خالد حسن الخطيب
ماذا حصل للكردي ومعروف الرصافي في زنزانة الموت ؟
حدثني الاستاذ صلاح عبد الحميد العاني عن ذكرياته وإعجابه الشديد بالأستاذ المرحوم محمد علي الكردي قائلا ... في سنة 1926 تم تعين المعلم الاستاذ محمد علي الكردي ابو هند المنحدر من مدينة بشدر الواقعة شمال العراق في مدرسة عانه الابتدائية والوحيدة في ذلك الوقت , والتي لا تبعد سوى عشرة امتار عن مبنى سرايا الحكومة حيث كانت السرايا على شكل قلعة تقع على ضفاف نهر الفرات وتقابلها جزيرة فيها من الاشجار والنخيل والمزروعات ما يعطي للناظر المنظر الخلاب وتزيل الهموم وتريح الاعصاب . وكانت القلعة تحتوي على دائرة القايمقام ودائرة الشرطة والمالية والبلدية وبقية الدوائر وكانت دائرة الشرطة هي الاقرب الى المدرسة . وكان المرحوم السيد علي خالد الحجازي معاون للشرطة من الضباط الاكفاء شديدي المراس في احقاق وتثبيت قواعد الامن حيث ارسل الى مدينة عانه في بداية الحكم الوطني لوجود قطاع طرق على الطريق الذي يربط بين بغداد – حلب ويؤثر على سير التجارة والمسافرين وقد خصص لهذا الضابط اعداد كبيرة من افراد الشرطة وجميعهم من الخيالة والهجانه وغالبيتهم من البدو الذين قدموا مع الملك فيصل الاول وقد تحقق الامن والأمان بجهود المرحوم الضابط علي خالد الحجازي وإفراد شرطته حيث تم القضاء على جميع هؤلاء المجرمين الذين اتخذوا من الوديان والتلال المحيطة بالمدينة موطئ قدم لهم . اما طلاب الابتدائية فعند خروجهم اثناء الفسحة الى ساحة المدرسة يقومون باللعب و اللهو فتصدر منهم اصوات عالية كانت تصل الى اسماع معاون الشرطة علي خالد الحجازي حيث كانت تزعجه فذهب يوما الى مدير المدرسة المرحوم عبد المجيد فارس الذي يعد من كبار الادباء والشعراء وله سمعة طيبة في المدينة فوعده بان لا تتكرر هذه الاصوات العالية ولكن دون جدوى بسبب صعوبة السيطرة على التلاميذ لصغر سنهم فحدث فيما بعد مشادة كلامية بين مدير الشرطة ومدير المدرسة فوصل نبأ الخصام الى وزارة الداخلية في بغداد... ولأهمية التعليم وأهمية الشرطة اوفدت الدولة مفتشا من وزارة الداخلية ومعه متصرف لواء الدليم ورئيس المحاكم العليا للتحقيق في هذه الحادثة فوصلوا الى مدينة عانه وقاموا بإجراء التحقيق بين المديرين المتخاصمين وكان من بين الشهود الاستاذ محمد علي الكردي الذي سكن المدينة وتزوج منها فلما استدعي للشهادة امام اللجنة المرسلة من حكومة بغداد نظر مدير الشرطة المرحوم علي خالد الحجازي الى الشاهد وقال الى رئيس لجنة التحقيق.. يا سيدي ان هذا الرجل لا توجد بيني وبينه خصومة والخصومة بيني وبين المدير عبد المجيد فارس فأجاب الاستاذ محمد علي الكردي وبصوت مرتفع ومزلزل ... يا رئيس اللجنة.... كلنا عبد المجيد فارس.. فلما سمعت اللجنة كلام الاستاذ محمد علي الكردي صعقت بإصراره وقوة عزمه فعقدت الصلح فورا بين المتخاصمين وانتهت المشكلة على خير ورجعت المياه الى مجاريها , فكلام الاستاذ الكردي يدل على ان المجتمع العراقي كان متماسك تماسك البنيان المرصوص فلا فرق بين عربي وكردي وتركماني إلا بالحق وكذلك دلالة على التكاتف والتعاطف والتعاضد بين المعلمين في ذلك الزمان . وبعد مرور سنوات تم نقل الاستاذ محمد علي الكردي مديرا الى احدى نواحي مدينة السليمانية لحاجة المدينة لرجل كفء , وما ان استقر به الحال حتى حدث خصام بينه وبين الاستاذ المرحوم معروف جاويك قايممقام لواء السليمانية بسبب بعض الامور الادارية بعدها تم فصل محمد علي الكردي من وضيفته فاتجه الى بغداد و ذهب الى ادارة مدرسة التفيض الاهلية الواقعة في منطقة الحيدرخانة في شارع الرشيد لمديرها المرحوم السيد حسين العاني فقام بتعينه مدرسا للغة العربية لغزارة علمه ولكثرة معلوماته في متوسطة التفيض الاهلية في مدينة الفلوجه حيث لا توجد في ذلك الوقت متوسطة حكومية في تلك المدينة . ويسترسل الاستاذ صلاح قائلا كنت طالبا في هذه المتوسطة وكان الاستاذ محمد علي الكردي متحمسا ومتأثرا بالشعر الجاهلي , اما شعراء العصر الحديث فكان مولعا وعاشقا لسيرة وشعر الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي وما ان دخلنا عام 1945 – 1946 حيث الامتحانات الوزارية للصف الثالث متوسط حيث كان المركز ألامتحاني الوحيد في لواء الدليم موجود بمدينة الرمادي فيتوجب توجه جميع الطلاب لذلك المركز لأداء الامتحانات الوزارية ومنهم طلاب متوسطة التفيض.... ومن الصدف التي يرويها الاستاذ صلاح اثناء أداءه للامتحانات الوزارية هو وجود اثنان من الضباط العسكريين وهم قادمون من بغداد الاول المرحوم النقيب حميد عبد الرحمن الاشعب والثاني النقيب المرحوم عبد السلام عارف رئيس الجمهورية العراقية عام 1963-1965 . وما ان بداء الامتحان اللغة العربية وكان اول سؤال في مادة الادب هو اكتب ما تعرفه عن الشاعر العراقي معروف الرصافي وعن شعره السياسي والاجتماعي وبقية الاسئلة التي يتضمنها امتحان اللغة العربية من مادة القواعد والنحو , ويعترف الاستاذ صلاح بضعفه بمادة القواعد وحبه وعشقه الى مادة الادب العربي خصوصا شعر شاعر العراق الاول معروف الرصافي نتيجة اصرار وتكرار المعلومات التي تخص الرصافي وأدبه وشعره وحياته من قبل استاذنا محمد علي الكردي فكان جوابي غزيرا وقد كتبت كثيرا عن الرصافي وعن شعره السياسي والاجتماعي , وكان الوقت في ذلك الزمان هو انبعاث الروح القومية ضد الانكليز المستعمرين حيث انهم نكثوا العهود وخاصة قضية فلسطين المركزية والشعب العراقي الوحيد من الامة العربية لديه حسا وطنيا وحماسيا يشهد له التاريخ وكان من جملة ما كتبته عن الرصافي هي احدى قصائده السياسية وعنوانها ..كيف نحن في العراق ومطلعها
أيكفينا من الدويلات أنّــــــــــــا ***تعلق في الديار لنا البنـــود
و إنّا بعد ذلك في أفتقــــــــارٍ ٍ ****الى ما الاجنبيّ به يجــــود
فلما رجعت الى الفلوجة بعد انتهاء المتحان سألني استاذي محمد علي الكردي ماذا كتبت ؟؟ فذكرت له اني كتبت القصيدة اعلاه كاملة ... فلطم يده على وجهه وقال لي... اذهب الى ابيك ليحضر لنا اغطية حيث ان السجن ينتظرنا ... لان هذه القصيدة التي كتبتها تمس سيادة الدولة حيث لا سيادة لها , غير ان حسن الحظ والطالع كان من نصيبي حيث وقع دفتر الاجابة في يد احد الاساتذة الوطنيين الذين يقومون بتصحيح مادة اللغة العربية فكانت النتيجة ان قام هذا الاستاذ المصحح الوطني بوضع اعلى درجة لي في مادة اللغة العربية علما اني لم اقوم بالإجابة عن بقية الاسئلة التي تخص القواعد والنحو حيث اعطاني درجة 80% وهذه الدرجة في ذلك الوقت تعتبر اعجوبة ولم تعطى الى اي طالب مهما كانت اجابته وعندما علم الاستاذ محمد علي الكردي بنتيجة الامتحان فرح فرحا شديدا وقال الحمد لله لقد نجونا من السجن الذي كان ينتظرنا فشركنا الله وشكرت استاذي المرحوم محمد علي الكردي لحبه الشديد لوطنه العراق والى شعراء العراق الوطنيين المخلصين الأوفياء وأولهم الشاعر معروف الرصافي ....
495 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع