ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل
دائما وأبدا أقول بأن الموصل ليست مدينة فحسب إنها حضارة و (تاريخ ) و( تراث ) و (موقف ) و (دور ) ..ولقد انتبه إلى ذلك البلدانيون والجغرافيون العرب وغيرهم وأكدوا على أن الموصل مصرُ إقليم الجزيرة .. بلد جليل ..حسن البناء.. طيب الهواء .. كثير الملوك والمشايخ لا يخلو من إسناد وفقيه مذكور ..هكذا قال عنها شمس الدين أبو عبد الله البناء المقدسي البشاري سنة 390 هجرية - 1000 ميلادية .
أما أبو القاسم محمد علي الموصلي البغدادي المعروف ب "ابن حوقل" (367 هجرية -977 ميلادية ) ، فقد وصف الموصل بأنها " من أكابر البلدان.. عظيمة الشأن.. بها لكل جنس من الأسواق الاثنان والأربعة والثلاثة مما يكون في السوق المائة حانوت وزائد . وفيها من الفنادق والمحال والحمامات والرحاب والساحات والعمارات ما دعت إليها سكان البلاد النائية فقطنوها وجذبتهم إليها برخص أسعارها " .
لقد عني الموصليون بمدينتهم فشيدوا الأبنية الفخمة وزينوها بزخارف جميلة وغرسوا في دورهم وقصورهم الرياحين والأزهار والأشجار المثمرة .ينساب الماء في جداول إلى برك وأحواض يخرج منها نافورات وبين أشجارها الحيوانات الجميلة وعلى أشجارها الطيور المغردة ووصف السري الرفاء المتوفى سنة 360 هجرية -971 ميلادية مدينته بقصائد جميلة صورت لنا ما كانت عليه الموصل من جمال التنسيق..ودقة الفن .هذه هي الموصل كما أدركتها أنا على الأقل ومجايليي من أبناء ما بعد الحرب العالمية الثانية . واستطيع أن أقول أنها كانت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي أجمل وأرقى مما هي عليه الآن بالرغم من مرور أكثر من 50 سنة على تلك الفترة ....إذا لننهض بالموصل ولتتضافر جهودنا من اجل هذا الهدف النبيل .
والموصل مركز محافظة نينوى، مدينة قديمة.. لها تاريخ عريق. وقد ارتبط تاريخها بتاريخ مدينة نينوى، عاصمة الإمبراطورية الأشورية، مدينة يونس صاحب الحوت عليه السلام. ولا يتسع هنا المجال للغور في تاريخ الموصل القديم أو الإسلامي وحتى الحديث، فذلك معروف ،ولكن الأمر الذي نود هنا أن نؤكده بان الموصل كمحافظة، وكمدينة، اكتسبت عبر العصور التاريخية "شخصية حضارية". وقد ارتفع شأنها منذ أن تمكن العرب المسلمون من فتحها سنة 16 هجرية/ 637 ميلادية وذلك في عهد خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) بعد انتصارهم على الفرس الساسانيين في معركة القادسية المشهورة.
وعظم شأن الموصل منذ ذلك الوقت، وغدت قاعدة بارزة من قواعد العرب والمسلمين ، فجاهدت ، وأمدت الجيوش العربية بعدد كبير من قادة الفتح وجنوده .ومنها انطلقت الجيوش لحمل الرسالة الإسلامية لفتح أذربيجان والجزيرة .كما اتخذت مرات عديدة مقرا للإدارة وعاصمة لإقليم الجزيرة ومركزا عسكريا للدفاع عن حدود الدولة الإسلامية الشمالية الشرقية .
ومن الطبيعي - والموصل تتميز بهذا الموقع الجغرافي والاستراتيجي المهم على طريق التجارة وقوافلها . فضلاً عن اعتدال مناخها ،وخصوبة تربتها ،وكثرة قراها ومزارعها - أن يكون لها الدور الكبير في كل عصور التاريخ اللاحقة.. وقد زارها الرحالة العرب والأجانب وأشادوا بها وبأهلها . فهذا ابن بطوطة الرحالة المغربي المعروف يصف الموصليين (( بان لهم مكارم الأخلاق ،ولين كلام، وفضيلة وحب للغريب،وإقبال عليه.(( أما ياقوت الحموي فقال عنهم : ((أنهم أصحاب مروءة .. واعتدال)).
عندما جاء العرب فاتحين للموصل وجدوا إخوانهم ومنهم النصارى ،في استقبالهم حتى أن أحياء الموصل ومحلاتها لا تزال تحمل أسماء القبائل التي وفدت إلى الموصل أيامئذ ومنها خزرج ، والأوس، والمشاهدة، وثقيف والخواتنة ،والعكيدات.
لقد حظيت الموصل بأهتمام المؤرخين ،ولدينا كتب ومصنفات كثيرة تتناول تاريخ الموصل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي سواء في عهد حكومة الراشدين أو الأمويين أو العباسيين أو الحمدانيين أو العقيليين أو الاتابكيين أو العثمانيين.
وحين ضعفت الحكومة المركزية ببغداد، أقدم أهل الموصل على تنظيم أنفسهم، وإقامة كيانهم السياسي الخاص بهم . وقد تكرر ذلك مرات عديدة لعل آخرها انفرادهم بحكم أنفسهم بأنفسهم خلال عهد الجليليين وقد استمر ذلك بين سنتي 1726و 1834. وقد تصدت الموصل للغزاة وأسهمت في مقاومة الصليبيين الذين هددوا العالمين العربي والإسلامي منذ القرن الحادي عشر الميلادي (الخامس الهجري) حتى القرن الثالث عشر الميلادي (السابع الهجري).
من منا لا يتذكر عماد الدين زنكي ، ونور الدين زنكي، والجامع النوري الكبير ومنارته ( الحدباء ) شاهد على ذلك العصر الذي تحملت الموصل عبره مسؤولية الجهاد ضد التجزئة .. وضد الغزاة الصليبيين القادمين من الغرب والذين هددوا المسجد الأقصى ثالث الحرمين الشريفين ومدينة القدس.. مدينة الإسراء والمعراج .. مدينة السلام.. والموصل هي موطن الحضارات، وحضارة الأشوريين معروفة وإضافتهم للحضارة الإنسانية تقف اليوم لتعلن بان الموصل - نينوى قدمت للإنسانية الكثير ابتداء من الزراعة وانتهاء بالعلوم والرياضيات مروراًَ بالعجلة والمعمار.
لقد قاومت الموصل الغزاة المغول 1260م .كما قاومت حصار نادر شاه 1743م والذي يُعد من أبرز الأحداث التي وقعت في العالم الإسلامي خلال القرن الثامن عشر الميلادي.. وقصة دفاع الموصل ، ومقاومة الغزاة الفرس بقيادة الحاج حسين باشا الجليلي (1703-1757) قصة متداولة .وقد فشل نادر شاه في اقتحام المدينة .. ويقول المؤرخون أن حصار الموصل استغرق أربعين يوما بدأ يوم 14 أيلول 1743 وانتهى يوم 23 تشرين الأول 1743 . ولم يشهد العالم حصار أية مدينة بمثل تلك القوة (ربع مليون مقاتل) إلا إذا استثنينا حصار نابليون لمدينة موسكو بـ (400) ألف مقاتل .
مدينة الموصل من المدن العربية القديمة ويرتبط تاريخها بتاريخ نينوى عاصمة الإمبراطورية الأشورية. وكان للموصل حصن، وقلعة فوق التل المعروف اليوم بـ (تل قليعات) وللقلعة سور يحف بها .. وقد تعرض السور لكثير من التغييرات عبر عصور التاريخ المختلفة، وقد هدم المغول بعد احتلالهم الموصل سنة 660هـ/1261م جانبا من سور الموصل وأبراجه مع ما هدموه من المدينة، وقد ذكر المؤرخ الدمشقي أبو الفدا في (تقويم البلدان) أن سور الموصل كان اكبر من سور دمشق. كما أن ابن بطوطة الرحالة الأندلسي قال بان سور الموصل من أسوار الدنيا العظيمة، وانه لم ير مثله.
وعندما حاصر نادر شاه الموصل سنة 1743 كان لسور الموصل الذي جدده واليها الحاج حسين باشا ألجليلي دور مهم في مواجهة الحصار ويقال أن ألجليلي جمع أهل الموصل وخطب فيهم وحثهم على تجديد السور وإحكام بنائه وكان يشاركهم هو وأبناء أسرته في عمليتي حفر الخندق وتقوية استحكامات السور. لكن السور سرعان ما أهمل وامتلأ الخندق بالأتربة، حتى أن الرحالة البريطاني جيمس بكنغهام زار الموصل سنة 1816 وقال أن السور كان متهدما وان الخندق يفتقد إلى المياه ، ومع ذلك فقد يصلح لان يكون حاجزا لصد الأعداء الذين يحاولون الظهور أمامه ..
وفي سنة 1821 أمر أحمد باشا ألجليلي والي الموصل بترميم السور وإصلاحه وتجديد قلاعه وأبوابه ، وكان للسور آنذاك أبواب عديدة منها باب سنجار وباب البيض وباب الجسر وباب العراق وباب الشط وباب السراي وباب الطوب والباب الجديد وباب لكش. ويقول الأستاذ المؤرخ سعيد الديوه جي رحمه الله في كتابه:" بحث في تراث الموصل" "أن السور الذي أدر كناه ، والذي عٌمر في فترات متباينة لم يكن كله على أساس السور الاتابكي أي السور الذي كان أيام حكم عماد الدين زنكي ونور الدين زنكي صاحب الجامع ألنوري الكبير في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، وإنما آثار السور الذي كان في زمن العقيليين الذين حكموا الموصل في أواخر القرن الخامس الهجري (القرن الحادي عشر الميلادي) والذي كان من باب المشرعة إلى باب سنجار وقد جدد السور الذي بناه عماد الدين زنكي من قلعة الموصل (باش طابية) إلى باب سنجار وكانت لهذا السور أبراج وفي كل برج ثلاث فتحات تتسع الواحدة منها لمدفع، واتخذت به فتحات يرمى منها بالبنادق .. وقد ذكر محمد أمين العمري في كتابه (منهل الأولياء) انه كان في السور عند حصار الموصل اثنا عشر برجا من جهة البر.. وكان ثمة بروج من جهة نهر دجلة لم تزل باقية حتى يومنا هذا.
ويذكر شمس الدين سامي صاحب كتاب " قاموس الأعلام " أن سور الموصل كان يحتوي على (18) برجا، وكان في القسم المطل على النهر وحده (6) بروج.. وقد ذكر نيقولا سيوفي في كتابه (مجموع الكتابات المحررة في أبنية مدينة الموصل) أن بعض أبواب الموصل قد كتبت عليها آيات قرآنية أو أبيات شعر فعلى سبيل المثال كان مكتوبا على باب الشط (بلدة طيبة ورب غفور) وعلى باب السراي أبيات من شعر عثمان بكتاش منها:
شاد هذا السور سلطان العلا صاحب الشوكة في هذا الزمان
ربِ فأجعله أمانا للورى دائما باللطف محروسا مصان
وتحت الأبيات من الجانبين في كل جانب صورة (أسد) وصاحب العلا المقصود في بيت الشعر، السلطان العثماني، عبد الحميد الأول 1776م .
الموصل إذن تمتلك تاريخا ثرا .. ومقاومتها للغزاة الانكليز في الحرب العالمية الأولى1914-1918 وما بعدها لا تزال شاخصة، وحركتها الوطنية ورجالها الأفذاذ، ودفاعها عن الأرض والعرض يضرب به المثل.
لقد كان للموصليين دور مشهود في الثورة العراقية الكبرى سنة 1920 وكذلك في إقامة الدولة العراقية الحديثة وديمومتها .كما لهم دورهم في تأسيس الجيش العراقي 1920 وقد أسهموا في كل الأحداث التي شهدها العراق وشهدتها البلاد العربية ومنها فلسطين والجزائر وسوريا والخليج العربي بعد الحرب العالمية الأولى
وحين قام الفريق الركن بكر صدقي قائد الفرقة الثانية - رئيس اركان الجيش بإنقلابه العسكري على وزارة ياسين الهاشمي المعروفة بتوجهاتها العروبية في 29 تشرين الاول سنة 1936 توجس الضباط القوميين خيفة من ذلك الانقلاب خاصة بعد ان اتضحت سياسة بكر صدقي واعتماده على عناصر وجهات لاتهتم كثيرا بالقضية القومية العربية ..لذلك عملت كتلة الضباط القوميين وابرزهم العقداء الاربعة صلاح الدين الصباغ ومحمد فهمي سعيد وكامل شبيب ومحمود سلمان على التخطيط لاغتياله في الموصل وهو في طريقه الى تركيا لحضور مناورات الجيش التركي في 18 اب سنة 1937 .
أرسلت حكومة حكمت سليمان نائب الاحكام في وزارة الدفاع الى الموصل للتحقيق في حادث مقتل بكر صدقي ولذلك احتج الضباط امراء الوحدات وامر المدفعية في موقع الموصل ومنعوا اعتقال الضباط المتهمين بقتل بكر صدقي و" قالوا لامر الحامية اللواء محمد امين العمري ان الضباط متحمسين وان الالوية لاتوافق على ارسال اخوان لهم ليقتلوا " .
لذلك اصدر اللواء محمد امين العمري في 14 اب سنة 1937 بيانا الى الشعب العراقي أشار فيه الى حادثة مقتل بكر صدقي ومعه المقدم محمد علي جواد امر القوة الجوية قائلا :" ان التحقيقات كانت تجري في نطاق يحصر الامر في الفاعلين ومحرضيهم غير ان الوزارة القائمة في بغداد وذوي النارب شددت بلزوم القاء القبض على كثير من الضباط الذين لادخل لهم في الامر بتاتا ورغم المصالح التي ابديناها للوزارة لعدم جعل واقعة القتل المذكور وسيلة للانتقام من الابرياء لكن وزارة حكمت سليمان أصرت على ذلك وطلبت ارسال الموقوفين والضباط الاخرين الابرياء الى بغداد الامر الذي ادى الى اعتصام وحدات الجيش لصيانة حياة امرية الضباط الابرياء وقطعنا علاقتنا مع بغداد ..ان المطلوب من جميع الاهلين المحافظة على السكون التام وعدم القيام بأي عمل من شأنه تعكير صفو الامن "
وبعد أن وثق اللواء محمد امين العمري من ان بيانه الاول قوبل بالارتياح التام في الاوساط الشعبية والوطنية في الموصل أصدر بيانا ثانيا في 15 اب سنة 1937 بتوقيع امر منطقة الموصل جاء فيه :" بيان الى الشعب العراقي ..ايها الشعب النبيل ..بإسم الله وبإسم روح فيصل العظيم وحي الاستقلال وبإسم ارواح الشهداء البررة الذين شادوا هذا الكيان العظيم ليقوا الله عهدا صادقا وبإسم كرامة الوطن المقدس وسلامة اهله الانجاب تعلن حكومة الموصل متضامنة بجيشها وادارتها خروجها على حكم الوزارة الحاضرة وزارة السيد حكمت سليمان وهي الى ذلك مضطرة غير بالغية ولاعادية ..لقد شهدت ايها الشعب النجيب كيف غالت هذه الوزارة الحكم من ارادة الشعب غولا وانك لتذكر ذلك الدم البريءالذي سفك ظلما في الشهيد ضياء يونس (سكرتير مجلس الوزرء في وزارة ياسين الهاشمي )والجريمة المماثلة التي اريدت بمولود مخلص فنجا منها بمعجزة وتكاد تأتي على البقية الباقية من مخلفات فيصل العظيم وصحبه الامجاد في ارض الوطن .
واليوم وبعد ان وقعت حادثة اغتيال الفريق بكر صدقي والمقدم محمد علي جواد تحاول يد الوزارة ان تمتد الى الجيش فتقبض على اكثرية الضباط وتزجهم في غياهب السجون وتطوح بهم وبسلاح الوطن من بعدهم في مهاوي الهلاك .ان حكومة اللواء قبضت على المظنونين بالتهمة وقدمتهم الى التحقيق اداء لحق النظام ونصحت للوزارة بهذه الكفاية العادلة لكن الوزارة ومن ورائها بعض ذوي المآرب أبوا الا نكبة الجيش بالاكثرية منضباطه فكررت حكومة اللواء النصيحة فلما أصرت الوزارة على الطلب الجائر هناك دقت ساعة العدل واعلنت حكومة اللواء انتفاضها على هذه الوزارة وهي تلقي اليكم بهذا البيان في جو هادئ مشبع بروح التضامن الحكومي والشعبي للاطمئنان وتنوير الاذهان ثم تدعو الموظفين والامة ان تؤازرها بمقاطعة التعاون مع الوزارة والتضامن مع حكومة لواء الموصل والخلود الى النظام والسكينة .وتود "حكومة لواء الموصل " أن يكون ملحوظا عند العموم انها ستعدم كل من يحاول الخروج عن طاعتها ويخل بالامن العام "
وعلى أثر نشر البيان ،أقام العمري المتاريس في شوارع الموصل ، وشيد الابراج العسكرية ، وربط الدوائر الحكومية به مباشرة ، ووضع اجهزة البرق والهاتف تحت الرقابة العسكرية ، ونصب المدافع فوق المرتفعات استعدادا للطوارئ .
وعلى اثر اعلان آمرية الموصل قطع علاقتها ببغداد شاع ان الوزارة قررت الاستعانة بالافواج المرابطة في بغداد للزحف على الموصل وإخماد الحركة .. لكن قائد حامية الموصل اتصل بقيادة الجيش في السليمانية وكركوك والحلة والديوانية باسطا لهم الحالة العامة وما تتطلبه وحدة الجيش من التضامن والتآزر وطالبا اليهم إقرار الخطة التي رسمتها حامية الموصل فأعلن آمر حامية معسكر الوشاش العقيد سعيد التكريتي تأييد قطعاته لموقف الجيش في الموصل ورفض طلب رئيس الوزراء بالحضور الى داره للتفاهم .
إجتمع الضباط القوميين في معسكر الوشاش وكان المقدم الركن صلاح الدين الصباغ حاضرا الاجتماع وتذاكروا في الاشاعات التي كانت تتردد على الالسنة ومفادها :" ان الحكومة تنوي ارسال قوة من العاصمة لتأديب قوات الموصل العاصية " .وبعد الاخذ والرد وضعوا عدة مطالب قدمت الى الحكومة هي :
1. تأكيد وحدة الجيش.
2.تأييد مطاليب قوات الموصل .
3.ابعاد بعض الضباط من اتباع الفريق بكر صدقي عن مناصبهم واحلالهم في مناصب ثانوية .
أدرك رئيس الوزراء حكمت سليمان حراجة الموقف ، فراح يبحث عن وسيلة لانقاذه فأتصل باللواء محمد أمين العمري قائد الحركة في الموصل يعرض عليه حلا يقوم على اساس تكليف جميل المدفعي بوزارة الدفاع ووعده بتشكيل مجلس عسكري محايد يقوم بالتحقيق مع الضباط المتهمين ، فكان رد العمري هو ضرورة إستقالة الحكومة وتشكيل حكومة محايدة برئاسة جميل المدفعي .
عندئذ قدم حكمت سليمان في 17 اب سنة 1937 استقالة حكومته الى الملك غازي الذي كلف جميل المدفعي في اليوم ذاته بتأليف الوزارة وهكذا انتهت الازمة بعد أن اتبع المدفعي "سياسة إسدال الستار على الماضي " وهي التي عرف بها انذاك.
أصدر آمر حامية الموصل اللواء الركن محمد أمين العمري في 17 اب 1937 بيانا أعلن فيه انتهاء الحركة، وعودة الامور الى مجراها الطبيعي ، واعادة العلاقات مع العاصمة بغداد ورفع الانذار عن وحدات الجيش وهكذا اثبتت الموصل قدرتها في ان يكون لها دور في صنع القرار ببغداد وحماية العروبة في العراق .
كان للموصل كذلك دور إبان مقتل الملك غازي ليلة 3-4 نيسان سنة 1939 في حادث اصطدام سيارته خاصة بعد ان سرت شائعات بأن الانكليز وراء مقتله بسبب سياساته القومية وقد انفعت جماهير الموصل نحو القنصلية البريطانية في الموصل وهجمت على القنصل مونك ميسن فقتلته انتقاما لمقتل الملك غازي الذي عرف بمواقفه الوطنية والقومية .
لقد كان للموصل كذلك دور في ثورة مايس سنة 1941 حتى انها أختيرت لان تكون قاعدة للثورة في حالة احتلال بغداد من قبل القوات البريطانية والبدء بتنظيم حركة مقاومة وقبل انتهاء الثورة ومنذ سقوط الفلوجة في 19 ايار 1941 قام رشيد عالي الكيلاني رئيس الوزراء إبان الثورة في 28 ايار بتشكيل ما سمي ب"لجنة الامن الداخلي " من أربعة اشخاص برئاسة أمين العاصمة أرشد العمري بهدف التهيؤ للطوارئ في حالة انتقال الحكومة من بغداد الى الموصل لكن هذه اللجنة اتفقت بعد ان فشلت الثورة عسكريا على عودة الوصي الهارب عبد الاله الى العاصمة بغداد في أول حزيران 1941 وبذلك حددت عودة الوصي نهاية الثورة " .
لقد كان للموصل خلال العهد الملكي دور مشرف في كل الاحداث والانتفاضات التي شهدها العراق ومنها وثبة كانون الثاني 1948 وتلاحمت الموصل مع النجف وكربلاء وزارت وفود موصلية بغداد والنجف الاشرف وكربلاء للتعزية بأستشهاد العديد من الشباب كما كان لها موقف نبيل من مصر الشقيقة إبان تعرضها للعدوان الثلاثي البريطاني-الفرنسي-الاسرائيلي سنة 1956 اثر قيام الرئيس جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس .وشاركت الموصل في ثورة 14 تموز 1958 وإندلعت فيها صبيحة الثورة تظاهرات عارمة واختير عدد من رجالها في الادارة الجديدة بعد الثورة فقد اختير الدكتور عبد الجبار الجومرد ليكون وزيرا للخارجية ومحمد حديد ليكون وزيرا للمالية ومحمد صديق شنشل ليكون وزيرا للارشاد وغربي الحاج أحمد ليكون مديرا عاما للاذاعة والتلفزيون هذا فضلا عن عدد كبير من ضباطها الذي كانوا اعضاءا في تنظيم الضباط الاحرار وشاركوا في التخطيط للثورة وتنفيذها .
ويقينا ان جماهير الموصل كغيرها من المدن العراقية استقبلت ثورة 14 تموز 1958 بفرحة غامرة وتنفست الصعداء بعد ليل طويل عانت فيه الكثير من الظلم والاضطهاد في العهد الملكي الهاشمي وبذلك بدأت مرحلة جديدة من النضال العلني وشهدت محلات الموصل ومقاهيها نشاطا سياسيا واضحا لكن الصراعات السياسية بين قادة الثورة ومن تبعهم من القوى السياسية القومية والشيوعية انعكست على الموصل واستُخدم الطلبة والمعلمون والعمال كأدوات في الصراع وابتدأ التدخل في شؤون المناهج الدراسية والتدريس وبث الدعايات ومحاولة توجيه السلطة ضد التوجهات القومية واستخدام عناصر فوضوية للاعتداء على القوميين ومقاهيهم ومكتباتهم التي انتشرت في الموصل ومنها مثلا مكتبة الثورة ومكتبة الطليعة ومكتبة الوحدة العربية وكان للشيوعيين ايضا مقاه ومكتبات منها مكتبة 14 تموز ومقهى المهداوي .وكما هو معروف فأن التوجه السياسي العام في الموصل كان عربيا قوميا إسلاميا ، وان لاهل الموصل صلات مع السوريين وخاصة ايام الوحدة مع مصر والدعوات لوحدة العراق مع الجمهورية العربية المتحدة ولم يكن هذا ليرضي الطرف الاخر حتى ان جريدة " اتحاد الشعب " في عددها الصادر في 28 شباط 1959 كتبت مقالا هاجمت فيه القوى القومية في الموصل وعدتها قوى رجعية وطعنت في جميع المسؤولين المدنيين والعسكريين في الموصل وقالت بأنهم غرباء عن الثورة ومفاهيمها وقالت بالنص :" اننا على ثقة بأن شعبنا يسير قدما نحو حياته الافضل ،ساحقا تحت قدميه جميع رؤوس الخيانة والتآمر " .
وفي الخامس من اذار 1959 طلعت الجريدة ذاتها بخبر مفاده إن قطار السلام سيتوجه الى الموصل كمحاولة "لكسر شوكة القوى القومية " على حد تعبيرها ..ومما ساعد على ذلك ان حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم 1958-1963 القائد العام للقوات المسلحة ورئيس الوزراء دعمت هذا التوجه ويسًرت السبل وقدمت التسهيلات لاقامة ما أسمته مهرجان أنصار السلام في الموصل حتى انها خصصت عدة قاطرات مجانية لنقل المدعوين من مختلف المدن العراقية الى الموصل لاقامة المهرجان وذلك في موعده المقرر وهو يوم الجمعة المصادف السادس من اذار سنة 1959 .
التقى العقيد الركن عبد الوهاب الشواف آمر جحفل اللواء الخامس في الموصل بالزعيم عبد الكريم قاسم وأشعره بخطورة الموقف طالبا منه الغاء المهرجان أو تأجيل انعقاده على الاقل ضمانا لامن المدينة وتجنبا للصدامات ..لكن الزعيم قلل من خطورة الموقف وأصر على عقد المهرجان الذي كان مكرسا لدعمه ..
وصل قطار السلام مدينة الموصل وبدأت الوفود تطوف الشوارع والاحياء الرئيسية في المدينة على شكل مسيرات ومجموعات تغني وتهتف وترقص بشعارات استفزازية لمشاعر الموصليين الذين اغلقوا محلاتهم ودكاكينهم وفنادقهم ومطاعمهم في وجه من جاء الموصل وفي الوقت نفسه أظهرت القوى القومية والاسلامية في الموصل قدرا كبيرا من الانضباط لكن السيل سرعان ما بلغ الزبى في يوم 7 اذار 1959 حين اندفع الشيوعيين يهاجمون ويحرقون مقاهي ومكتبات واماكن سن القوميين فتصاعد الدخان في المدينة مع تصاعد هتافات الشيوعيين المعادية للقومية والوحدة العربية .ومن المناسب ان نشير الى ان هذه الاحداث كانت موضوعا لقصص وروايات كثيرة نذكر منها اثنتين من الروايات على الاقل الاولى للدكتور عماد الدين خليل بعنوان : "الاعصار والمأذنة " والثاني للسيدة ابتسام عبد الله بعنوان :" فجر نهار وحشي " .
في هذه الاثناء - وبعد ان وصلت الامور حدا لايطاق - أعلن الجيش منع التجول واجتمع العقيد الركن عبد الوهاب الشواف بضباط مقر اللواء مساء 7 اذار وتدارسوا الوضع من كافة نواحيه وما كان لهم ان يرضوا بإهانة الجيش والعبث بأمن المدينة بهذه الصورة ..وهكذا تم الاتفاق على اعلان الثورة ضد الزعيم وحكومته ببغداد وفي صباح الثامن من اذار 1959 اعلنت الحركة المسلحة في الموصل وأذيع البيان الاول الذي دعا قاسم الى التنحي عن الحكم فورا والى ان يمارس مجلس السيادة سلطاته وتلك هي الحالة الثانية التي اعلنت فيها الموصل انفصالها عن الحكم المركزي ببغداد بعد حالة سنة 1937 .
اندفع الزعيم عبد الكريم قاسم بإتجاه قمع الحركة وارسل الطائرات لقصف مقر آمرية موقع الموصل وجرح الشواف ثم قتل اثناء ذهابه بمفرده الى المستشفى العسكري للتداوي على يد أحد العرفاء ولما استشهد الشواف وانتشر الخبر انهارت الحركة وتشتت القائمون بها وكان نتيجة ذلك .. ولعدم حصول أي تحرك من قبل الضباط القوميين في بغداد كما كان متفقا بسبب فقدان ظروف المبادرة اختل التوازن وحدث التراجع غير المنظم لدى المساهمين بالحركة فإستغل الشيوعيين الموقف وبدأت صفحة دموية في تاريخ الموصل الحديث حيث تولت " اللجنة المحلية للحزب الشيوعي في الموصل" كافة مسؤوليات السلطات الحكومية فأعتقلت المواطنين المناؤين لها وكانت تعرفهم واحدا واحدا وهاجمت دورهم وقتلتهم وسحلت بعضهم وعلقت البعض الاخر على الاشجار وأعمدة الكهرباء وقد ذهب ضحية هذه الاحداث قرابة ثلاثين شهيدا عدا الذين جرى اعدامهم من قبل الشيوعيين في الدملماجة وعددهم (17 ) مواطنا بعد ان قررت محكمة خاصة برئاسة عبد الرحمن القصاب إعدامهم .
وفي الوقت نفسه ، قُدم الى المحكمة العسكرية العليا الخاصة برئاسة العقيد فاضل عباس المهداوي عدد كبير من الضباط على رأسهم الزعيم الركن ناظم الطبقجلي والعقيد رفعت الحاج سري وتم الحكم عليهم بالاعدام ونفذ الحكم في ساحة أم الطبول التي خلدها الشاعر المرحوم عدنان الراوي بقصيدته الشهيرة وفيها :
أم الطبول غدا نقيم عليك ركن المسجد
وقد تفاقمت الاوضاع في الموصل بعد فشل ثورة الشواف وامتلآت السجون بالمعتقلين من ابناءها وشرد من شرد وسُخرت وسائل الاعلام للانتقاص من القوميين وكعادة الموصل في كل تاريخها فقد بهرت بصمودها العالم كله وخرجت من المحنة وهي أكثر تمسكا بخياراتها وتمسكها بخطها القومي الاسلامي على الرغم من فداحة خسائرها بالارواح والاموال .
لم يقبل الموصليون المذلة، ولم يخفضوا رؤوسهم إلا لله عز وجل.. وهم معروفون بأنهم فرديون لكنهم متحضرون .. وعلى وعي كبير بما يحيط بهم من أحداث .. لا يصبرون على ضيم.. ولكنهم نظاميون يؤمنون بقيمة النظام ، ولا يعطون ولائهم بسرعة ،ولا يميلون للفوضى، ويعتزون بمدينتهم وبالعراق وبتاريخهم ،وتراثهم، وبرجالاتهم الذين ضحوا بأنفسهم وأموالهم من اجل رفعة الوطن والدين والأمة.. وقد امتزجت عقيدتهم الإسلامية بوعيهم القوى بعروبتهم.. ومن هنا فان شخصية الموصل شخصية ذات ثلاث أبعاد ؛ (بعد وطني) و(بعد عربي) و(بعد إسلامي).. وليس من السهولة لأحد أن يغير في تراتبية هذه الأبعاد.. وهم عراقيون .. اعتزوا بعراقيتهم وظهر ذلك في أكثر من مناسبة.. وقد شهدت ساحتهم السياسية والاجتماعية هذه الحقيقة واضحة في كل المناسبات والأحداث.
رحم الله الملك فيصل الاول مؤسس الدولة العراقية الحديثة عندما قال إبان مطالبة تركيا بالموصل في اعقاب انتهاء الحرب العالمية الاولى بأن الموصل رأس العراق، لذلك فإن الحفاظ على هوية الموصل وشخصيتها الحضارية والعناية بها وبتطويرها ، وإدراك قيمتها الإستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية مسالة ينبغي أن تكون في مقدمة الأولويات التي تؤخذ بالاعتبار، ونسيج الموصل- نينوى، الاجتماعي المتسم بالتنوع دليل قوة ،ودليل خير، ودليل عافية .ونحن على يقين أن الجميع يعلمون هذه الحقيقة بل ويتصرفون بموجبها ..
وهاهي الموصل ومنذ 17-10-2016 تتحرر من الاسر وتعود الى حضن العراق قوية معافاة لتؤكد انها فعلا رأس العراق وجمجمته .. حفظ الله العراق وأعان أهله، وحفظ الموصل الحدباء أم الربيعين .. أم العلا المحروسة بأذن الله .
1507 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع