عوني القلمجي
الانتفاضة الكبرى مقابل الكتلة الاكبر
لو كان لهذه الاحزاب المشاركة في العملية السياسية، وتلك التي فازت بالانتخابات الاخيرة ودخلت في مستنقعها، ذرة من الغيرة والاخلاق والشرف، لاهتمت قليلا، ولو من باب الخداع والتضليل، بمطالب الحد الادنى للمنتفضين كالماء والكهرباء، لا ان تنصب جهود قادتها على عقد التحالفات والتسابق فيما بينهم حول تسمية الكتلة الاكبر لتفوز بتشكيل الحكومة القادمة، وتضمن لنفسها حصة الاسد من جسد العراق الجريح، او كما يسموه، دون حياء او خجل، بالكعكة العراقية. لكن ذرة الغيرة والاخلاق والشرف هذه قد فقدتها تلك الاحزاب، منذ قبولها بدور العميل لقوى الاحتلال وتنفيذ مخططاته الغادرة، سواء كان المحتل امريكيا او ايرانيا.
ولضمان حصة الاسد توجه متزعمو هذه الاحزاب، وهم في عز السباق، الى اولي الامر، وخاصة امريكا وايران لتقديم فروض الطاعة والولاء، فهم يعلمون علم اليقين بان هذه الدول هي التي تتحكم بتشكيل الحكومة، وهي التي تسمي رئيسها، بصرف النظر، عن نتائج الانتخابات المزورة او قوة هذه الكتلة او تلك. وخير دليل على ذلك هو ما فعلته مع نوري المالكي الفائز الاول في انتخابات سنة 2014 وحرمته من تشكيل الحكومة، مثلما اسقطت قبله ابراهيم الجعفري، وهو مرشح الكتله الفائزة في انتخابات سنة 2005 ، في حين منعت اياد علاوي من تشكيل الحكومة، دون اي تفسير، وهو الفائز الاول في انتخابات سنة 2010. ولا يغير من هذه الحقيقة، قتال هؤلاء في الوقت الضائع، فهم يأملون من خلاله البقاء في مناصبهم وان كان شكليا، لانها اصبحت في العراق "المحرر"، منجما من الذهب وطريقا للجاه والشهرة، ناهيك عن ان الذي يفقد منصبه سيتعرض للعقاب على يد الشعب العراقي جراء الجرائم التي اقترفوها واموال الحرام التي جنوها، وجراء تعاونهم مع المحتل وتنفيذ مخططه لتدمير العراق دولة ومجتمع.
اما السؤال عن سماح امريكا لهذه الكتل بالصراع حول تشكيل الحكومة لشهور عديدة ولم تحسمه منذ البداية، فذلك يدخل ضمن عملية الخداع والتضليل او"عدة الشغل" كما يقال، حيث تسعى امريكا من وراء ذلك الى اقناع الخلق بان ما يجري من صراع على السلطة، ليس سوى مظهر من مظاهر النظام الديمقراطي الذي اقامته في العراق، اضافة الى اشغال عامة الناس بهذا الصراع وانتظار ما ينتج عنه لكي ينسوا همومهم ومعاناتهم، ويدخلو من جديد في خانة الانتظار مرة اخرى.
اطرق هذا الباب بسبب محاولات المرتزقة والوصولين الحثيثة لقلب الحقائق وتبيض صفحة هؤلاء العملاء من خلال تسويق الحكومة المرتقبة وبرلمانها المزورعلى انها حكومة وطنية مستقلة وعابرة للطائفية، وستضم شخصيات من التكنوقراط لتكون قادرة على اخراج العراق من ظروفه الصعبة التي يمر بها حاليا، ليجري الوصول الى تمريرها بين الناس وكسب التاييد لها، وبالتالي تبرئة ساحة احزابها الحاكمة من سرقاتها وجرائمها وتدميرها للعراق دولة ومجتمع.
وكان اكثر ما يثير الاستهجان في هذا الخصوص، هو الموقف الغريب لبعض الاقلام وبعض المثقفين والسياسيين المستقلين، كونه يضفي على هذه الاكاذيب نوعا من المصداقية، بصرف النظر فيما اذا كانت النوايا حسنة ام مقصودة، ففي الوقت الذي توصل فيه عامة الناس الى قناعة بعدم جدوى المراهنة على الحكومة القادمة واقتناعهم بعمالتها للاجنبي وبفسادها وسرقتها للمال العام وارتكابها للجرائم في وضح النهار، يدعون العراقيين لوضع ثقتهم بالحكومة القادمة ويعشموهم بالانجازات التي ستحققها، وخاصة مطالب ابناء الانتفاضة البواسل. هذا الدور الخطيرالذي يقومون به يعد مساندة حقيقية في دعم هؤلاء الاشرار ومشاركة فعلية في تنفيذ مخطط تدمير العراق واهله. خاصة وان فئات واسعة من العراقيين قد اصابها الاحباط جراء عجز الانتفاضة، منذ اندلاعها قبل عدة اسابيع ولحد يومنا الحاضر، عن تحقيق اي مطلب من مطالبها، سواء السياسية منها او الخدمية، او حتى محاسبة فاسد او مجرم من رؤوس السلطة.
لا نجادل في وجود برامج سياسية تدعي، زورا وبهتانا، الوطنية والاخلاص والشرف، سواء من قبل القدامى ذوي الوجوه الكالحة او من القادمين الجدد ذوي الاقنعة المخادعة، لكن الوقائع العنيدة اثبتت، بما لا يدع مجال للشك، بان كل هذه البرنامج ليست سوى حبر على ورق، غرضها ذر الرماد في العيون. فعلى سبيل المثال لا الحصر، فان زعيم كتلة سائرون مقتدى الصدر، وبعد فوزه مباشرة بالانتخابات، قد تخلى بالكامل عن برنامجه المتضمن 45 بندا، وخاصة البنود المتعلقة بمحاربة الفساد والغاء المحاصصة الطائفية، ودعوته الى ثورة حقيقية ضد الفاسدين وفتح ملفاتهم الكبرى ووضعهم خلف القضبان، وخير دليل على ذلك، مبادرات مقتدى لاقامة تحالف مع راس الفساد عمار الحكيم، الذي وصفه الشعب العراقي بزعيم النشالة، ومع هادي العامري، الذي يعلن دون حياء او خجل، بانه يسعى لان يكون العراق مثل ايران ويؤمن بولاية الفقيه، ومع اياد علاوي عراب الاحتلال، الامريكي. وهذا بدوره سيؤدي حتما بمقتدى الصدر وتيارة الى الاشتراك بالحكومة القادمة وقبوله مجددا بنظام المحاصصة الطائفية والعرقية. اما حديثه عن تشكيل كتله معارضة في البرلمان، اذا لم ينفذ برنامجه المنمق، فهذه بدعة جديدة لا مكان لها من الاعراب كما يقال.
لكن هذه الحقيقة، رغم مرارتها واثارها السيئة ونتائجها الضارة، لا تبيح لنا التخلي عن دورنا السياسي من خلال الدعوة الى التمسك بموقف المعارضة الوطنية العراقية، وبالذات الانتفاضة الباسلة والاخذ بيدها لتعود قوية ومهابة وواعدة، ومن دون ذلك فان هذه الحكومة القادمة ستواصل عملها وتنفيذ مخطط تدمير العراق كما تريد امريكا وتابعتها ايران على اكمل وجه، ومن يراهن على القادمين الجدد بقدرتهم على الاصلاح مراهنة ساذجة، فمن يدخل العملية السياسية في ظل الاحتلال يصبح عميلا للاجنبي وياتمر باوامره دون ريب او شك. وفي هذا الخصوص، فان الدور السياسي الذي نعنيه، ليس صورة محسنة، عن تلك التي الفناها من قبل، والمتعلقة بالنشاط السياسي ضد الحكومة واظهار عمالتها، فهذه قد فضحت نفسها بنفسها، وانما نعني به غير ذلك، والمقصود هنا تعبئة الناس وتهيئتها وتشجيعها من اجل دعم الانتفاضة بكل الوسائل والسبل المتاحة، ودحض محاولات النيل منها، او تشويه سمعتها، وحمايتها من الانتهازيين والوصولين الذي يحاولون ركوب موجتها لتحقيق مكاسب فئوية او حزبية، كون هذا الفعل السياسي يشمل مساحة اوسع في المجتمع وله قدرة اكبر على تعبئة مكوناته واطيافه السياسية.
نعم، الانتفاضة لم تتمكن من السير قدما نحو تحقيق اهدافها، الا ان ذلك لا يعني هزيمتها على الاطلاق، فلقد سبق للانتفاضة، منذ انطلاقتها في بداية عام 2011 ، ان مرت بمثل هذه الحالات، لكنها تمكنت من نفض الغبار عنها وولدت من رحمها انتفاضات عديدة كان ابرزها، تلك الانتفاضة العملاقة التي شملت لاول مرة معظم المدن العراقية، وخاصة المدن الجنوبية، وشاركت فيها جميع فئات الشعب وتياراته السياسية المختلفة واديانه ومذاهبه المتعددة. ولاول مرة ايضا ترتقي شعاراتها المطلبية، مثل توفير الخدمات كالماء والكهرباء، الى شعارات سياسية، من قبيل الغاء المحاصصة الطائفية والعرقية وتعديل الدستور وفصل الدين عن الدولة وتطهير القضاء ومحاسبة المفسدين الخ. بل ذهب بعضا منها ابعد من ذلك، لتصل الى حد المطالبة بطرد المحتل، سواء كان امريكي او ايراني. والمقصود بهذه الانتفاضة تلك التي اقتحم ابنائها المنطقة الخضراء واجبرت وزراء الحكومة ونواب البرلمان على الهروب كالجرذان المذعورة، ولولا سرقة الانتفاضة من قبل مقتدى وتياره والحزب الشيوعي واتباعه لاسقطت العملية السياسية دفعة واحدة.
ان الانتفاضة الشعبية المباركة التي اندلعت منذ عدة اسابيع لم تزل نيرانها متقدة، ولم تزل طاقاتها وامكاناتها الثورية والابداعية متفجرة، والقيادات الشابة التي افرزها طريق الكفاح، على مدى السنين الماضية، اصبحت واعية واكثر خبرة، ومن جهة اخرى يزداد يوما بعد اخر حجم الاستياء الشعبي ضد الحكومة وعمليتها السياسية الطائفية، ليشمل طول البلاد وعرضها، جراء السقوط السياسي والاخلاقي المدوي لاطرافها، وجراء الدمار والخراب والقتل وسرقة ثروات البلد والفساد المالي الاداري وانعدام الخدمات. في حين لا تلوح في الافق اية بارقة امل لتحسين الاوضاع المزرية. فالفئة المتحكمة بالسلطة والقرار، مصرة على رفض اي إصلاح مهما كان متواضعا تحسبا من المطالبة باصلاحات اخرى اكثر قيمة وجدية.
كاتب هذه السطور على يقين بان هذه الانتفاضة ستقرب من موعد الانتفاضة الكبرى، وعلى يقين ايضا بان شعاراتها لن تكون سلمية الى الابد، وبان اعلامها لن تكون بيضاء، وان سلاحها لن يقتصر على اللافتات والهتافات، وانما سترتفع الى جانبها، شعارات ثورية مدوية واعلام حمراء ، وسلاحها ما يتوفر بيد ابنائها من حجارة او عصا او بندقية. فشعبنا قد ادرك تماما، بان المحتل، سواء كان امريكي او ايراني، او عملائه، سواء كانوا من هذه الطائفة او تلك، من هذا الحزب او ذاك، لن يتنازلوا عن مكسب واحد من مكاسبهم طواعية او سلميا. وهذه حقيقة، ومن يجانبها يساهم مساهمة فعالة في تثبيت سلطة الاحتلال وعمليته السياسية من جهة، ويشجعها على الاستمرار في تدمير العراق واستباحة دماء ابنائه من جهة اخرى.
نعم الانتفاضة الكبرى قادمة عاجلا ام اجلا وان النصر سيكون حليفها هذه المرة بكل تاكيد.
عوني القلمجي
24/8/2018
907 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع