محمد حسين الداغستاني
جليل القيسي و قصصه القصيرة جداً و أنا !
تعود أولى لقاءاتي بالكاتب الكبير الراحل جليل القيسي الى بداية ستينيات القرن الماضي إذ كنتُ آنذاك طالباً في مرحلة الدراسة المتوسطة ، وكانت علاقة صداقة مدرسية متينة تربطني بشقيقه المرحوم حسين القيسي ، هذه العلاقة مهدت لي زيارته أحياناً في محلهم لصياغة الذهب في سوق الصاغة بكركوك وكنت خلالها غالباً ما ألتقي بجليل وكان يقابلني بوجه بشوش وإبتسامة مجاملة تميزه عن أقرانه ، وكنا نتبادل التحايا وبعض الكلمات القصيرة التي تقال عادة في مثل هذه المناسبات . لكنني إنقطعت عن التردد على المحل بعد أن قيل لي بأنه مراقب من قبل الأمن بسبب مزاعم تشير الى إتخاذه مكاناً للقاءات جليل مع زملائه الماركسيين واليساريين ( الذين أطلق عليهم في بغداد فيما بعد إسم جماعة كركوك) .
غادر جليل كركوك وتوفي شقيقه ومضت السنوات وشاءت الصدف في الثمانينيات أن ألتقي بالمرحوم جليل مساء أغلب أيام الأسبوع في الصيف عندما كان يمر من باب منزلنا في حي ( ألماس ) وهو قادم من داره في (محلة تبه ) بإتجاه شارع الجمهورية وكانت المسافة طويلة لكنه كان مضطراً الى ذلك بناء على نصائح طبيبه المعالج ويبدو أنه كان يعاني من ارتفاع الكولسترول ومشاكل في القلب والشرايين ، وكان يتوقف لتحيتي حالما يراني وكنت أدعوه لتناول القهوة في بيتنا لكنه كان يفضل الماء ويمضي، وإرتقت هذه العلاقة الى مستويات أعلى في السنوات اللاحقة . وكان يخصني أحياناً ببعض مسودات كتاباته لأقرأها ومنها مخطوطة مسرحية كتبها كان قد كتبها بخط يده في العام 1963 بعنوان (ماجلان والتمرد على سان أنطونيو) إن كنتُ مصيباً لكن نتيجة إهمالٍ غير مقصود أضعت المسودة وكان حزني عميقاً لضياع جهده المسرحي الذي لم ير النور لحد الآن .
خلال الحصار الخانق على العراق كنت مديرا لإعلام محافظة كركوك، إلتقيت به مرة دون سابق موعد فوجدته حزيناً ، وسألته عن أحواله فشكى لي معاناته للحصول على أدوية للقلب نادرة بل ومفقودة في الصيدليات ، فتألمتُ كثيراً لأن جليل القيسي الذي كان إسماً لامعا وكبيراً في عالم الكتابة والمسرح في الكثير من البلدان العربية والعالمية وهو علم بارز من أعلام العراق لا تلتفت الحكومة او وزارة الثقافة أواتحاد الأدباء الى أهمية توفير أدويته وهو في وطنه بل وفي مدينته ، فتدخلت لدى المحافظ وكان آنذاك الأستاذ عدنان غيدان على ما أذكر وقلت له أنه من المحزن حقاً أن يعيش كاتب نتباهى بإسمه في المحافل الأدبية والثقافية بيننا لكنه لا يجد من يعتني بإحتياجاته الصحية الضرورية ولو كان في غير العراق لكانت المؤسسات الأدبية تتسابق حتماً لتوفير تلك الاحتياجات له . فكان إن بادر المحافظ الى الإيعاز رسميا الى مدير عام الصحة للعمل على تزويده بالأدوية التي يحتاجها كلما كانت ترد المحافظة من قبل المنظمات الدولية والإنسانية رغم شحتها .
فيما بعد وبتأثير مباشر من الزميلين الدكتور عزالدين المحمدي وعدنان القطب وكانا يشرفان على إصدار مجلة (الهلال) باشرت بتحرير زاوية شهرية ثابتة فيها بعنوان (مساحة للود) وكنت سعيداً عندما وجدت بأن جليل القيسي ينشر فيها أيضاً قصصه القصيرة جداً نزولا عند رغبة صديقه عدنان القطب ، وإكتشفت بأن تلك القصص مكتوبة بلغة آسرة وكأنها نصوص شعرية أكثر مما هي من السرد المسترسل . عند ذلك تملكني فضول كبير عن دوافع إختيار جليل كتابة القصص والمسرحيات دون الشعر مع أن بيئته الأدبية المتمثلة بأغلب زملائه من جماعة كركوك كانت تضج بالشعراء أمثال سركون بولص وفاضل العزاوي وصلاح سعيد وقحطان الهرمزي وغيرهم فيما كان المرحوم يوسف الحيدري لم يلتحق بهم في كركوك في بديات تلك الفترة . خاصة ً أنه لم يكن يخفي إعجابه بالشعر في مختلف المناسبات واللقاءات الصحفية ومنها حواره مع الشاعر والصحفي المرحوم رعد مطشر إذ أجاب على إحد أسئلته قائلاً :( إن الكاتب المبدع إضافة الى خياله الرائع يملك إحساس شاعر) . ومن هنا نضجت معي فكرة الكتابة عن السمة الشعرية في قصصه القصيرة جداً وتبلورت الكرة عندما نشر مجموعة من قصصه القصيرة جدا تحت عنوان (قصص قصيرة جداً في الحب) كتب تحتها (منذ عقود أيتها الحبيبة أرتيس وأنا أعمل من أجل أن أضعك في سيمفونية الحياة ) وكان ذلك في حزيران في العام 2001 ، فبادرت الى الكتابة عن الموضوع في زاويتي الشهرية مجلة الهلال بعددها 65 الصادر في نيسان 2002 وأعتقد (على حد معرفتي) بإنني أول من كتب من النقاد عن شاعرية جليل القيسي الذي كان سعيدا بمقالتي المتواضعة ولم يتأخر في رد فعله..
فأهداني أربع عشرة قصة قصيرة جدا كتبها بخط يده في 30/4/2002 وطرزها بمقدمة جاء فيها ؛ (عزيزي الاستاذ محمد الداغستاني ، ليس من السهل أن يمتلك الإنسان ملكة التصورات الدقيقة ، شكراً لتصوراتك الدقيقة في عالم قصصي القصيرة جداً ) .
وفيما يلي نص دراستي المتواضعة المختصرة المشار إليها أعلاه على أمل أن أبادر الى نشر القصص القصيرة جدا المهداة لي في مناسبة قريبة سجال أخر المشوار !
قراءة في قصص جليل القيسي القصيرة جدا ً
ــــــــــــــــــــــ
الحب بكل أنواعه هو الهوس الأكبر لدى الخلاّقين , به يدركون لا الذات فحسب بل كل ما هو خارج الذات
جبرا ابراهيم جبرا
ــــــــــــــــــ
تناول العديد من النقاد والباحثين وطلبة الدراسات العليا جوانب مختلفة في قصص الكاتب الكبير جليل القيسي ، وبقدر إطلاعي على ما تم نشره من رؤى وإنطباعات وبحوث نقد لم أجد الإشارة الى شاعرية جليل القيسي أي الى البناء الشعري في نتاجه الإبداعي مع أن ذلك واضح جدا وخاصة في القصص القصيرة جدا التي نشرها ، وبجهد متواضع تصديت لهذه الإشكالية في مقال قصير نشرته في مجلة الهلال في حينه ، وكانت سعادتي لا توصف عندما أهداني القيسي عددا من قصصه القصيرة وقد كتب في مقدمتها عزيزي : ( الأستاذ محمد الداغستاني.. ليس من السهل أن يمتلك الإنسان ملكة التصورات الدقيقة ..شكراً لتصوراتك الدقيقة في عالم قصصي القصيرة جداً ..) . . وكانت هذه الشهادة تأكيد على صحة الزعم أنه كان يتوق أيضا الى كتابة الشعر أسوة بزملائه الشعراء في جماعة كركوك التي هم أعمدتها الاساسيين ومنهم فاضل العزاوي وسركون بولص وأنور الغساني و ..... وإنني إذ أكرر محاولة الكتابة عن الموضوع ثانية فلأنني ارغب في توجيه زملائي النقاد الى الإلتفات الى هذه السمة المهمة في ادب جليل القيسي وإعطائها حقها من البحث والدراسة
لقد إكتضت الساحة الثقافية والأدبية ، بكم ٍ هائل من النتاجات الأدبية المتنوعة ستينيات القرن الماضي ، وبالخاصة في أعقاب التغييرات الجذرية التي طرأت على هذه النتاجات فيما يتعلق بالمفاهيم والمضامين أي الشكل والمضمون .. وقد نالت الوظيفة الأدبية للنصوص الأدبية وفي المقدمة منها القصيدة الشعرية الحديثة التي بلورت لنفسها شخصية ذات سمات قد تتباين غالباً مع إمتدادات تلك المراحل التقليدية المعروفة للمدارس الأدبية المعهودة كالكلاسيكية والرومانسية والرمزية والواقعية بأنواعها وآخرها الواقعية الجديدة الخ ، والتي كان نظام التفعيلة وتقسيم البيت الشعري الى الصدر والعجز وإقرار وجود القافية وضمان وحدة الموضوع و الترابط المنطقي بين الزمان والمكان وغيرها من شروط النظم الشعري من شروط نظم القصيدة ، لكن القصيدة الحديثة بالذات من بين الزخم الإبداعي كله أفلحت تماماً في تحقيق نقلة نوعية إرتقت بها الى مرحلة جديدة تمتلك مواصفاتها الخاصة بها والتي تتسم بالفرادة والتميز ، من خلال المحاولات الرامية الى تجاوز التراكيب القديمة وبالخاصة فيما يتعلق بتراكيب البيت الشعري وتحويلها الى كائن أشبه ما يكون بالكتابة الحرة المقيدة.. بل الى نص ينوء تحت المعاناة والمشاعر الصاخبة بالمدلولات الإنسانية والعاطفية الحادة وأضفاء المزيد من الغموض والتقنين على تمدد المعنى والشكل .
فإن كنا نتعامل أحياناً مع النص بإعتباره شعراً وهو يفتقر لأبسط الشروط الشعرية التي تعارف عليه الوسط الأدبي طويلاً ، فإن (القصة القصيرة جداً )المترعة بالإنسيابية العالية وبالعفوية والحوار الداخلي وكثافة اللغة ،تقترب من مفهوم النص الإبداعي الشعري الحديث فيما عدا الغموض القسري الذي يسود النص الذي يطلق عليه إسم قصيدة النثر ، خاصة عندما يمتلك كاتبها لغةً معبّرةَ ، غنية بالمدلولات والصور والعواطف الممزوج بالمفردات ذات التعامل اليومي ، وبذلك فإن التمييز بين تلك القصة وقصيدة النثر قد لايستحيل سوى في الشكل مع التأكيد على خصوصية القصة في منهج الصياغة أو أسلوب التعبير وتوفير شروط وحدتي الزمان والمكان ومنح الشخصية المحورية في النص دورها في الفسحة القصيرة الممنوحة لها ، وفي النهاية فإن القصة القصيرة جداً كشقيقتها قصيدة النثر ستكون نتاج مخاض عسير يستوجب أقصى درجات الوعي وبأقصى ما يستوعبه السبك اللغوي المتين واللفظية المختارة بدقةٍ متناهية
وكما أسلفت فإنني أتفق أيضاً مع الطرح الذي يؤكد على أن الذروة والدراما والمونولوغ ثم الاتجاه نحو الرمز أو الأسطورة والأيقاع الموسيقي لبلورة الكلمة هي من أبرز مميزات الشعر الحديث , ليس هـذا فحسب بل إنه يختلف عـن غيره من النصوص الأبداعية كونه يتخطى الصياغة النثرية في تركيب الجملة أوشحن الفكرة بطاقة إيحائية ملموسة لتجسيد الحدث في زمانه ومكانه ، لذا ومن هـذا المنطلق فلقد وجدت ( القصة القصيرة جداً ) لــدى القاص الكبير جليل القيسي هـي أقرب ما تكون الى المقطع الشعري الفسيح منه الى القصة , منطلقاً مـن أن القصـة وفي كـل الأحوال هي تعبير عن حدثٍ ما , لتفسير حالة , وتحقيق هدف يرنو إليه القـاص , ويعبر عنه بأســلوب ٍ غيرتقليدي , وربما غامض وغير ميسور , وأغلـب الأحيان مزدوج الفهـم ومتناقض الهيئة , يتناغم مع الرمز للأنتقال بالقارىء الى الصـدمة , وهـذا ما نلمسه في { قصص حب قصيرة جــدا ً} المنشـــورة للقاص في أواخر أيام حياته .
ورغـم ان القصص ( عاشق حقيقي ) و (بالعواطف ) و ( فراق ) و ( غفران ) تموج برومانسية طرية إلا أنها تفجر في القارىْ شحنات من الدهشـة وخاصـة عند قراءة ( جميلة جداً) و ( تكذب) و ( أنا أنتصر ) لتضعه في مواجهةٍ لا بـد منها مع نص ٍ يتعامل مع المتغير في طرح الفكرة أو تحليل المغزى , ويبدو ذلك بينّا تماما ً في ( الجمال الرائع ) و ( مثل أدونيس) وغيرهما .
ولنقرأ معاً قصته القصيرة جدا ً ( عاشق حقيقي ) :
( قالت لأختها بحرارة : إسمعيني , أمس في الليل قلت له , كيف تسـتجيب لنداءاتي؟ أجابني مثل إنسان خليق بحب ٍ أصيل , ياإلهي , بالضبط كما يستجيب الكمان للقوس !!. )
فإذا ما أخضعنا هذه القصة القصيرة جدا الى هيكلية البناء الشعري في قصيدة النثر الذي يمكن أن نطلق عليه الومضة او البناء التوقيعي فسوف يتحول الشكل الى الآتي :
قالت لأختها بحرارة : إسمعيني
أمس في الليل قلت له
كيف تستجيب لنداءاتي
أجابني مثل إنسان خليق بحب أصيل
يا إلهي
بالضبط كما يستجيب الكمان للقوس
إن الأحساس الرفيع بالحب , وتحميل الحرف أعباء إعصــار نفسي هائل لا يجد مبتغاه سوى في النداء الكامن في أعمـاق المعاناة , ولا يمكن للقيسي توصيفه بصـيغة تقليدية مطروحة , لهذا فإنه إلتجأ الى الشـعور الذي يدفـع بالنص الى مقارنـة الحب الأصيل بإســتجابة واحد ٍ من أحن وأعـذب الالات الموسيقية وربمـا هـو التفسـير الأدق والأقرب لأستكانة العاشــقة تحت جناحي الحبيب بعد طول مكابدة , لتنعم بإغفاءة عميقة إثر هدوء العاصفة . يقول في قصته القصيرة جداً (كوكب):
-أنت عزيزتي كوكب معتم بدوني
-معتم ؟! كيف ؟
-لأنني برحيق حبي الدافئ ، وأملاح عواطفي أضيئ روحك ، وأعطي لعينيك بريقهما ، ولجسدك حرارته ، وأجعلك رطبة ، أجل ، أنا قمرك !
وبذات القوة يتناول القاص البذل النبيل للحبيب في قصته القصيرة جداً الموسومة (لذاذات) والذي من خلالها يكتشـف القدرة الســرية للكلمة على رســم المعنى العميق لمفهوم العطاء الحســي وجعله مرادفا ًلقيم الفروســية بكل مهاراتها ونقائها لنقل المرأة الى أوج إشعارها بأنوثتها , بل وإشعال اللهيب في كل خلية ٍ من خلايا جسدها ! :
آه ياحببيي ,
لكم ببذخ ٍ نبيل ٍ تمنحني لذاذات حسية ؟ ,
وهذه اللذاذات تجعلني أن أشعر بحميمية العلاقة بيننا ,
معك وحدك أشعر أنني إمرأة حقيقية ,
إمرأة في كل بوصة من جسدي!
إن عوالم (جليل القيسي) في قصصه القصيرة جدا ً هي دنيا مسكرة وشاعرية , مرهفة وشفافة , تمتد على مساحة واسعة للود الحميم , وهذه سمة الشـــعر , لكنها أيضا تمور في طياتها عقب كل قراءة بتلك القنبلة الموقوتة التي تتشظى بعد إنفجارها نحو كل الأتجاهات , لتسلب في آخر المشوار الراحة من العقل المفعم بالسكون , والفؤاد المبتلى بالأسترخاء !
3061 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع