السلحفاة الصينية إلى قواقعنا الفكرية

 اللواء الركن علاء الدين حسين مكي خماس

السلحفاة الصينية إلى قواقعنا الفكرية

 

 صورة السلحفاة مطلقة الصواريخ مستلة من الفديوالمشار اليه

وصلني مؤخرًا من أحد الأصدقاء مقطع فيديو طريف في شكله، عميق في دلالته، يعرض نموذجًا صغيرًا على شكل سلحفاة مطبوعة بتقنية ثلاثية الأبعاد، مزوّدة بأنبوب يطلق صواريخ بسيطة الحجم. النموذج من تصميم صيني، ويبدو أقرب إلى لعبة تكنولوجية ذكية منه إلى سلاح فعلي، لكنه يحمل في رمزيته ما يستحق التوقف عنده. ( يرجى مشاهدة الفديو المرفق)

السلحفاة في الخيال البشري كائن بطيء، مسالم، متقوقع في قشرته، تحتمي بالسكينة وتخطو بحذر. لكنها في هذا العرض الجديد تتحول إلى منصة إطلاق، تتحرك على عجلات صغيرة وتنفث "نارًا" من قوقعتها – في مشهد يجمع بين الطرافة والدهشة، وبين العبث البرمجي والتخيل الحر.

قد لا يكون هذا النموذج سلاحًا حقيقيًا بعد، لكنه يفتح بابًا واسعًا لفهم الطريقة التي تفكر بها بعض العقول التكنولوجية المتقدمة: تفكير رمزي، جريء، يدمج بين اللعب والردع، بين الفكاهة والهندسة، وبين اللاعقلاني والعسكري. إنها طريقة تنتمي إلى ما يمكن تسميته "ما بعد الواقعية العسكرية" – حيث لم تعد الحرب مجرد قوة نارية، بل أصبحت مسرحًا للإبهار النفسي والإرباك البصري والرموز غير المتوقعة.

ولعلّ ما يثير الانتباه هو الجرأة في إعادة تعريف الأداة القتالية نفسها. فبدلاً من تطوير طائرات ضخمة أو صواريخ عابرة، يذهب بعض المصممين إلى استخدام مفردات من الطبيعة، لتضليل الخصم أولاً، ولإرسال رسائل رمزية ثانيًا، وربما لزرع الارتباك في ميدان القتال دون إطلاق رصاصة. وهذا يفتح بابًا واسعًا أمام التفكير غير النمطي في تصميم أدوات الحرب، ويؤشر إلى أن ساحات الصراع المقبلة لن تعتمد فقط على ما يُرى أو يُسمع، بل على ما يُفهم ويُتوقّع.

الصين لم تأتِ بهذا "النموذج السلحفاتي" من فراغ، بل من رحم فلسفة تكنولوجية ترى في كل شيء قابلًا لأن يتحول إلى أداة – ليس فقط للقتل، بل للتأثير والردع. وهذه الرؤية تتماشى مع استراتيجية بكين الأوسع في إنتاج أدوات منخفضة الكلفة، سريعة التصنيع، وتتمتع بمرونة كافية لتندمج في بيئات القتال المختلفة، سواء التقليدية أو الرمزية أو السيبرانية.

لكن حين نتوقف لنتأمل هذه "السلحفاة المقاتلة" بكل ما تحمله من خيال وسخرية ناعمة، لا يسعنا إلا أن نعقد مقارنة واقعية مع أوضاعنا في العالم العربي. ففي الوقت الذي تُستثمر فيه التكنولوجيا والرمزية لصياغة تصوّرات جديدة عن أدوات الردع والتخفي، ما زلنا نحن العرب في مرحلة استلهام الماضي، ولم نصل بعد إلى طور استشراف المستقبل، القريب منه أو البعيد، بصورة منهجية ومؤسسية. الفارق ليس في القدرة الصناعية فقط، بل في بنية التفكير، وفي الجرأة على المزج بين الابتكار والتجريب.

لسنا هنا بصدد انتقاد الذات بقدر ما نطرح سؤالًا صادقًا: أين يقف العقل العربي من هذا النوع من التفكير؟ ولماذا لا يزال الابتكار عندنا يُختزل في محاولات تقليد منجزات الآخرين بدل المساهمة الأصلية في صناعتها؟
ربما يكمن الجواب في غياب منظومات متكاملة لتشجيع التفكير الإبداعي في المجالين الدفاعي والمدني على حد سواء. لا الجامعات تُنتج بحوثًا قابلة للتحويل إلى منتجات، ولا المؤسسات تتيح هامشًا للخيال الموجه بالتقنية. وحتى المبادرات الفردية، إن وُجدت، تظل محاصرة بثقافة إدارية روتينية لا تحب المفاجآت ولا تعترف بقيمة المحاولات التجريبية.

إن مثل هذا النموذج البسيط – سلحفاة تسير على أربع عجلات وتطلق قذيفة من بطنها – يذكّرنا بأن الإبداع لا يحتاج إلى موازنات ضخمة، بل إلى عقلٍ يتحرر من القوالب، ويمنح الأشياء البسيطة معاني جديدة. فكم من فكرة صغيرة صنعت تحولًا في أنماط الحرب؟ وكم من أداة رمزية غيّرت ميزان الردع دون أن تُحدث دمارًا؟

التحدي ليس فقط في اللحاق بالتقنية، بل في إدراك أن المستقبل ملك لمن يجرؤ على التفكير فيه بأدوات اليوم. ولعلّ الوقت قد حان لتبنّي رؤية جديدة تنقل مجتمعاتنا من مربع ردّ الفعل إلى دائرة الفعل، ومن هامش المراقبة إلى قلب المشاركة.

في الختام، السلحفاة الصينية لا تهدد أمننا القومي، لكنها تطرح علينا سؤالًا جوهريًا: متى ننتقل من الانشغال بما كان، إلى التفكير بما سيكون؟
فأخطر الأسلحة ليست تلك التي تُطلق نارًا، بل تلك التي تُطلق أسئلة.

https://vk.com/video-211289604_456265065?to=L3ZpZGVvLTIxMTI4OTYwNF80NTYyNjUwNjU/bGlzdD0wYTA5MDgxOGY0ZjBkZjg4ZjM-

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1186 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

تابعونا على الفيس بوك