بدري نوئيل يوسف
من حكايات جدتي ... السابعة والستين
طفل بدون اذنين
حدثتنا جدتي في هذه الليلة قائلة: قام أحد العلماء بعرض مسابقة على أطفال احدى القبائل الإفريقية البدائية،
حيث وضع سلة من الفاكهة اللذيذة قرب جذع شجرة، وقال لهم:
ـ أول طفل يصل الشجرة سيحصل على السلة بما فيها .
عندما أعطاهم اشارة البدء تفاجأ بهم يسيرون سويا ممسكين بأيدي بعضهم حتى وصلوا الشجرة، وتقاسموا الفاكهة اللذيذة.
سألهم لماذا فعلتم هذا مع أنه يستطيع كل واحد منك الحصول على السلة له فقط.
أجابوه بتعجب:(أوبونتو) كيف يستطيع أحدنا أن يكون سعيداً فيما الباقين تعساء؟
وكلمة أوبونتو في حضارة القبيلة تعني : ( أنا أكون لأننا نكون).
تلك القبيلة البدائية تعرف سر السعادة الذي ضاع من نفوس ترى نفسها فوق غيرها، ضاع في جميع المجتمعات المتعالية والتي تعتبر نفسها مجتمعات متحضرة. والسعادة سر لا تعرفه إلا النفوس المتسامحة المتواضعة، التي شعارها نحن وليس أنا، فكل شيء ينقص إذا قسمته على اثنين إلا (السعادة) فإنها تزيد إذا تقاسمتها مع الآخرين. والسعادة لا تهبط عليكما من السماء بل أنتم من يزرعها في الأرض.
أما حكايتنا لهذه الليلة تقول: أنه بعدما أفاقت أم من تأثير المخدر بعد ولادة قيصرية مؤلمة، طلبت من الممرضة ابنها الذى انتظرته لسنين طويلة، احضرته الممرضة ووضعته في حضنها ثم خرجت، رفعت الام الغطاء من على وجهه الطفل، اخافها ما رأت طفل بلا اذنين، إلا انها ابتسمت فى وجهه ورفعت يديها وشكرت الله على عطيته مهما كانت، واحتضنت الطفل فى صدرها وهمست اليه انت ابنى مهما تكون.
بدأ الطفل ينمو ومع الايام واجهت الام صعوبات كثيرة من خلال مضايقة اصدقائه وجيرانه وأقربائه إلا انها دائما كانت مبتسمة فى وجهه وداعمة له، ولن تنسى تلك المرة التى رمى بنفسه فى احضانها باكيا من استهزاء احد اصدقائه عليه، وتسميته بالوحش، إلا انها قالت: أحبك مثل ما أنتَ.
رغم هذه الاعاقة إلا ان اداؤه كان متميزا فى الدراسة، حتى دخل كلية مرموقة، وفى احد الايام كان والده جالساً مع احد الجراحين المشهورين، فحكى له مأساة ابنه وقال له الطبيب: ان هناك عمليات نقل للأذنين، ولكنها فى حاجة لمتبرع، فوافق الاب على اجراء العملية حينما يظهر اي متبرع.
وبعد فترة من الزمن، اتصل الطبيب بالأب، وقال: لقد وجدنا المتبرع لإجراء العملية لابنك.
سال الاب من هذا حتى أشكره فرفض الطبيب ذكر أسمه بناءاً لرغبة المتبرع.
وأجريت العملية بنجاح، وأصبح الطفل الوحش رجلا وسيما، وهذه الحالة الجديدة، دفعته للتفوق اكثر وأكثر، وتزوج بمن أحبها إلا أنه، وبعد سنوات من إجراء عمليته، ظل يتساءل عن الشخص الذي قدم له أذنيه!
هل كان متوفى دماغياً، ومن هم ذووه؟ هل كان شخصاً مريضاً؟
أسئلة كثيرة، وبدون أجوبة دائما في خاطره ولا تفارقه ابدا.
سأل أباه عدة مرات عن المتبرع،
حيث قال: أنه يحمل له الكثير من التقدير والعرفان بالجميل، ولا يستطيع أن يكافئه لأنه كان له الدور الكبير في نجاحاته المتعاقبة في حياته.
فابتسم الأب قائلاً له: «صدقني.. حتى لو عرفته، فلن تستطيع أن توفي له حقه».
وفي أحد الأيام زار الابن بيت والديه.بعد سَفر طويل، أمضاه في دولة أجنبيه في إطار عمله.حمل الابن لوالديه الكثير من الهدايا، كان من ضمن الهدايا قرطان ذهبيان اشتراهما لأمه، وكانت الدهشة للأم كبيرة عندما شاهدت جمال هذين القرطين.
حاولت رفض الهدية بشدة، قائلة له أن زوجته أحق بهما منها، فهي أكثر شباباً وجمالاً، إلا أن إصرار الابن كان أكبر من إصرار والدته، وأخرج الابن القرط الأول ليلبسها اياه، واقترب إليها، وأزاح شعرها فأصابه الذهول، عندما رأى أمه بلا أذنين! عرف الابن بأن أمه هي من تبرع له بأذنيها! فأُصيبَ بصدمة، وأَجْهَشَ بالبكاء، وضعتْ الأمُ يديها على وجنتي ابنها وهي تبتسم، قائلة له:لا تحزن، فلم يقلل ذلك من جمالي أبداً، ولم أشعر بأني فقدتهما يوماً، فوالله انك لا تمشي فقط على رجليك، إنما تخطو على قلبي أينما ذهبت.
"واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا "، رحم الله الاموات منهم وحفظ الاحياء وأطال اعمارهم.
1993 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع