بقلم لواء الشرطة الحقوقي
محي الدين محمد يونس
خزين ذاكرتي وطريف الحكايات - فندق مريديان
في بداية خريف عام 1984 تم قبولي للدراسة في المعهد العالي لضباط قوى الأمن الداخلي في بغداد والدراسة فيها لمدة سنة واحدة ينال المتخرج فيها شهادة الدبلوم العالي في العلوم الأمنية والمتفوق قدماً في وظيفته لمدة ستة أشهر، عند ترشيحي للقبول في المعهد المذكور كنت برتبة رائد شرطة واشغل منصب مدير شرطة قضاء راوندوز ...
باشرت الدوام مع زملائي ضباط الشرطة من كافة انحاء العراق المقبولين معي وكان عددنا واحد وأربعون ضابطاً ومن مختلف صنوف الشرطة (الشرطة، المرور، الجنسية، الدفاع المدني) ورتبنا من ملازم أول إلى مقدم، كنا نسكن في القسم الداخلي الملحق بالمعهد وفيه مطعم يقوم بتأمين الطعام للضباط الدارسين لثلاث وجبات, كنا ملزمين بالدوام أيام السبت والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء من كل أسبوع لذلك كنت اعود الى أربيل محل سكني بسيارتي الخاصة بعد انتهاء المحاضرات في الساعة الواحدة من ظهر كل يوم أربعاء ومن ثم أعود الى محافظة بغداد في أوقات متأخرة من يوم الجمعة ليلاً حيث كانت الظروف الأمنية مستقرة بسبب فرض الدولة لسيطرتها الكاملة على الأوضاع.
خلال فترة الدراسة ووجودي في محافظة بغداد وجه لي المرحوم (عمر خضر آغا السورجي) دعوة غداء في داره الواقعة قرب الجندي المجهول القديم في الشارع المقابل لمطعم خان دجاج بحكم علاقة الصداقة بيننا، وفعلاً حضرت إلى دار المذكور في الموعد المحدد وكان عنده ضيف سبقني بالحضور وكان عربياً يتكلم بلكنة سورية قدمه لي المرحوم (عمر آغا) على أنه السيد (يوسف) سوري الأصل ومتجنس بالجنسية الفرنسية ويعمل منسقاً عاماً بين الشركات الفرنسية العاملة في العراق والحكومة العراقية.
المرحوم عمر آغا السورجي
جلسنا مع ضيف المرحوم (عمر آغا السورجي) لمدة ساعتين وانشغلنا في تناول الطعام والحديث عن تفاصيل عمل السيد (يوسف) في العراق وإعجابه بالمنطقة الشمالية (كردستان) ووعدني بزيارتي مستقبلاً في أربيل ..
وفي نهاية الدعوة هذه تكرم علينا السيد (يوسف) بدعوتنا لتناول طعام الغداء في مطعم فندق ميرديان في اليوم التالي حيث كان نزيلاً فيه وفي الساعة الثانية وفعلاً حضرت في اليوم التالي وبعد ان أوقفت سيارتي في باحة وقوف السيارات ودخلت مطعم الفندق شاهدت السيد (يوسف) فيه بانتظارنا وبعد الجلوس في انتظار المرحوم (عمر خضر آغا السورجي) والذي حضر على عجل معتذراً مشاركتنا الغداء لارتباطه بموعد عمل مهم وعارضا علينا دعوتنا على الغداء في اليوم التالي وفي نفس هذا المكان وفعلاً انصرف واستمرينا أنا والسيد (يوسف) في تناول الغداء والحديث في مختلف أمور الحياة والانصراف بعد ذلك مودعاً من قبله على أمل استمرار اللقاء بيننا...
بعد أسبوعين من هذا اللقاء وفي يوم الخميس أثناء وجودي في محافظة أربيل في داري اتصل بي المقدم (يوسف عبد الله) مدير الشؤون الداخلية في محافظة أربيل طالباً حضوري عنده لأمر هام وبالرغم من إلحاحي عليه إلا انه لم يفصح لي عن طبيعة هذا الأمر الهام.
ارتديت ملابسي وذهبت إلى المكان المقصود دون معرفة أسباب طلبي رغم التفكير العميق عن ذلك، وبعد جلوسي معه في مكتبه وتكرار طلبي منه بيان أسباب استدعائي حيث نهض من مكانه واتصل هاتفياً بشخص معين مخبراً إياه: ((إخوان الرائد محي الدين موجود عندي)).
أغلق الهاتف ومن ثم جلس وأنا أتساءل منه: ((أبو محمد من هؤلاء الجماعة وماذا يريدون مني)).
أجابني والابتسامة تعلو شفتيه: ((ماكو شي لا تخاف الجماعة جايين وعدهم جم سؤال))
سألته: ((من هم الجماعة... ؟))
أجابني: ((هسه يوصلون وتعرفهم))
كاتب المقال مع السيد يوسف عبد الله مدير الشؤون الداخلية لمحافظة اربيل
ولحين وصولهم وانا أفكر ولكنني لم اتوصل إلى نتيجة لكوني لم اكن أشك في نفسي باقتراف أي عمل مخالف للقانون وانا في خضم التفكير وإذا بثلاثة شبان يدخلون الغرفة وبعد السلام وردنا عليهم جلسوا معنا وبعد دقائق طلبوا من المقدم (يوسف) الخروج من الغرفة وتركنا لوحدنا وأوصوه بالإيعاز للشرطي الواقف في باب الغرفة بعدم السماح لأي شخص بدخول الغرفة انتابتني مشاعر القلق وعدم الارتياح وأنا اجدد مع نفسي يا ترى من هؤلاء الشباب وما هي غايتهم في طلبي ومقابلتي وأسلوب تعاملهم مع المقدم (يوسف) زاد من مخاوفي وأكثر من ذلك عندما تحدث نفس الشخص والذي تبين بأنه كان الأقدم بين الثلاثة من الناحية الوظيفية...
رائد محي الدين – احنا ضباط من جهاز المخابرات... ((وهنا أخذت أردد مع نفسي إجاك الموت يا تارك الصلاة))
سألني: ((زين انت ما تعرف ممنوع الاختلاط بالأجانب من دون علم السلطة وخاصة عندما يكون العراقي عسكرياً أو ضمن الأجهزة الأمنية والمؤسسات المهمة...))
أجبته: ((لكنني لم اتصل أو اختلط بأي شخص أجنبي))
رد علي قائلاً: ((كيف لم تتصل هل انت متأكد من إجابتك ونحن لدينا الأدلة الدامغة حول ذلك...))
أجبته: ((أخي أي أجنبي أنا في حياتي لم تكن لدي أية علاقة بأي أجنبي))
استفز من إجابتي وهو يقول: ((رائد محي الدين – أنت شتكَول لعد قبل أسبوعين مو أنت الجنت كَاعد ويه الشخص الفرنسي في مطعم فندق مرديان))
أجبته باستغراب: ((منو يوسف))
أجابني: ((نعم يوسف))
أجبته: ((في هذا الوقت والمكان الذي تذكره لم التقي سوى مع شخص عربي من القطر السوري يدعى يوسف))
رد علي: ((أخي المذكور من أصول سورية ولكنه فرنسي الجنسية أي أجنبي وحتى لو كان سوريا فهو ليس عراقي)) – وكانت العلاقات بين العراق وسوريا في تلك المرحلة في أشد حالاتها سوءاً – ((أخي أنت رائد في الشرطة العراقية وكان الأجدر بك عدم الاتصال أو الاختلاط بمثل هكذا شخص وإن دائرتنا اكتفت بإرسالنا لتبليغك بالابتعاد عنه بعد أن تأكد لدينا حسن سيرتك وسلوكك وما قمت به من تصرف مخالف للتعليمات لم يكن بسوء نية))
أجابني الضابط في المخابرات العراقية: ((زين رائد محي الدين إذا طلبنا منك أن تستمر في علاقتك مع هذا الشخص وتراقبه ... شتكَول))
لحظات وأنا أفكر في الإجابة على استفساره المحرج وأخيراً أجبته: ((نعم أستطيع)) وكانت إجابتي له بهذا الشكل لي فيها غايات!
نهض الثلاثة وصافحوني مودعين ومؤكدين قطع علاقتي بالشخص المذكور وعدم الاتصال به إلا بعد الإيعاز منهم.
بعد خمسة عشر يوماً اتصل بي نفس الشخص وهو يخبرني ويطلب مني اعتبار الموضوع منتهياً عند هذا الحد، بعد فترة زارني الضابط المذكور في دائرتي في مديرية شرطة محافظة أربيل وبعد الحديث في مختلف الأمور وجهت له سؤالاً عن كيفية تحديد هويتي عندما كنت جالساً مع الشخص الفرنسي في مطعم فندق مرديان.
أجابني ضاحكاً: ((إن مراقبة الأشخاص الأجانب هو من صلب واجباتنا وهذا الشخص السوري الأصل والفرنسي الجنسية مراقب من قبل عناصرنا وعندما جلست معه دخلت ضمن نطاق المراقبة وعند انتهاء اللقاء بينكما وانصرافك إلى رحبة وقوف السيارات في الفندق تم تسجيل رقم سيارتك ونوعها (فولفو) وتحمل لوحات مرور لمحافظة أربيل، حيث تم توجيه الاستفسار للدائرة المعنية وتم الاهتداء إلى اسمك وعنوانك – أخويا احنا في جهاز المخابرات ما يضيع علينا شي))
في الختام اطمح في رضا أعزاءي القراء على مقالتي هذه والتي تتناول حكاية من الزمن الماضي ومن الله العلي القدير التمس الغفران والرحمة للجميع.
2027 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع