الحياة في حقول البترول / الحلقة الثانية

                                         

                        بقلم احمد فخري

    

                الحلقة الثانية العثور على وظيفة

اتصلت بي اختي هاتفياً لتخبرني بان لديها خبران سعيدان الاول هو انها قامت بدعوة زيارة لوالدتي وزوجتي وابنتي تارا للحضور الى الامارات والخبر الثاني يتلخص في ان لدي موعد مع موظف بقسم التوظيف في شركة زادكو للبترول يدعى السيد امين الجاسر. ارتديت ملابسي على عجل وانطلقت الى الخارج وانا اتحدث مع نفسي واقول، ربما ستكون هذه المقابلة مثل سابقاتها وسوف اعود ادراجي كما خرجت كل مرة، لذا علي ان لا امنّي نفسي كثيراً وعلي ان اتقبل الرفض ككل مرة. أوقفت سيارة اجرة وطلبت من سائق السيارة ان يقلني الى شركة زادكو فسألني ان كانت بالقرب من السوق الكبير فقلت له اجل. انطلق بي بسيارته المهلهلة واغاني شامي كابور تصم اذني وروائح البخور تغمر انفي مخلوطة بالروائح السامة التي تنبعث من سائق سيارة الاجرة. وصلنا الى باب الشركة وهي عبارة عن بناية عالية من 10 او 12 طابقاً، يفصل بينها وبين السوق المركزي موقف سيارات كبير يتسع لمئات المركبات. دخلت مبنى العمارة وسألت البواب عن قسم التوظيف فقال لي اذهب الى الطابق الثاني. استقليت المصعد وضغطت على رقم 2. وعندما فتح الباب وجدت نفسي امام ممر طويل ومكاتب ذات اليمين و ذات الشمال. طرقت احدى الابواب المفتوحة وسألت سيدة تجلس خلف مكتبها تدق على آلتها الطابعة سألتها عن السيد امين الجاسر فقالت انه بالمكتب المجاور لها. شكرتها وتوجهت الى المكتب المجاور فلقيته خالياً، لذا وقفت بالممر انتظر عودة السيد امين الجاسر. بعد انتظار دام 10 دقائق تقريباً، عاد شخص متوسط الطول في وسط الاربعينات من عمره، نظر الي وسأل بلهجة فلسطينية واضحة المعالم،
- تفضل، من انت وماذا تريد؟
- انا احمد فخري انا من طرف محمد...
- هل انت من طرف محمد الجزائري؟ اهلاً وسهلاً اخبروني بانك ستأتي، ولكن لماذا تأخرت؟ لقد طارت الوظيفة مع الاسف.
- سيدي انا لم اتأخر ابداً، فحالما اخبرتني اختي بالهاتف ان...
- توقف، توقف انا امزح معك يا رجل. انت لم تتأخر ابداً، تفضل بالدخول الى مكتبي واجلس على هذا الكرسي. رفع سماعة هاتفه وطلب لنفسه شاي سليماني ونظر الي وسألني،
- شاي سليماني؟
- اجل شكراً.
قبلت دعوته على الرغم من اني لم اكن اعرف ماذا يقصد بكلمة (سليماني) حتى سألت اختي بعد فترة فاخبرتني ان الشاي السليماني يعني شاي الخالص بدون حليب. ترشف امين الشاي وقال:
- الوظيفة هي مشرف صيانة حواسيب RTU وهي في حقل زاكوم للبترول بنظام التناوب 4x4. المطلوب مهندسين حديثي التخرج وتكون معلوماتهم لا تزال طازجة بذهنهم كي يقوموا بمهامهم التقنية. ويجب على المتقدمين ان يجيدوا اللغة الانكليزية بطلاقة. فكيف هي لغتك الانكليزية؟ وهل علموكم التحدث بها ببريطانيا؟ قالها وهو يبتسم. علمت انه يمازحني فرديت عليه بنفس النبرة.
- كلا سيدي، ببريطانيا درسونا باللغة الهندية.
- هذا جيد جداً. سوف تنقسم الامتحانات الى ثلاثة اجزاء. الامتحان الاول هو امتحان عام لجميع موظفي الشركة من عمال وسكرتيرات وموظفين ادارين ومهندسين وما شابه وهو امتحان بسيط جداً يتألف من شطرين. امتحان لغة وامتحان رياضيات. الامتحان الثاني هو امتحان تخصصك اي في علم الهندسة الالكترونية. اما الامتحان الثالث فهو امتحان شفهي ويجري من قبل مدير القسم الذي ستعمل به.
- هذا جيد جداً، ومتى تبدأ الامتحانات هذه؟
- يوم الاثنين القادم، فهل انت مستعد يا باش مهندس احمد؟
- بكل تأكيد، انا مستعد الآن إن لزم الأمر. ولكن اخبرني كم هو العدد المطلوب؟
- نريد توظيف 6 مهندسين. والمتقدمين لحد الآن 236 مهندساً ومعك انت سيكون العدد 237.
- يا الهي!، وما هي فرصتي إذاً بالحصول على الوظيفة؟
- ذلك يتوقف على ادائك بالامتحان. ارجو ابلاغ سلامي للاخ محمد نسيبك وسأراك تمام الساعة الثامنة صباحاً من يوم الاثنين القادم. رجعت الى الشقة وانا لا اعلم ان كان علي ان افرح ام ان اتحفض بمشاعري علها تكون مثل سابقاتها من الوظائف التي ذهبت بمهب الريح. فعدد المتقدمين كبير جداً وقد يزيد العدد فيما بعد. وعندما عادت اختي من العمل سألتني عما دار في ذلك اليوم فاخبرتها بالتفصيل الممل، وقلت لها باني غير متفائل لان عدد المتقدمين هو 237 شخصاً لحد الآن. فاجابتني بسؤال، وهل جميعهم متخرجين من بريطانيا مثلك؟ انا لا اعتقد ذلك. فقط دع ثقتك بالله اولاً ثم بقدراتك الذهنية ثانياً.
في يوم الاثنين المرتقب خرجت الى الشارع تمام الساعة السابعة وانا احمل مشاعر مختلطة، منها التفائل ومنها التشائم ومنها الخوف من المجهول، فانا اصبحت اباً مؤخراً ولدي زوجة تنتظرني بالعراق والمسؤولية تعاظمت على كتفي خصوصاً وان بلدي اشتبك بحرب ضروس مع ايران ولا احد يعلم متى ستتوقف تلك الحرب الظالمة اللعينة.
وصلت شركة زادكو وذهبت مباشرة الى قسم التوظيف حيث وجدت يافطة صغيرة مثبتة على الحائط مفادها ان الامتحان سيكون بالغرفة رقم كذا في آخر الممر. دخلت قاعة الامتحان فوجدت ما يقرب من 40 شخصاً بخليط متجانس ما بين رجال ونساء، جالسين على رحلات مهيئة على شكل خطوط مصفوفة. بعض الرجال كان يرتدي الزي الوطني اي الثوب الابيض والعقال والكوفية، والبعض الآخر كانوا يرتدون سراويل وقمصان. وبما ان هذا الامتحان عاماً للجميع فتوقعت ان الممتحنين سيكونون ممن تقدموا لوظائف متنوعة.
في تمام الساعة الثامنة وزعت علينا اوراق الامتحان وطلب منا البدئ بالاجابة مباشرةً. نظرت الى الورقة وإذا بها اسئلة حسابية بسيطة جداً كالجمع والطرح والقسمة والضرب. وكان هناك سؤالاً واحداً من نوع (اشترى رجل 3 كيلوات طماطم واربعة كيلوات بطاطا) فرحت كثيراً عندما شاهدت الاسئلة وعلمت انني ناجح بها بلا ادنى شك.
بعد ساعة كاملة جمعت منا اوراق الاجابة ووزعت علينا اسئلة جديدة لموضوع اللغة الانكليزية. كانت جداً سهلة هي الاخرى وتتضمن جمل خاطئة عليك تصحيحها، ومرادفات وامور اخرى بالغة السهولة. اتممت الاجابة على جميع الاسئلة بعد حوالي 10 دقائق وبقيت جالساً حتى انتهت الساعة الزمنية ثم سلمتها وخرجت. اخبرونا جميعاً ان الامتحان التخصصي سيكون بعد ساعة. دخلت نفس القاعة واديت الامتحان التقني بسهولة كبيرة ثم رجعت الى الدار. انتظرت ثلاثة ايام اخرى حتى جاء السيد امين الجاسر بصحبة عائلته لزيارتنا في الشقة. سألته وانا كلي شوق لاعرف نتائج الامتحان فقال،
- منذ ان تأسست الشركة قبل سنتين، لم يحصل احد على درجة 50/50 سواك انت يا احمد.
- وما عن الامتحان الثاني التقني؟
- انا اتحدث عن كلا الامتحانين. فانت سجلت الرقم القياسي بامتحان الرياضيات واللغة والتقني.
- وماذا بعد ذلك؟
- ستقوم اللجنة في قسم التوظيف بانتقاء افضل المتقدمين على تلك الامتحانات وتحويلها الى الاقسام المعنية حيث سترسل اوراقك إن اختاروك الى قسم الكومبيوتر المسمى تلي سستم TLS حيث يتخذون القرار هناك ويستدعوك لمقابلة رئيس القسم. شكرته واكتفيت بهذا الجواب لاني لم اشأ ان ازعج الضيف باسئلة كثيرة.
مضى على تلك الزيارة اسبوعاً كاملاً ولم يتصل بي احد. شعرت بالقلق من جديد فقررت ان ازور السيد امين الجاسر كي استفسر منه عن سبب التأخير. وفي مكتبه سألته عن النتائج، قال لا اعلم بعد لكني ساستفسر من المدير العام واخبرك غداً او بعد غد.
باليوم التالي وصلت من العراق والدتي وزوجتي وابنتي تارا. وكان عمرها شهران فقط. نظرت اليها وتمعنت بملامحها فقد كانت جميلة جداً (بنظري على اقل تقدير). سكنوا جميعاً معنا في شقة اختي بمنطقة النادي السياحي.
باليوم الذي تلاه قمت بزيارة السيد امين الجاسر لاستفسر منه عن الوظيفة، فقال، ساذهب حالاً الى الطابق العلوي واستفسر منهم. غاب ما يقرب من ساعة كاملة وانا اشرب الشاي السليماني الواحد تلو الآخر حتى مل صبري. وعندما عاد قال لي،
- سوف لن تصدق ما حصل؟ لقد قام احد موظفي التوظيف واسمه مصطفى الحمامي مصري الجنسية بالكتابة على ملفك كلمة (مرفوض لعدم اجتيازه الاختبار الاولي) وبدلاً من ملفك، اقحم ملف احد اقاربه، علماً ان قريبه هذا لم يحصل على الدرجات التي حصلت عليها انت بالاختبار. فثارت ثائرتي وتشاجرت مع مصطفى الحمامي وهددته بالتواطؤ بعمله فخاف ورضخ وارجع ملفك الى مجموعة الملفات المقبولة. مبروك يا احمد.
- ومن هو هذا الحقير الذي كان سيسبب لي بكارثة؟
- لا عليك يا احمد. ان اموراً من هذا القبيل تحصل كثيراً لدينا بقسم التوظيف. المهم انك الآن من المقبولين وسيحال ملفك الى رئيس القسم كي يقابلك وجهاً لوجه.
المهم يا احمد انت الآن تكاد ان تكون متوظفاً عندنا. بقي عليك اجتياز آخر الاختبارات وهي المقابلة التقنية مع رئيس القسم السيد (امبير) الفرنسي.
- ومتى سيحصل ذلك؟
- ساتصل به الآن وسارد لك الخبر.
بعد ان تحدث بالهاتف مع السيد امبير قال لي،
- اذهب الآن الى الطابق الرابع وقابل السيد امبير، هو بانتظارك.
شكرت السيد امين الجاسر وذهبت لمقابلة السيد (امبير) طرقت الباب على مكتبه فدعاني الى الداخل. كان رجلاً قصير القامة لديه ملامح اوروبية ووجه لم يعرف الابتسامة منذ ان خلقه الله.
- تفضل بالجلوس رجاءاً، متى تخرجت من الجامعة؟
- تخرجت في حزيران 1980
هنا ابتدأ باطلاق وابل من الاسئلة التقنية، الواحدة تلو الاخرى، وبما ان المعلومات كانت ما تزال طازجة في ذهني فلم اتردد ولم اخطئ باي من الاجابات. لكن وجهه كان خالي من التعابير. فهو لم يكن يخبرني إذا كانت اجوبتي صحيحة ام خاطئة. فقط ينتقل من سؤال لآخر دون النظر الى وجهي. بآخر المطاف قال لي،
- هل تعلم ان وظيفتك هي اوفشور اي انك ستعمل في البحر بنظام التناوب 4x4اي انك ستعمل اربعة اسابيع متواصلة ثم تأخذ اجازة اربع اسابيع اخرى بعدها؟
- نعم اخبروني بقسم التوظيف
- انتهى الاختبار إذاً وانت ناجح في المقابلة هذه.
- شكرته كثيراً وانا ابتسم بوجهه واهز يده بحرارة الا انه لم يبدي اي مشاعر ولم يشأ ان يتعب عضلات وجهه بابتسامة واحدة على الاقل. رجعت الى مكتب السيد امين الجاسر لابلغه بما حصل بالمقابلة فقال،
- لم يبقى شيء سوى موافقة المدير العام.
- وهل المدير العام مصري الجنسية هو الآخر؟
- كلا انه عراقي وسيتخذ قرارات التعيين بغضون ايام قليلة.
- الحمد لله. بامكاني العودة الى الدار الآن إذاً. وداعاً سيدي.
رجعت الى الدار تراودني الكثير من الافكار. البعض نها محملة بالتفائل الحذر والاخرى بالغضب الشديد على هذا المصري المدعو مصطفى الحمامي. فكيف يعمل ما عمل وهو لا يعرفني ولم ينظر الى وجهي ولو لمرة واحدة؟ ولماذا هذه التصرفات الخبيثة؟ اقسم اني سوف انتقم منه يوماً ما إن مكنني الله من ذلك. رجعت الى الدار واخبرت اختي بما جرى، وعندما اخبرتها بما فعل الموظف المصري قالت كلمة واحدة، (انزول).
وبعد مرور اسبوع كامل على تلك الحادثة زرت السيد امين الجاسر كي استفسر منه عن النتيجة فقال بان المدير العام لم يبت بالأمر بعد وسوف اذهب لمقابلته بعد قليل كي استفسر منه مباشرةً. خرج امين من مكتبه وابتدأت بتناول اقداح السليماني الواحد تلو الآخر وانا اعاني من التوتر القاتل. وبعد حوالي ساعتين او اكثر بقليل عاد امين الجاسر مبتسماً وقال لي.
- مبروك يا احمد، انت الآن زميلي في الشركة، لقد وافق المدير العام على توظيفك بعد عناء طويل. فانه لم يكن يرغب في الموافقة عليك في بادئ الامر، وعندما سألته عن السبب قال، انظر يا امين، هو عراقي وانا عراقي وقد يلومني الناس ويعتقدون باني وظفته بالمحسوبيات والمنسوبيات وانا لا ارضى ذلك على نفسي. فقلت له يا سيد المدير ان احمد فخري حاز على اعلى الدرجات بجميع الاختبارات وهو ليس بحاجة الى شخص يتوسط له. فمن يشأ، بامكانه ان يراجع اوراق الامتحانات او ان يمتحنه من جديد. فوافق السيد المدير بالنهاية على مضض ثم وقع الاوراق وهو يهز رأسه يمين شمال.
شكرت السيد امين الجاسر وودعته وخرجت من مكتبه. وعندما عدت الى الشقة وجدت زوجتي وامي بانتظاري. اخبرتهما بالخبر السعيد فعمت الفرحة بينهما. وعندما عادت اختي واولادها الى الدار قلت لهم، سيداتي آنساتي سادتي، انتم تنظرون الى المهندس احمد فخري الذي يعمل بشركة زادكو في حقل زاكوم للنفط. ارتفع الصراخ وصارت تنهال علي القبلات من كل حدب وصوب ووصل الضجيج الى خارج الشقة واذا بمحمد (نسيبي) يدخل الشقة ويقول لنا بكل هدوء، ماذا جرى؟ ما هذا الصراخ؟ ولماذا انتم فرحون؟ فاخبرناه بالخبر السعيد فتبسم وقال الحمد لله، مبروك يا احمد هذا رزق ابنتك تارا.
يتبع...

للراغبين الأطلاع على الحلقة الأولى:

https://algardenia.com/maqalat/33534-2018-01-05-20-49-49.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

648 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع