب وادي الرافدين. وهذا ما يتوضح في ديباجة الملحمة...
هو الذي رأى كل شيء فغني بذكره يا بلادي
هو الذي عرف جميع الأشياء وأفاد من عِبَرها
وهو الحكيم العارف بكل شيء
لقد أبصر الأسرار وكشف عن الخفايا المكتومة
بنى أسوار (أوروك) المحصنة
ومعبد (أي_أنا) المقدس
أعلّ فوق أسوار (أوروك) وأمش عليها متأملاً
أفليس بناؤها بالآجر المفخور؟
ستجد كم عانى كًلكًامش من العناء والتعب
انه البطل سليل (أوروك) الذي فاق جميع الحكام
أنه المقدام في الطليعة
وهو الذي يكون في الخلف ليحمي أخوته وأقرانه
أنه المظلة العظمى حامي أتباعه من الرجال
أنه هو الذي فتح مجازات الجبال
وحفر الآبار في مجازات الجبال
وعبر البحر المحيط الى مطلع الشمس
لقد جاب جهات العالم
وهو الذي سعى لينال الحياة الخالدة
وبجهده استطاع أن يصل الى (أوتو_نبشتم) القاصي
وجاء بأخبار ما قبل الطوفان
واعاد بناء المدن القديمة المخربة
من ذا الذي يضارعه في الملوكية؟
من غير كًلكًامش يستطيع أن يقول: أنا الملك!
وإضافة الى الفكرة السامية الاساسية للملحمة، فأنها كذلك كانت زاخرة بصور اجتماعية جميلة عبرت بصدق عن مواضيع انسانية حساسة غائرة في النفس البشرية، وعن مشاعر عارمة لعلاقات البشر فيما بينهم كالحب والصداقة والوفاء والكره والحزن والرثاء والحنين الى ذكريات الماضي. وهل هناك كلمات مليئة بالشجن، وأكثر تعبيراً وصدقاً من تلك التي قالها كًلكًامش وهو يرثي صديقة أنكيدو...
اسمعوني أيها الشيوخ وأصغوا الي
من اجل (أنكيدو)، خلي وصاحبي أبكي
وأنوح نواح الثكلى
أنه قوة ساعدي والفأس التي في جنبي
والخنجر الذي في حزامي والمجّن الذي يدرأ عني
أنه فرحتي وبهجتي وكسوة عيدي
لقد ظهر شيطان وسرقه مني
(أنكيدو) يا صاحبي وأخي الأصغر
لقد طواك ظلام الليل فلم تعد تسمعني
لتندبك الدروب التي سرت فيها
وعسى ألا يبطل النواح عليك مساء نهار
ليندبك شيوخ (أوروك) ذات الأسوار
وليبكيك الفرات الطاهر الذي كنّا نسقي منه
لينح عليك محاربو (أوروك) ذات الأسوار
وليبكيك الأخوة والأخوات
لهذا نجد في ملحمة كًلكًامش ولأول مرة في تاريخ آداب العالم مثل هذه التجربة الراقية في الكتابة، وبمثل هذا المستوى الرائع من الأسلوب والحبكة والمغزى. لذلك ظلت الملحمة محتفظة بشهرتها العظيمة منذ أيام سومر وحتى وقتنا الحاضر، ولا عجب أن تكتب في تحليل رمزيتها، وسير أحداثها وأبعادها التاريخية وطبيعة شخوصها، آلاف الدراسات والبحوث والرسائل الجامعية في العديد الجامعات العالمية، ومراكز الأبحاث التاريخية، وبمختلف اللغات.
825 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع