المهندس احمد فخري
الحياة في حقول البترول /الحلقة الخامسة قطع غيار الحواسيب
بعد ان تسلمت الصيانة الكاملة من المهندس البريطاني ومسكت الفرس من لجامه اصبحت اتولاها بنفسي 100%. في اليوم الاول استدعاني مدير قسمي السيد جواد الى مكتبه وطلب مني ان أعد له قائمة بقطع الغيار التي احتاجها كي تكون بحوزة القسم وبذلك تكون رهن اشارتي اذا ما وقع عطل ما. فليس من المعقول ان اقوم بطلب قطعة غيار من ابوظبي بينما نكون بحاجة اليها بشكل فوري. لان عملية طلب القطعة وارسالها من هناك واستلامها عندنا قد تتطلب اسبوعاً كاملاً او اكثر مما سيؤخر سير العمل.
لذا رجعت الى مكتبي وإبتدأت بدراسة ملف الصيانة لتلك القطع وكم كانت تعطل في خلال الاشهر السابقة. أي اني كنت اعمل احصائية تقديرية اولية لما قد نحتاجه من قطع غيار كي نضمن ان الحواسيب جميعها لا تعطل ابداً لاننا سنقوم بإصلاحها بنفس اليوم او في اليوم التالي على اقصى تقدير. وبعد أن صرفت اكثر من يومين من البحث والتمحيص وما يعادل نصف لتر من القهوة والشاي، طلعت بقائمة تحتوي على اسم القطع ورمزها وعدد القطع التي نحتاجها. وبعد ان راجعت تلك القائمة مراراً وتكراراً، قررت ان اقدمها لمديري السيد جواد. نظر اليها وقال،
- يا الهي! هل ستحتاج لكل هذه القطع؟
- نعم، فإن لدينا اكثر من 350 جهاز RTU موزعين بحقلنا زاكوم.
- ولماذا أجدك طلبت 4 بطاقات للذاكرة بينما ذكرت بانك تحتاج الى 10 بطاقات موديم على سبيل المثال؟
- أنا درست خلال فترة السنة المنصرمة برمتها ووجدت ان عدد اعطال بطاقات الموديم يفوق عدد الاعطال بطاقات الذاكرة وبذلك عند وضع تلك البيانات على عامل الزمن وجدت ان الارقام هذه هي التي ستجعل من عملنا سلساً دون الحاجة لتأخير سير العمل في بعض الحواسيب لفترة زمنية طويلة بينما نحن ننتظر أن ترسل الينا من ابوظبي.
- حسناً ساقوم بارسال قائمتك هذه الى قسم المشتريات بابوظبي وسوف يزودونا بها باسرع وقت ممكن.
رجعت الى مكتبي وانا فخور بما عملت لاني قمت بتلك المسئولية على احسن وجه. مضى من الوقت حوالي اسبوعان ثم طلبني مديري جواد كي أذهب الى مكتبه وقال،
- هل تعلم كم ستكون كلفة قطع الغيار التي طلبتها؟
- كلا، لا علم لي بذلك.
- هل تصدق ان قائمة القطع غيار التي طلبتها ستكلف 930000 دولار؟
- ماذا؟ هل انت جاد بما تقول يا جواد؟
- انا جاد جداً بما اقول وابصم بالعشرة.
- دعني انظر الى قائمة الاسعار كي افهم السبب.
أخذت القائمة من جواد وبدأت اتفحصها، واول ما وقعت عيني عليه هو بطاقة الذاكرة.
بطاقة الموديم
فبطاقة الذاكرة كانت تتألف من قطع من دوائر متكاملة IC من ذاكرة انتقالية وذاكرة ثابتة يبلغ سعر الواحد منها حوالي نصف دولار. كذلك تحتوي على دوائر متكاملة اخرى وبعض المقاومات والمتسعات. لذلك قدرت سعرها بحوالي 150 دولاراً. الا ان سعرها بالقائمة يبلغ ستة الآف دولار للبطاقة الواحدة. صرخت باعلى صوتي،
- مـــــــــاذا؟ هذا هراء. انهم يطلبون 6000 دولار للواحدة بينما بالامكان اعادة تصنيعها باقل من 150 دولاراً. هذه سرقة بوضح النهار يا سيد جواد.
- اعلم ذلك. فهكذا تهيئ الشركات العقود وتفرض على الزبون ان لا يشتري قطع الغيار سوى منها.
ثم نظرت الى قطعة صغيرة جداً دورها فقط توصيل التيار ما بين سلكين. هذه القطعة كتب سعرها 180 دولاراً. سرخت ثانية وقلت،
- اتعلم كم تساوي هذه القطعة في السوق؟ انها لا تتجاوز الدولار الواحد او الدولارين ، فكيف يطلبون 180 دولاراً؟ هل اصيبوا بجنون البقر؟ وهل وافقت الادارة على هذه الاسعار؟ أن جميع قطع الغيار التي طلبتها بامكاننا تصنيعها بسعر لا يتعدى 30000 دولار بينما تجدهم يطلبون ما يقرب من مليون دولار. هذا شيء يجب أن لا نسكت عليه.
- اسمع يا احمد، عليك ان تسكت وان لا تنبس ببنت شفة، فجميع قطع الغيار التي طلبتها سوف تصلك كما طلبت وهي خاضعة لعقود موثقة ما بين الشركة المصنعة HYDRIL وشركتنا زادكو. لذلك يجب أن لا تخبر احد بذلك هل فهمت؟
- نعم.
بعد فترة اسبوع ونصف وصلت قطع الغيار فقمت بتخزينها بشكل منتظم كي يسهل على الفور العثور عليها بالمستقبل لاني خصصت لها غرفة خاصة بالقرب من مكتبي.
واصلت عمل الصيانة بالسير بشكل منسق وكنت ازداد خبرةً كل يوم لأن الاعطال ابتدأت تأخذ نمط روتينياً منتظماً وقد اعتدت على الانذارات الكاذبة التي تطلقها بعض الاجهزة فتظهر لنا على الشاشات المركزية على انها اعطال حقيقية.
يوم بعد يوم إبتدأت ادارة الشركة بتوظيف الفنيين الذين سيعملون معي في قسمي والغالبية العظمى منهم كانوا من الجنسية الهندية. كنت اتعرف عليهم ثم اقوم بتعريفهم بمهامهم التي تنتظرهم بالمستقبل ثم اقوم بتدريبهم على الامور التي لم يكونوا يعرفونها. وبالنهاية اصبح لدي فريق متكامل من الفنيين. بالحقيقة كلهم كانوا يحملون شهادات الهندسة الا أن درجتهم الوظيفية كانت (فني). وقد كانت معلوماتهم وخبراتهم رائعة فمن الواضح جداً ان لديهم الكثير من الخبرة العملية السابقة. بالاضافة الى فريق الفنيين الاربع الذين كانوا تحت امرتي والذين كان جُلّهم من الهنود ما عدى احد الفنيين فقد كان بريطاني الجنسية ويدعى (ديفد) داود. وقد كان طيب القلب والمعشر ولطيفاً جداً. كنا نجلس جميعاً بمكتب واحد وكنت لا اعاملهم كرئيس ومرؤوس ابداً بل بالعكس كنت اتصرف وكأني واحد منهم وزميلهم، ولم اوجه لاحد منهم امراً مباشراً طوال فترة وجودي خلال السنين السبعة التي قضيتها بالبحر، بل كنت اطلب منهم المهمة بشكل بسيط. كمثال كنت اقول لاحدهم، "لقد وقع عطل في الحاسوب على المنصة الفلانية فهل بالامكان ان تذهب اليه غداً وتصلحه؟ " كان بعض المشرفين يصدرون الاوامر لمرؤوسيهم فيقولون كمثال، "ستذهب غداً لتصليح الشيئ الفلاني" هناك فرق واضح بين الصيغتين.
بقيت فكرة اسعار قطع الغيار تؤرقني وتتملك كل تفكيري لكنني لم اكن اتجرأ ان اطرحها على اي انسان استناداً لما حذرني منه مديري جواد. ولكن كنت اشعر بذنب كبير لأن السارق هي شركة امريكية والمسروق هي دولة الامارات التي احببتها واحببت رئيسها الشيخ زايد بن سلطان رحمه الله وقد اعتبرت نفسي خائناً لاني لم اقم بعمل يفضح عملية السرقة تلك.
بعد ان ابتدأت اجازتي وعدت الى أبوظبي، قمت بزيارة احد الاصدقاء وهو فلسطيني الجنسية وقد رحب بي وعرفني على ضيفه المواطن وقال بانه السيد فلان (لا ارغب ذكر اسمه) وهو بدرجة وزير في الحكومة. اتضح لي جلياً أن هذا الانسان لطيف المعشر ومثقف ثقافة عالية وبأمكانه أن يتفهم قلقي حول مسألة اسعار قطع الغيار. صرت افكر في نفسي واقول، هل اطرح عليه قضية الأسعار أم ابقيها سراً واحتفض بها لنفسي؟ وإذا لم اطرحها عليه الآن فهل ستسنح لي الفرصة بالمستقبل كي اطرحها على شخص مهم مثل هذا الرجل؟ وإذا ما طرحتها عليه فهل ستكون وظيفتي في خطر أم أن الإدارة ستقوم بشكري وترفيعي لنزاهتي وغيرتي على مصلحة الشركة والدولة ككل. ترددت بعض الشيء ثم دعانا صاحبي للتوجه الى طاولة الطعام. لذا أجلت الفكرة قليلاً حتى ننتهي من تناول الطعام ثم اقوم بطرحها واتركها على الله. وكما خططت له، حالما انتهينا من تناول الطعام ورجعنا الى اماكننا في صالة الجلوس فوجئت بسؤال من قبل الضيف المسؤول إذ قال،
- كيف تجري الامور في حقول البترول عندكم هناك؟ وهل انت سعيد بعملك؟
وجدت ذلك السؤال فرصة ذهبية كي اطرح الموضوع الذي يدور بخلدي إذ قلت،
- أنا جداً سعيد بعملي، فهو من صميم تخصصي وانا اتعلم منه كثيراً لانه فتح لي آفاقاً علمية جديدة لم اكن اعرفها لكني اعاني من بعض الضغوط النفسية.
- هذا شيء طبيعي لانك بعيد عن عائلتك لفترة شهر كامل.
- كلا سيدي، ان بعدي عن عائلتي هو امر تعودت عليه وقمت باقلمة عائلتي على فراقي عندما اكون في عملي بالبحر.
- إذا ماذا تقصد بالضغوط النفسية؟
- أنا اقصد بعض التصرفات التي جرت امام عيني ولم تكن لائقة او مفيدة للشركة أوللدولة. أنت سيدي بدرجة وزير في الحكومة، فإذا اعطيتني الامان فسوف اقص عليك قصة قد تثيرك وتغضبك كثيراً سيدي.
- لديك مطلق الحرية ان تقول ما تشاء ولن يمسسك شيء ابداً، تحدث.
- إبتدأت حديثي عندما استدعاني مديري كي اعد له قائمة بقطع الغيار التي احتاجها في قسمي...
وصرت اقص عليه القصة بتفاصيلها المملة والاسعار الخيالية التي طلبتها الشركة المصنعة للحواسيب وكيف اننا نتمكن من تصنيع تلك البطاقات بانفسنا باقل من عُشر السعر. وكيف ان الادارة لم تقم بالاعتراض على تلك الاسعار. ولم اترك أي معلومة صغيرة كانت او كبيرة الا وقصصتها للمسؤول وبعد ان تحدثت لاكثر من نصف ساعة متواصلة، اتممت حديثي ونظرت اليه وقلت،
- ما هو رأيك سيدي؟ ألا يستحق ذلك أن يشكل ضغطاً نفسياً كبيراً عليّ؟
فاجابني بكل برود،
- الله يهديك يا رجل، لماذا كل هذا التشنج وهذه العصبية؟ انتم العراقيين عودكم صدام حسين على عمل المشاكل لنفسكم ولغيركم فاصبحتم تبحثون عنها باي طريقة كانت. اسمعني يا باش مهندس، اليس صحيحاً ان الاجنبي ذو العيون الزرقاء مستفيد وانت العربي مستفيد وانا ابن البلد مستفيد، فلماذا تثير الغبار على الجميع. اترك الموضوع وتوكل على الله. انت هنا كي تقبض مرتبٍ لم تكن تحلم به ببلدك او باي بلد آخر. إذا سرق الاجنبي قليلاً فحلال عليه، فلولاه لما حصلنا على ثروتنا البترولية هنا بالامارات. وانت كذلك، جئتنا بعلمك من بريطانيا واردت ان تعمل وتكسب رزقك بالحلال فخذه ومارس عملك ولا تأبه لمثل هذه الامور البسيطة.
لم اتمكن من الرد عليه، فهذه هي فكرته وهذا هو رأيه، إذاً لماذا انا قلق مهموم ومشغول البال؟
من الناحية الاجتماعية فقد ابتدأت التأقلم على حالة كنا نسميها (حالة اللا حرب واللا سلم) والسبب في ذلك هو اننا كنا نعاني من (شيزوفرينيا) انفصام شخصية مفروضة علينا. فعندما نكون في البحر نعمل لمدة اربعة اسابيع متواصلة والعمل اليومي 12 ساعة، إذ كنت اعمل من الساعة السادسة والنصف صباحاً وحتى الساعة السادسة والنصف مساءاً مع ساعة واحدة فقط للراحة وقت الغداء. اما العمل فهو على مدار الاسبوع كاملاً اي اننا لم يكن لدينا جمعة او سبت او احد. لذا كانت الاربع اسابيع التي نعمل بها متراصة ومكدسة كما يرص السجق في المصران. لذلك كنا لا نفكر سوى بالعمل والعمل ولا شيء غير العمل. لم يكن لدينا وقت استراحة سوى من السادسة والنصف مساءاً وحتى العاشرة مساءاً حيث نخلد وقتها للنوم كي نستقبل يوماً جديداً. اما ما نريد انجازه خارج العمل فكله يتمركز في تلك الفترة القصيرة. فنحن نتصل بعوائلنا ونلعب الرياضة اليومية ونتحدث مع اصدقائنا ونتابع افلام ومسلسلات ونصطاد السمك كلها بتلك الفترة القصيرة.
اما الشق الثاني من حياتي فكنت اقضيه بالاجازة مع عائلتي. وكلما كنت اعود الى البيت اجد ان ابنتي تارا صارت اكبر من المرة السابقة. وسيارتي التي كنت اغطيها بقماش خاص (چادر) كنت اذهب اليها وهي واقفة خارج العمارة وابدأ بازالة الغطاء من عليها ثم اقوم بقيادتها الى محطة بنزين كي اقوم بغسلها هناك ثم ابدأ بالخروج مع زوجتي وابنتي كل يوم كي اعوضهم فقدان رب الاسرة لمدة شهر كامل. وكنا كثيراً ما نزور عائلة اختي بمنزلها ونعمل فعاليات مشتركة كتنظيم الرحلات الى دبي والشارقة او الخروج الى الحدائق واعداد المشاوي على المنقلة...الخ
أما انا فأبدأ شيئاً فشيئاً بالتأقلم على الحياة الطبيعية كأي انسان سوي، لكني سرعان ما اجد ان الاجازة قد ذابت وتفتت بسرعة هائلة وعلي الرجوع الى البحر عن قريب. علماً أن نظام المناوبة 4x4 الذي كنت اعمل من خلاله هو افضل انواع المناوبات في حقلنا والسبب هو اني كنت ظابطاً. الموظفين الغير ظباط (اي درجة 10 فما دون) فقد كانت مناوبتهم 3x6 اي انهم يعملون لمدة ستة اسابيع ثم يأخذون اجازة ثلاثة اسابيع. أما عمال الفندقة والنظافة فقد كانوا يعملون بنظام مجحف جداً وهو 1x6 اي اسبوع واحد فقط اجازة مقابل ستة اشهر عمل. ومع ذلك كانوا سعداء به ولا يتذمرون من ضغوط الفترة الطويلة التي يقضونها بالبحر.
يتبع...
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/maqalat/33838-2018-01-24-12-05-57.html
977 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع