بقلم لواء الشرطة الحقوقي
محي الدين محمد يونس
خزين ذاكرتي وطريف الحكايات
هكذا كان العراق والعراقي
في أيلول من عام 1978 قمت بسفرة سياحية بصحبة قريبي (الحاج ياسين) إلى دولة تركيا استمرت لمدة شهر بسيارة الأخير والتي كانت من نوع لادا طراز نفس العام وصادف وجودنا هناك ونحن على أبواب العودة إلى العراق إذ حصل خلاف بين العراق وتركيا لامتناع الأخيرة من تسديد الديون المالية المستحقة عليها والبالغة خمسة ملايين دولار أمريكي عن قيمة النفط الذي استوردته من العراق وعلى أثر هذا الخلاف قامت الحكومة العراقية بقطع امدادات النفط ومشتقاته عنها وتسبب ذلك حصول أزمة خانقة وفوضى عارمة في جميع المدن التركية حيث كنا نشاهد الطوابير الطويلة من السيارات أمام محطات تعبئة الوقود بالإضافة إلى شيوع السوق السوداء وارتفاع أسعار الوقود بشكل خيالي وتناقلت وسائل الإعلام العالمية هذا الخلاف والإجراءات العراقية في وسائلها المختلفة.
كاتب المقال مع الحاج ياسين في مدينة اسطنبول شهر ايلول عام 1978
في طريق عودتنا للعراق وبعد خروجنا من إسطنبول توقفنا عند إحدى محطات تعبئة الوقود لغرض التزود منها واملاء خزان سيارتنا وكان سعر اللتر فيها أضعاف مضاعفة السعر الذي كان سائداً عند مجيئنا إلى هذا البلد لأول مرة.
كان يقف بالقرب من المضخة التي نستعملها شاب تركي بملابس وهيئة انيقة وكان يمعن النظر إلينا ومن ثم خاطبنا قائلاً ((قريبي يترجم كلامه لي وردي عليه))
الشاب التركي: ((هل أنتم من العراق)) بعد أن لاحظ لوحة السيارة
أجبناه: ((نعم نحن من العراق))
سألنا: ((إذنً لماذا قمتم بقطع إمدادات النفط ومشتقاته عنا))
طلبت من قريبي أن يقول له: ((قمنا بقطع النفط ومشتقاته عنكم لأنكم مدينون لنا بمبلغ خمسة ملايين دولار أمريكي وحكومتكم تتلكأ عن تسديد المبلغ وحسب الاتفاق المبرم بين الحكومتين ومتى ما سددتم هذا المبلغ سنعيد لكم امدادات هذه المادة الضرورية للحياة)) كان الحوار بيننا وكأنه بين ممثلي الحكومتين...!
عندها أخذ الشاب التركي يتكلم بعصبية وبحدة وهو يقول: ((انظر الله سبحانه وتعالى لمن يعطي النفط لشعب لا يستطيع صنع قدح شاي (استيكان))
أجبته من خلال قريبي (الحاج ياسين): ((إن الله العلي القدير قد وهبنا وانعم علينا بهذه الثروة النفطية الهائلة فما حاجتنا في أن نشغل نفسنا بهكذا أمور تافهة، نترك ذلك إلى الشعوب الأخرى لتقوم بذلك عوضاً عنا وندفع لهم أجور أتعابهم))
مدينة إسطنبول التركية
لاحظنا تبدل مزاج الشاب وتغير ملامح وجهه متأثراً من الكلام الذي اسمعته إياه وأخذ ينادي على شباب آخرين... توجسنا منه شراً... ولما كنا قد أنهينا مهمتنا في التزود بالوقود... هرعنا إلى سيارتنا مسرعين، وبعد ركوبنا فيها قام (الحاج ياسين) بتشغيلها وطلب مني النظر إلى الخلف لأرى ما سيفعله بالشاب التركي, حيث قام بالضغط على كابح الوقود (سكريتر) بشدة ورفع الضغط عن الفاصل (الكلج) أيضاً بشدة بعد أن كان قد وضع عتلة التبديل (الكَير) على درجة الانطلاق (نمرة/1) نتج عن ذلك انطلاق السيارة بسرعة (بطناش) وتطاير الحصى والتراب من تحت عجلاتها الخلفية والشاب يقوم وبكلتا يديه بنفض ما علق بملابسه من المواد لكون ساحة محطة التعبئة لم تكن مبلطة, ابتعدنا عنه مسرعين وكنت أنظر إليه من النافذة الخلفية للسيارة وهو يحرك احدى يديه وأصابعه تشير إلى قيامه بسبنا.
سيارة لادا موديل عام 1978
القصد من تناولي الحديث عن هذا الحوار بيننا وبين الشاب التركي في شهر أيلول من عام 1978 للدلالة على مدى قوة ومكانة العراق سياسياً واقتصادياً بين الدول في العالم وانعكاس ذلك على شخصية الفرد العراقي الذي كان مرفوع الرأس ويعتز بعراقيته ويفتخر بانتمائه إلى هذه الأرض الطيبة المعطاء ويفضلها على أي مكان آخر على وجه الأرض ويصفها بالجنة ولم يكتفي بذلك بل يبالغ في حبه له عندما يعتبر حتى ناره جنة، وهذا هو المطرب العراقي (رضا الخياط) حينما يغرد بهذه الأغنية الجميلة: -
جنة جنة جنة
والله يا وطنا
يا وطن يا حبيب
يا بو تراب الطيب
حتى نارك جنة
المطرب العراقي رضا الخياط
هناك مثل كردي متداول فحواه: ((كل الأشياء تنقطع عندما تكون رفيعة إلا الإنسان فهو يتقطع عندما يكون غليظاً)) والمثل يقصد منه بأن الإنسان وحده عندما يشعر بالغرور والكبرياء يجعله يتصرف وفق منطق غير مسؤول وخارج التصور الحقيقي للواقع ويكون ذلك إيذاناً له بالسقوط والنهاية وهذا هو حال الرئيس العراقي السابق (صدام حسين) بارتكابه أخطاء كثيرة وكبيرة على الصعيد الداخلي والخارجي وعلى الخصوص عند استلامه كامل المسؤولية في رئاسة الدولة العراقية.
في عام 1979 حيث بدأ حكمه بمجزرة الرفاق في قاعة الخلد ولم يمضي على هذا إلا أشهر قليلة ودخل في حرب طاحنة مع إيران استمرت ثمانية سنوات ألحقت بالدولتين خسائر فادحة في الجانب البشري من آلاف القتلى والجرحى والأسرى والمفقودين إضافة إلى الخسائر في الجانب الاقتصادي القائم والمستقبلي ولم تكد تنتهي هذه الحرب الطويلة المدمرة وفي خطوة غير متوقعة أمر قواته بتنفيذ الخطأ القاتل عندما احتلال دولة الكويت في 2/8/1990 وقيام قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بإخراجه وجيشه منها بعد الهزيمة المرة النكراء التي وصدق شاعرنا (عباس جيجان) حينما قال مناشداً الرئيس العراقي: ((ما تكَلي شبيك يا ثور القوي تروح تناطحه)).
الشاعر العراقي عباس جيجان
وكان من تداعيات هذه الحرب القاسية إعادة العراق لقرون إلى الوراء في كافة النواحي وواقعنا المتردي خير دليل على ذلك...
2988 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع