جمهور كركوكلي
حكايات من ذاكرة كركوك .....
تحفلْ سِير الأدباء والعلماء وكتبُهم بأمثلةِ كثيرةٍ للفكاهة والظرافة ، فهي عندهم كما يقال ( نزهةُ النفس وربيع القلب ومرتع السمع ومجلب الراحة ) كما أنها ترويح عن النفس وراحة لها ، ومتنفس عن هموم ومنغصّات الحياة اليومية ، حتى أن بعضهم عَّد الدعابة والتهّكم ضربا من الوظيفة الاجتماعية التي تقوم بمهمة النقد الهادف ، والتقويم والقصاص السلمي ، شريطة أن لا تهدف الى التعريض بالاخرين ، والحطّ من شأنهم .
ومن أشهرِ مَنْ عرفتهم من الأدباء والعلماء في كركوك ، ممن اتصّفوا بروح الدعابة والظرافة ، العالم والحافظ والاديب الراحل ( نورالدين بقال اوغلو ) فهو الى جانبه تبّحره في علوم القران ، حفظاً وترتيلاً وتفسيراً ،
كان بارعاً في الالمام بالادبِ التركي القديم ، وضليعاً في فنونِ الأدبِ الشعبي والخوريات ، رغم كونه ضريراً ، فقد البصر اثر اصابته بمرض الجدري وهو في الثانية من عمره ، وكنت أزوره كلما سنحت لي الفرصة في مدرسة تحفيظ القران ، الملحقةِ بجامع ( آل قيردار ) بكركوك ، حيث كان يَعمل مديراً لها ، منذ وفاة سَلَفِهِ ، الحافظ ( الملا عبود ) سنة 1980 ، وظّل مواظباً على عَملِهِ في المدرسةِ المذكورةِ ، الى أن توفاه الله الى رحمته في الثاني عشر من شهر اذار سنة 2007 ، بعد عمر جاوز الخامسة والسبعين ، قضاه في خدمة القران الكريم ، وتخرج على يديه العشرات من الحفظة والمقرئين ..
والمرحوم كان لا يتحّرج ولا يضيق من البعض الذي يناديه ب ( ملا نوكه ) الذي هو تصغير لاسم نورالدين كما هي العادة الجارية عند الكركوكليين الذين يُطلقون اسماءَ التصغيرِ على ابنائِهم وأحبائِهم ، كنوعٍ من الدَلَعِ والتحّبب .
وكان مجلسه الصباحي في المدرسة ، يعج بمحبيه واصدقائه الذين يزوروه ، لينهلوا من علمه الوفير، ويستمعوا الى حديثه الشّيق والممتع . وكان من بين تلامذته ، من الملالي الذين كان ، جلّهم من ( العميان ) فتىً اسمُه ( شوكت ) عُرِفَ عنه البلادةُ والكسل ، شرساً ، حاد الطباع ، وكان زملاؤه يشكونه دوماً الى ( الملا ) .
كُنت عِنده ذاتَ يومٍ ، وهو يُنادي على تلامذته ، ويُجلِسَهم امامه ، واحداً تِلوَ آخر ، ويستمع الى ما حفظوه ، ليُصحّح لهم الخطأ ، ويُلقي عليهِم دروساً ًجديدةً في الحِفظ والقراءة . ونادى على ( شوكت ) واجلسه أمامه على الكرسي ، وساله : من اين تبدا .؟
أجابه شوكت : من بداية سورة ( الجن ) يا مولاي .
فقال له الملا : هيا اقرأ ..
والعادة تقضي ان يبدأ التلميذ بالاستعاذة ثم بالبسملة ، قبل الشروع بقراءة الاية ، لكن ( شوكت ) ابتدأ القراءة بالبسملة دون الاستعاذة ، فَنَهرهُ ( الملا ) قائلاً : ويحك نَسِيتَ ذِكر ( صديقك ) والأستعاذةَ منه ، مُلّمِحاً الى إسم ( الشيطان الرجيم ) ..!
غص الحاضرون بالضحك وانا معهم ، لسرعة بديهة المرحوم الملا نورالدين ، وطريقة دعابته مع تلميذه البليد والكسول ( شوكت ) ..
رحم الله تعالى ، العالم والأديب والحافظ الكبير ( الملا نورالدين بقال اوغلو ) الذي كان اخر العنقود في قائمة الظرفاء من الأدباء ، وخاتمة الطرفاء من العلماء في كركوك ، وهو الذي كان يرّدد دوما ، قول الامام علي عليه السلام ( إن القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة ) ....
1142 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع