عند أسوار بابل - قصة من خيال بلاد ما بين النهرين القديمة

 

                                                          

                                                         بقلم/ حامد خيري الحيدر

راعه منظر بوابة المدينة وقد تساقطت أجزاء كبيرة منها، حتى غدت مجرد كتلاً شوهاء من الطابوق بلا مظهر أو معالم يمكن أن توصف به.. منحوتات عشتار التي نُصبت عندها بابتسامتها الساحرة الجميلة وأياديها الممدودة ترحيباً بضيوف بابل وزائريها، أزيلت جميعها ولم يتبق منها سوى قواعدها، وبقايا قطع صغيرة منها متناثرة هنا وهناك يصعب تمييزها...

لم يعد هناك جنوداً وحراساً ضِخام بقامات ممشوقة وسيوف ماضية يسيرون أمامها جيئة ً وذهاب، مانحين المدينة كبريائها، راسمين صورة مَهيبة لسلطة المدينة وقوة قانونها... اختفى كل ذلك ليغدو مشهدها مجرد صورة مبهمة من تاريخ زائل، وبقايا ماضٍ مؤطر بالجمال لم يعد له من وجود... لم يعرف أي وصف يعطي مدينته وهو يراها بهذا الحال بعد سنين طويلة من رحيله عنها، ليعود اليوم فيلقاها هكذا وحيدة كسيرة، بعد أن كان بريقها يضاهي نور الشمس.
بعد صرخة مدوية من قائد القافلة معلناً لجميع المسافرين معها وصولها الى نهاية طريقها... ترجل (سوتورام) مع كيس متاعه الصغير عن العربة التي اقلته من أرض غربته الى تلك البقعة البائسة المنسية من حسابات الزمن، والتي كانت في يومٍ ما وطناً مفترضاً له.... تنقل ببصره الى أسوار المدينة غير مصدق لما آل اليه حالها وما تُصوره له عيناه من حقيقة ما يرى... نعم أنها بابل عينها.. بابل التي كانت يوماً سالبة الابصار وملهمة الجمال ومرام المبهورين بالشعر والفن وحلم الشرق.. لم يتبق شيئاً من ذاك البريق..... كان قد سمع وهو في منفاه القسري، أنها سارت بدرب الخراب الذي أبتلعها مع شعبها وتراثها، لكن ليس للحد الذي يراها فيه الآن، مجرد خرائب وأنقاض.. اسوارها المنيعة المهابة انهارت أجزاء واسعة منها، حتى اصبح دخول المدينة حقاً مشاعاً لكل من هب ودب ودون حسيب أو رقيب، فلا حراس يقومن بحراستها ولا بوابات تراقب وتنظم حركة المارين عبرها، ولا قانون يلجم من تسول له نفسه المساس بأمنها وأمن اهلها، لتُباح عذريتها لكل ضعيف نفس وكاره.
رمى ببصره لمحيط المدينة حيث كانت تزهو البساتين الخضراء العامرة الصدّاحة بتغاريد البلابل وزقزقة العصافير.... غدت مجرد أدغال وغابات شائكة من الأشجار المُتيبسة.. جفت سواقي مياهها الجارية الصافية الرقراقة، تاركة الجفاف يغرس أنيابه في أرضها التي تحولت الى ملعبٍ للرياح المتربة، تغزوها من كل حدٍ وصوب، حاملة معها ما تيسر من أشواك وأغصان متكسرة.. ونخيلها الشامخ بأعذاقه الصفراء الزاهية المُتدلية، بات مجرد جذوعاً محترقة كأنها أعواد مشاعل تزيّن أحدى غابات الجحيم.... وحدها بنات آوى كانت تتراكض مستمتعة هنا وهناك دون خوف، مالئة الفضاء بضجيج وأوأتها القبيحة.... (آه يا بابل، أي عاصفة هوجاء تلك التي اجتاحت ديارك؟ وأي بلاء ذلك الذي ألمّ بأرضك المظلومة أبد الدهر؟).
 لم يشيّد عند بقايا البوابة الكبيرة أية أبنية لخدمة واستقبال المسافرين والقادمين للمدينة أو المارين بها بطريق سفرهم، تشعرهم بشيء ولو يسير من جمال المدينة وكرم أهلها، ولم يجود أولئك الذين تعثر عقل الزمان فسّلم اليهم أمرها، سوى بمعبد قبيح الشكل مطلي بلون أسود فاحم كأنه سخام وهباب المحارق.. لم يكن بشكل المعابد التي ألفها وقصدها أهل بابل للتعبد وتنقية الفكر والروح، بدا كإحدى صوامع الشياطين التي لا تسكنها سوى خفافيش الظلام... كان هناك عدداً من الكهنة يدورون حوله، مشياً أحياناً، وأحياناً أخر هرولة أو ركضاً، يوجهون رؤوسهم تارة الى الأعلى كأنهم يستعجبون زرقة السماء، وتارة أخرى نحو الأسفل كما لو أنهم يريدون الاعتراف بمذلتهم ونسيان كبرياءهم.. بدت هيئاتهم كشياطين العالم الاسفل التي جلبت القحط للبلاد بعد اختطافها الإله تموز... كان جميع الوافدين للمدينة يجبّرون على التبرك بجدران ذلك المعبد مقبّلين إياها قبل أن يهّموا بالدخول، وبعد أن يمنحوه شيئاً من الهدايا والقرابين.... لم يجرؤ على الدخول الى المدينة فثنايا عقله لم تكن لتستوعب حتى تلك اللحظة هول ما يراه، وما آل اليه حال بابل منذ أن تركها في زمن شاذ يصعب وصفه في سلسلة دراما السنين.
 ظل (سوتورام) سنين طويلة في حالة صراع مع الذات منذ ان ورده وجميع الذين كانوا على شاكلته، ممن رفضوا طأطأة هاماتهم لمن أرادوا أذلالها، خبر سقوط المُلك في بابل  وزوال سطوة أعتى طغاته.... هل يتقهقر عائداً الى مدينته التواقة لرؤية أبنائها الأوفياء الغائبين؟ كيف سيجدها وأهلها وما تركه فيها؟ بأي حالٍ سيراها بعد سنوات عجاف ضاعت بين آهات أهلها، خُنق الناس خلالها خنقاً، لتجعل منهم أما شريداً أو قتيلاً أو ضعيفاً مسلوب الارادة  لا يقوى على فعل شيء لتغير واقعه ومأساته، حتى وأن كان بين ثنايا عقله بقايا فكرٍ يرنو لكسر قيوده... كان هناك هاجساً خفياً يمنعه من العودة، يصرخ في أذنه على الدوام (أقنع بغربتك رغم قسوتها فلم يعد هناك شيئاً من بابل الماضي).. هكذا تقاذفته الافكار وتلاعبت بعقله المخاوف، لتدور به دوامة الزمن الغريب دون أن يشعر أو يحس ألا من اعتلال صحته وغزو المشيب لشعيرات رأسه، وبعد أن أخذت ذاكرته تسير رغم عنها في طريق الوهن، فلم تعد تقوى على الاحتفاظ سوى بحفنة ذكريات مبعثرة لوطنه المزهوة صورته في مخيلته، رغم ما حوته من آلام  ألا أنها أيضاً حملت شيئاً من لمعان الحياة ورونقها.. كان أجملها بيت طيني صغير ملأت جدرانه الشقوق، أحتمى تحت سقفه المتهاوي اغلى ما منحته الحياة وجادت به عليه، أم حنون صابرة.. مجرد جسد ضئيل نحيل لا يعرف سوى نطق كلمات الحب، أحتوى قلب صغير أستطاع أن يسع العالم اجمع دون أن يعرف التخمة.
 (يا ترى هل مازالت على قيد الحياة تجلس عند باب الدار كما اعتادت، ساندة ظهرها على حافته المتآكلة تستنشق غبار الألم؟ تحلم بيوم الانعتاق الموعود، وبنسائم فرح عذبة ترطب وجوه أهل بابل؟ تدعو ما تبقى من تلك الآلهة الخائبة التي لم يتلوث شرفها ولا زالت تحمل بعضاً من حنين لبني البشر، كي تحفظ الناس وتقيهم شرور الحروب والفتن؟)... كانت أمه ترفض الرحيل عن مدينتها رغم ما أصابها خلال تلك العهود العجاف، وهجرة أهلها الطيبين عنها طمعاً بشيء من كرامة وبعض سلام نسوا صورته منذ دهور.. كبرياء غريب يصعب وصف صورته، ذلك الذي تدفأت به تلك النخلة الشامخة المولودة عند ضفاف الفرات جعلها تشعر أنها توأم روح بابل، لترد عليه بلسان يقطر طيبة وعذوبة حين يمازحها كما أعتاد أن يفعل.. (أتظنين يا أماه أنك من ذوات الاعمار الطويلة؟ أم أن حياتك ستنطفأ عند حصاد الموسم القادم؟)...  (أن عمري سيطول.. حتماً سيطول، ورغم أنف الظلم والألم.. لأنه أرتبط بحب بابل، وانا على يقين أن مدينتنا لن تعرف الموت يوماً).... تذكر صورتها لحظة فراقها يوم سفره المجهول الخاتمة والاتجاه، لم تنحني هامتها، ولم تذرف حينها دمعة واحدة ولم تبدي شعور بالحزن، بل منحته ابتسامة وادعة هادئة متيقنة أن أيام الفراق وأن طالت لابد من أن تجمعهما ثانية.. عندها علقت برقبته قلادة لم تفارق صدره من حينها، حتى غدت جزء من جسده.. كانت تذكارها الوحيد اليه والذي ورثته يوماً عن جدته، مجرد نواة بَلَحة معقودة بخيط رفيع، نُقش عليها أسم بابل.. كان لتلك النواة البخسة رائحة غريبة لم يشعر بها سواه، ربما رائحة الأم التي لا يميّزها سوى وليدها؟ ربما عبق النخيل والبساتين والأرض الفواحة بنسائم الخير؟ وقد تكون عبير المكنون الذي أحتوى سر حياة مدينته؟ لم يكن ليعرف أو يميّز أياً من ذلك... مع مرور الايام أهترأ الخيط مرات ومرات ليبدله في كل حين، لكن النواة بنقشها الغائر ظلت صامدة تتحدى تعاقب حوليات الزمن.
(غربتي وجع في سجن كبير.. غربتي وهم بين ثنايا المصير.. عائدٌ لحضنك يا بابل.. وأنغام خلودك ستبقى تعزفها الأنامل).. لم تكن تلك مجرد أغنية بل صدى طبل كبير أيقضه من تناقضات تفكيره وحسم جدلية هواجسه... هكذا قرر بسرعة ودون تخطيط أو تفكير طويل، بمجرد سماعه تلك الكلمات يدندن بها عند قارعة طريق موحل أحد الشحاذين السكارى المكتوين بجمر الغربة، من العودة الى مدينته المبتلى بعشِقها والمأسور بعبق تاريخها الزاهي.. معلناً أن غربته قد أزفت نهايتها وحانت ساعة نسيانها، وأن له وطن ينتظر على شوقٍ أحر من قيض ظهيرة شهر آب.. هكذا صوّر له عقله الموهوم بسذاجة الملائكة، بعد أن كبّلت عقله أفكار طفولية غريبة بعيدة عن مجريات الحقيقة، لا تفقه طبيعة تناقضات الدنيا وغدر زمانها المتربص دوماً بسعادة البشر، ومؤامرات من تمنى وحَلم دوماً باغتيال نخيل بابل.. ورغم توارد الأخبار تباعاً دون أن يمضي وقت طويل عن تقلبات الدهر وما فرضه دستور التغير ومنطقية الحقيقة، معلناً تبدل مجرى الأحداث وسيرها بما كان لا ينتظر أو يتمنى شعب الفرات.. لتفيض الدماء ويستجد الطغيان من جديد، وتذبح طيور البلاد مرة أخرى بسيوف باردة عمياء... قدر أهوج مجنون ذلك الذي لف هذه الارض التي ما تكاد قطرات الأمل تبلل مخيلتها حتى تعصف بها من جديد رياح الموت والقهر، لتبقى مدينته الأبية الحالمة غافية رغم عنها تحت جفون الألم... لم يفكر في كل ذلك ولم يرد الى عقله أياً من تلك الأفكار المتبصرة، فلم يعد في بقايا العمر ما يستحق الندم على قرار طائش متعجل.. كانت غربته التي اقتصت من حياته الكثير وسرقت برعم شبابه وأخذت مأخذها منه رغم عنوان نعومتها، قد مسخت شخصه وروحه وجعلته كائناً معلقاً بين غيوم الكرامة وحقيقة الذل، وأنسته كل أحلامه التي ظل يغفوا ليله منتظراً ومتوهماً تحقيقها دون جدوى.
أخذ يسير مع الاسوار متفحصاً حالها.. لم تعد العصافير تبني أعشاشها بين شرفاتها ومقرنصاتها.. وحدها الغربان السوداء كانت تحوم فوقها مالئة الفضاء بنعيقها الكريه.. وبُوَم النحس بدت مزهوة نافخة ريشها، تتبختر على أنقاض ركام ما أنهار منها، مطلقة أصوات غريبة تشبه ضحكات الشامتين.. كان يتوقف في كل حين ينظر بتمعن الى داخل المدينة، ملقياً نظره الى أبنيتها وشوارعها عند كل فجوة أو محل انهدام في  السور، مُستفقداً ما كان عليه حالها أيام دهرٍ مضى كان أشبه بالحلم.... بدت أزقتها كئيبة خالية من سكانها، تتبرم فيها تيارات الهواء المليئة بالغبار ذات اليمين وذات اليسار وكأنهن مجموعة راقصات خليعات يرقصن رقصات الجنائز.. تماثيل أبطال بابل وشعرائها ومغنوها، التي كانت تجمّل ساحاتها لم يعد لها وجود.. حوانيت بيع الأقمشة والعطور والسجاد والتحف مغلقة.. دكاكين صاغتها الزاهية المتباهية بلمعان ما تعرضه لأجمل حليها من فضة وذهب وأحجار ثمينة، بدت ظلماء خاوية.. غرف الكتبة بما كانت تحويه من خزائن الألواح المكتوبة أصبحت ملاجئ لنوم الكلاب والقطط.. ورش ومشاغل النجارة والحدادة والنسيج لم يعد يُسمع ضجيجها الذي كان يوحي لمن يصله صداه بأنه عزف شجي تفننت وتفردت به سواعد صناع الحياة.. الحانات الجميلة التي كانت تنتشر بين شوارعها تصدح منها أعذب الأغاني، وأرق أنغام الموسيقى، تم هدمها مع الارض... (هناك كانت حانة (ستراني) ومن الجانب الآخر تنافسها حانة (أينكاسا).. يا إلهي كيف غدا مصيرهما هكذا.. أن طعم نبيذهما لا يزال يرطب شفاهي).... أصبحت الحياة صنو ومعنى أخر للموت.. الحزن والكآبة والوحشة هي كل ما تبقى بين شوارع بابل... لم تشيّد أبنية جديدة، كل ما تم تشييده هو المعابد، صغيرة هنا وكبيرة هناك، كل بضعة امتار معبد، وبين كل معبدين كبيرين كان هنا آخر صغير يتوسطهما... ولم يكن بينها سوى الكهنة، كهنة في كل مكان ينتشرون بين الشوارع والازقة، حتى بدو بتجمعهم كأسراب القمل حين تبتلى بها خصيلات الشعر.
 لم يكن أولئك مثل كهنة بابل التي عرفهم أيام مجدها، كانوا بسِمات غريبة ووجوه مكفهّرة صفراء ينفر منها كل تقع عيناه عليها.. بعض منهم كان يتجمع عد بوابات المعابد كي يلقوا خطباً وفتاوي بصوتٍ عال وبلغةٍ لم تكن سومرية أو أكدية، وآخرون يسيرون في أحد الازقة بشكل كراديس صغيرة يقودهم كاهن متحمس يصرخ فيهم كلما بطأ سيرهم أو خفت نشاطهم، حليقي الرؤوس عراة الصدور، يتناوبون الضرب على أجسادهم بشدة، تارة على الصدور وتارة على الرؤوس، وفق تناغم موسيقي فطري قبيح ذكرّه بصوت انهمار السياط على ظهور المعتقلين في سجون الطغاة.. نفس الوجوه الصفراء، نفس الصوت ونفس المهارة في الضرب، ونفس الغايات الخبيثة بقمع الصوت الآخر واخراجه من معادلة الحياة.. (ما تغير شيء يا بابل.. كلا، ما تغير شيء).. هكذا قالها (سوتورام) بحرقة مع زفرة مسموعة خرجت معها كل آلام صدره.
 تتبعت عيناه أحدى كراديس أولئك المخدّرين وفاقدي العقول، كانت تضرب بقوة تفوق باقي الاخريات، يهيّجها كاهن بلحية طويلة، على رأسه قلنسوة عالية تشبه تلك التي يعتمرها السحرة كي يخبئوا تحتها الأفاعي والعقارب، محفزاً اياهم على المزيد من شدة الضرب وايلام الجسد.. بدا شكله وهيئته ليستا بغريبتين عليه.. فرغم ضعف ذاكرته المشبعة بهموم الأيام لكنها لا تزال تحتفظ  بصور أولئك الذين جعلوا من لحوم أبناء بابل طعاماً لمخالبهم وقوتاً لأحلامهم المريضة.. (عرفته بالتأكيد.. كان أحد جلادي الطغاة.. أشتهر بوحشيته ازاء كل من وقع تحت رحمته من أبناء المدينة ممن رفضوا حكم الظالمين المقبور... من المؤكد أنه أصبح جلاداً من نوع آخر، لا يقتص من الأجساد، بل من العقول والأفكار، بعد أبدل أسياده أساليبهم العتيقة البالية بقهر المظلومين والكادحين بالسياط والسكاكين، ليستعيضوا عنها برياء القول وزيف الكلام واكاذيب التعبد)...... هكذا أذن بانت الأمور واتضحت صورتها، من تلك الخزعبلات، فهم (سوتورام) في أي مستنقع نتن آسن سيقت بابل وأهلها الصابرين الى فخه، وأية هاوية عميقة القرار تم ايقاعها فيها.
دون شعور تلمس قلادته كأنه ينشد منها العون، بعد أن استنزفت تلك المشاهد ما كان قد جلبه معه من أرض غربته من بقايا كبرياء جسد خاوي... وما كاد يستوعب صدمته حتى قفز الى فكره سؤال بديهي أنساه إياه حال المدينة وواقع دمارها.. (أين الناس.. أين شعبك يا بابل؟ هل يُعقل أنهم غدوا جميعاً محشورين قسراً داخل تلك الصوامع الدهماء الموحشة منتظرين دورهم في عملية غسيل الأدمغة والعقول؟؟ لم أرى سوى بضعة عشرات، لكن أين الباقين؟؟؟) واصل سيره مع امتداد الأسوار.. كانت المدينة خاوية، لم يكن هناك من بشر... (أين شعبك يا مدينة الصخب والموسيقى والضحكات المجلجلة؟ لم يعد من أثر لأطفالك المتمازحين اللاعبين بين أزقتك المضاءة بالقناديل الملونة والفواحة بأريج العنبر والياسمين.. أين حِسانك المتمايلات بمشيهن ساعة الغروب وبرد العصاري، بدلال تغاره حتى عشتار وآلهة الخمور، تلاحقهن كلمات غزل شباب جبلوا على عشق الجمال؟ ماذا حدث لمجالس شيوخك تحت أشجار السدر، بنقاشاتها الحامية الحادة التي لا تنتهي حول متضادات الحياة وأصل الوجود... هل الآلهة هي التي خلقتنا أم نحن الذين خلقنا الآلهة؟)... ظل كحال من فقد صوابه أو أبتلي بمس من الجنون يردد ذلك مع نفسه، أحياناً بصوت عال وأحياناً بصوت مخنوق بعبرات الحسرة والصدمة..... لم يعد هناك سوى أكوام القمامة والنفايات بذبابها وروائحها التي تخنق الصدور كحال المعابد، تتراقص بينها الرياح المُغبّرة الخانقة التي جعلت من جو المدينة أصفر اللون يدعو للغثيان، ناقلة مع تياراتها أصوات تراتيل الكهنة المرافقة لصدى صوت الضرب على الرؤوس والصدور... خراب ومعابد وكهنة وقمامة، هذا كل ما جنته المدينة بعد تغير الوجوه، وتبدل الأحوال ومناخات وأهواء المصالح.
أوصلته قدماه بسيرها الهائم حيث مجرى نهر الفرات الذي كانت بابل تغفوا مستمتعة على ضفتيه، كقصبة هواء تبعث مع مجراها الحياة والانتعاش الى رئتيها المتخمتين بعليل وبرد النسائم.... كان حاله لا يختلف عن حال المدينة.. مياهه أضمحلت وبان عقيقه الطيني كاشفاً عن عدد لا يحصى من الجُزيرات الصغيرة، لتغدوا مجرد بُركاً للمياه الآسنة جعل منها البق والبعوض مستعمرات آمنة له ولذريته، بدت لناظرها شديدة الحمرة كما لو أنها اختلطت بالدماء.. أسماكه اختفت، وحتى الضفادع والسلاحف هجرته بعد أن رأته يسير نحو الاحتضار... ومراكب الصيادين والتجار والسفر التي كانت فيما مضى تشق تلك المياه جيئة وذهاب بأشرعتها البيضاء الناصعة العالية لتكون سفيرة بابل لبقاع العالم البعيدة، تنقل لها صورة وخير شعبها سليل الأمجاد والحضارة.. وجدها مهشمة ملقاة عند الضفة بشكل يدمي القلوب، تستذكر أيام عِزها حين كانت تزأر مثل ربابنتها مُهيبة مياه البحر، مفتقدةً تلك المويجات التي تفخر بحملها.... لم يبق شيء في بابل  يستحق حتى مجرد التفكير به، بعد ان حولتها طعنات الزمن الى لوحة دهماء موحشة تستجدي رثاء الشعراء.
بدت له من بعيد عند طارف سور المدينة البعيد تجمعات لبشر منتشرين هناك، أخذت معالمهم وصورهم تتضح شيئاً فشيئاً كلما أقترب منهم.. (أخيراً وجدت أهلك يا بابل.. أهكذا أبعد الناس الكرماء الطيبين عن بيوتهم وأزقتهم ليلقوا بهذا الشكل الذليل، ليُجعل منهم كأنهم مجدورين محشورين في مستعمرات الأوبئة؟).... لم يبالي أحد به أو بقدومه أو يستغرب لمشيته الحائرة المتعثرة، ولم يوجه أياً منهم  التفاتة أو نظرة تشجعه للسؤال عما جرى ويجري.. لم تكن هيئاتهم توحي بانتمائهم الى عالم الأحياء، جلودهم أحرقتها قسوة الشمس اللاهبة، وجوههم ختمت بعلامات الحزن بعد أن نست أفواههم صورة الابتسامة.. رجال يشعرون بانتقاص الرجولة ومذلة الأيام، ونسوة فقدن بريق أنوثتهن، بينهم أطفال لا يفقهون واقع حالهم ولا يعرفون شيئاً عن مجد مدينتهم أيام أجدادهم، يلهون بالأتربة ويتراكضون بين ذويهم، بعد أن ورثوا عنهم مرغمين هول مأساتهم.
 الجميع كانوا مجرد أقفاصاً من عظام لفت بجلود متيبسة مهترئة، تناثرت على امتداد الاسوار بعد أن تنكرت لهم الأحياء والأزقة، التي لم يعد يربطهم بها سوى خيط واه رفيع مزوق بذكرياتٍ لم يعد لها طعم أو معنى.. ليتخذوا من تلك البقعة النائية الضيقة وطناً بديلاً لهم، بعد أن تحولت مدينتهم الى مسرح كبير للأكاذيب والخداع واللصوصية والتطرف، وغدت دروبها مستعمرات لأعشاش الغربان.. كانت المأساة تتجسد في صورهم وهم يعيشون بذل تلك الحياة الكسيحة التي يأطرها الفقر والفاقة... أفضلهم حالاً لا يمتلك أكثر من خيمة مهلهلة ممزقة تتلاعب الريح بجوانبها، ولم يكن لهم من متاع يستحق القول أو الذكر.. أما قوتهم فلا يتعدى ما كانت تجود البريه به عليهم، من أعشاب وعظايا وقوارض يقتادون عليها، الى جانب مياه ملوثة  تجلب من شحيح مجرى الفرات... أخذ يسير بين هؤلاء المتعبين المتناثرين بعشوائية في هذا المكان، بين مستلق وجالس وهائم ينقل خطاه جيئة وذهاب في خطٍ متعرج رسمه في مخيلته، ناقلاً بصره نحو الأفق لأيام قادمة لا يعرف لونها أو طعمها، حائراً في زمانٍ سرق منه حلو البسمات وخضر الأماني.... كل شيء كان واضحاً رغم حيرته بما يراه.. هل هي حقيقة مُرة مفزعة، أم وهم وخيال أم كابوس كريه مرعب؟ أهذا هو حقاً وطنه الحلم؟ هل هذه حقاً نهاية المدينة التي ظلت على الدوام تنتظر ربيعها محمولاً على أنوار فجر جديد؟
 نسى (سوتورام) في تلك اللحظة كل شيء، من أين جاء، ومتى غادر مدينته، بل أنسته مناظر هؤلاء المظلومين حتى صورة أمه التي تحّمل عناء السفر من أجل رؤياها ومعرفة مصيرها... تلمس قلادته مرة أخرى عسى أن تمنحه شيئاً من أرادة، لكن دون جدوى.. (حتى التاريخ كرهنا وما عاد يطيقنا.... تباً له من قدر.. أنظل هكذا نُقتل في كل حين، مغروسة في ظهورنا مخالب الغربة ومن دمائنا تقطر أنياب الطغيان؟).. كان قد فقد كل قوته وسلبت منه مشاهد تلك المآسي جّل طاقته، فلم تعد ساقاه تتمكنان من حمل جسده المتهاوي الضعيف المُنهك، ليختار مكاناً بين الناس القى بنفسه عنده سانداً ظهره بأريحية على السور، كأنه يستذكر كتف أمه الذي ما نسيّ يوماً دفئه ونعومته.... ورغم بؤس المكان وتعاسته لكنه أحس بارتياح غريب ينتابه، هل هو شعور الانتماء لهذه الأرض المحكوم عليها بالتصحر أعتقد أن مات منذ زمن؟ هل هي راحة منتظرة لتائه حائر بلغ غايته المبهمة بعد سفرة شاقة في متاهة العمر؟ أم أنه استرخاء الخلود الذي وعد به من وقع على عاتقه بناء الحضارة، حتى وأن كان بين فكي الموت؟ مد ساقيه بتثاقل، رامياً بصره الى السماء، تاركاً لتفكيره الهائم السفر لتأملات عبثية لم يعد يميز أن كان هناك رابط بينها، كأنها عرض مسرحي متناقض ومتعدد الفصول.....الطغاة، الغربة، بابل، الجلادون، الكهنة، الضرب على الاجساد، الغربان والبوَم، المعابد، الناس، الفرات..... لتسرقه سريعاً من حيز الوجود غفوة حالمة جعلته يعيش عالماً سرمدياً، أعاده سنين بعيدة الى الوراء، حينما كان طفل صغير، يلاعب أقرانه الصغار لعبة قذف الحصاة والاختباء خلف جذوع النخيل.
 خطوات جسدٍ ضئيل اقتربت منه بهدوء جعلته يستيقظ من قيلولته، فتح عينيه بهدوء لتلاقيان طفلة صغيرة بالية الثياب كحال أقرانها، لها وجه جميل مستنير رغم تعفره بالتراب وشعر ناعم بسواد الليل، انسدلت منه جدائل طويلة تصل حتى خصرها.. أخذت تنظر اليه بتمعن مستغربة هيئته، ثم مدت يدها النحيلة المرتجفة تتلمس وجهه الغريق بعرقه، كأنها تريد التأكد أن الحياة لازالت رفيقة جسده.. بدت اليد باردة كالثلج، شعَر بحنوها ونعومتها.. بعد تأكدها من تردد أنفاسه، أشارت الطفلة بسبابتها الرقيقة الى ما كان يعلقه في رقبته.. أبتسم نحوها بصعوبة، ودون شعور أو تردد أنتزع قلادته الأثيرة من رأسه وعلقها في رقبتها، عندها أشرق ثغرها عن ابتسامة عريضة جمعت فيها كل ورود الدنيا.. تركته مهرولة لتكمل لهوها مع صُحيباتها، وبقايا ابتسامتها لازالت مُرتسمة على وجهها، متباهية أمامهن بما نالته من دون موعد أو انتظار..... كانت تلك هي الابتسامة الأولى التي يتلاقاها في مدينته منذ أن وطأت قدماه أرضها، تذّكره بصورة ماضيها الجميل وتشعره بحنين وطيبة أهلها..... عندها فقط أدرك (سوتورام) أن بابل رغم هول مأساتها ونزيف جراحها لا زالت على قيد الحياة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

805 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع