بدري نوئيل يوسف
من حكايات جدتي ....الثامنة والخمسون
المنديل السحري
في هذا المساء قدمت لنا جدتي حلاوة اسمها (الجق جق قدر)، وهذه اول مرة نأكلها ونسمع بها، قالت جدتي لا تستغربون يا اولادي هذه حلاوة شعبية من حلويات الشتاء، مصنوعة من الدبس الذي يغلى داخل قدر معين ويتم غليه حتى الوصول الى أن يصبح متكاثف ولزج جدا، بعد ذلك يوضع هذا الدبس المكثف جدا في صينية ويغرز اللوز أو الجوز عليه بشكل جميل وواحدة بجانب الأخرى فوق هذه الحلاوة المفروشة بالصينية.
يضع البائع الصينية على رأسه وهو ينادي (جق حق قدر) وهذه الحلاوة يأكلها الصغار والكبار وسميت بهذا الاسم نتيجة غلي للدبس وخلال الغلي تصدر اصوات چقچقه. وهناك نوع اخر من الحلاوة يسمى الپالوتة مصنعه من حليب ونشا وسكر مع إضافة المطيبات والألوان فتصبح لزجة وكأنها قالب من كيك، وتوضع في كاسات وتباع من قبل بائع متخصص ويعملها بنفسه وهي لذيذة للصغار والكبار، تطورت وأصبحت تسمى الكاستر.
نعود الى حكايتنا اليومية:كان يا مكان في قديم الزمان، فلاَّح ميسور يعيش في حقله مع زوجته وأولاده الخمسة، وذات موسم انحبس المطر فحزن الفلاَّح وكان قد بذر الحب، فتوجَّه إلى حقله العطشان، ناظراً إلى الغيم، منشد تعال يا مطر تعالْ كي تكبر البذورْ ونقطفَ الغلالْ تعال لتضحكَ الحقول وننشدَ الموال مضت الغيوم غير آبهة بنداء الفلاح، فزاد حزنه، واعتكف في بيته مهموماً حزينا اقتربت منه زوجته تواسيه وقالت: يا رجل توكل على الله لماذا تصنع من الحبّة كبّة؟ أجابها: لا تزيدي همّي، قالت: إلى متى ستبقى جالساً هكذا؟ قم اخرج اسعَى ربما تجد عملا، قال: ألا ترين أنّ الأرض قد تشقّقت لكثرة العطش؟ والحَبَّ الذي بذرته أكلته العصافير، اتركيني بالله عليكِ فأنا لم أعد أحتمل، قالت: لكنّك إذا بقيت جالساً سنموت جوعاً، لم يبقَ لدينا حفنة طحين، قم فبلاد الله واسعة.
اقتنع الرّجل بكلام زوجته فحمل زاده وودّع أهله ثمّ مضى كانت هذه الرّحلة هي الأولى له لذا كابد مشقات وأهوالاً فأحياناً يظهر له حيوان يهجم عليه بعصاه الغليظة ويطرحه أرضا، وأحياناً يعترضه جبل عال فيصعده، وهكذا إلى أن وصل إلى قصر فخم تحيط به الأشجار ما إن اقترب الفلاَّح من باب القصر، حتّى صاح به الحارس: قف أنت، إلى أين؟ أجابه أريد أن أجتمع بصاحب القصر، سأله: لماذا تريد أن تجتمع بالسلطان؟
سمع السلطان الجالس على الشرفة حوارهما، فأشار للحارس أن يُدخل الرجل وفور مثوله أمامه قال: السَّلام على جناب السّلطان، أجابه: وعليك السلام ماذا تريد ؟ أجاب الفلاح: أريد أن أعمل، ساله: وما هي مهنتك، رد عليه : فلاَّح أفهم بالزراعة ثمّ سرد له قصّته، قال السلطان: اسمع ما سأقوله، أمّا العمل بالزراعة فهذا مالا أحتاجه، عندي مزارعون لكن إذا رغبت في تكسير الصخور فلا مانع الأرض مليئة بالصّخور وأنا أفكر باقتلاعها والاستفادة من مكانها إذاً توافق اتفقنا على الأمر الأوّل بقي الأمر الثاني ما هو الأجر أنا أدفع للعامل ديناراً ذهبياً كل أسبوع فهل يوافقك هذا المبلغ، حكّ الفلاّح رأسه مفكراً قال: عندي اقتراح ما رأيك أن تزن لي هذا المنديل في نهاية الأسبوع وتعطيني وزنه ذهباً.
أخرج الفلاّح من جيبه منديلاً صغيراً مطرزاً بخيوط خضراء، وفور مشاهدة السلطان المنديل شرع يضحك حتّى كاد ينقلب من فوق كرسيّه الوثير ثمّ قال: منديل يا لك من رجل أبله وكم سيبلغ وزن هذه الخرقة أكيد أنّ وزنها لن يتجاوز وزن عانة (اربعة فلوس) من الفضّة أنتَ أحمق مؤكد، بلع الفلاّح ريقه وقال يا سيّدي: ما دام الرّبح سيكون في صالحك فلا تمانع أنا موافق حتّى لو كان وزنه وزنَ نصف فلسان، لمس السّلطان جدّية كلام الفلاّح فاستوى في جلسته وقال توكَّلنا على الله، خذ المطرقة وتلك الصّخور وشمّر عن زنديك وابدأ العمل وبعد أسبوع لكل حادث حديث.
أمسك الفلاّح المطرقة بزندين فولاذيين ومشى باتجاه الصّخور بخطى واثقة، نظر إليها نظرة المتحدِّي وببسالة هوى عليها بمطرقته فتفتّتت تحت تأثير ضرباته العنيفة متحوّلة إلى حجارة صغيرة وكلّما نزَّ من جبينه عرق الجهد والتعب أخرج منديله الصّغير ويمسحه، عَمِلَ الفلاّح بجدّ وتفان، حتّى إنّه في نهاية الأسبوع أتى على آخر صخرة، صحيح أنّ العرق تصبّب من جبينه كحبّات المطر، لكن ذلك لم يمنعه من المثابرة والعمل. انقضى أسبوع العمل، وحان موعد الحساب. قال السلطان: أيُّها الفلاّح لقد عملت بإخلاص هاتِ منديلك كي أزنه لك، ناوله الفلاّح منديله الرّطب وضعه في كفّة ووضع قرشاً فضيَّاً في الكفّة الأخرى فرجحت كفّة المنديل، أمسك السلطان بعض الفلوس وأضافها، فبقيت كفّة المنديل راجحة، امتعض السلطان وأزاح الفلوس ، ووضع ديناراً ذهبياً فبقيت النتيجة كما هي .
احتار وطلب من الحاجب منديلاً غمسه في الماء ووضعه مكان منديل الفلاّح فرجحتكفّة الدينار ،نظر إلى الفلاّح غاضباً قال: ما سرّ منديلك؟ أهو مسحور ؟ظننت أن الميزان خَرب لكن وزنه لمنديل الماء صحيح، ابتسم الفلاّح
وشرع السلطان يزن المنديل من جديد فوضع دينارين ذهبيين ثلاثة أربعة حتى وصل إلى العشرة حينها توازنت الكفّتان كاد السلطان يجن.
يسأل السلطان نفسه ماذا يحدث ؟ أيعقل هذا ! عشرة دنانير ذهب. نهض محموما أمسك بياقة الفلاّح وقال: تكلّم أيُّها المعتوه اعترف من سحر لك هذا المنديل، وبهدوء شديد أجابه الفلاح، أصلح الله مولاي السلطان القصّة ليست قصّة سحر، فأنا لا أؤمن السحر القصّة باختصار ، هي أنّ الرّجل عندما يعمل عملاً شريفاً يهدف من ورائه إلى اللقمة الطّاهرة ينزّ جبينه عرقاً هذا العرق يكون ثقيلاً أثقل من الماء بكثير
هزَّ السلطان رأسه وابتسم راضياً، قال: سلّم الله فمك وبارك لك بمالك وجهدك وعرقك، تفضل خذ دنانيرك العشرة واقصد أهلك غانما، قصد الفلاّح أهله مسرورا وأخبرهم بما جرى، ففرحوا وهللوا وتبدلت معيشتهم فنعموا ورفلوا
وكنا عندكم و جئنا.
1952 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع