محي الدين محمد يونس
احدث الدراسات التي اجريت على ظاهرة انتشار التدخين تقول بأنه مع بداية هذا القرن سوف يستهلك التدخين حياة 250 مليون فرد من الأطفال والمراهقين وسيكون 90 مليوناً منهم من البلدان النامية.
وعند التساؤل عن الأسباب التي تدفع الشباب الى التدخين تكون اجابات المدخنين وغير المدخنين بأن التدخين يعين الإنسان عند الضيق , ويزيل عنه القلق , ويزيد نشاطاته ويجعله أكثر انتباهاً عند القراءة واستذكار الدروس والتركيز في الامتحان والقضاء على الفراغ , والمنقذ الوحيد للهروب من المشكلات العائلية , لأن السيجارة تهدئ الاعصاب ,فإذا كان تأثير التدخين على صحة الانسان وعلى حياته بهذا القدر الكبير من الخطورة بحيث يهدده في أثمن رأسمال لديه ألا وهو صحته من عبث آفة خطيرة وغادرة مثل آفة التدخين , بالإضافة الى الاضرار في الجوانب الأخرى , فما هي الحكمة من الانتشار المتعاظم للتدخين في كل بقاع العالم وفيما اذا كانت الاسباب الواهية المذكورة تبرر ذلك ؟
هذا البحث يلقي الضوء وبشكل مبسط على العلاقة ما بين التدخين وصحة الانسان في جوانبها المتعددة , وكذلك الاخطار الناجمة من الناحية الاجتماعية وموقف الشريعة الاسلامية من هذه الظاهرة , ليكون الانسان عارفاً حق المعرفة بجوانب مسألة التدخين من أجل أن يساعد في حسم ما يدور في داخل المدخنين من صراع يتمثل الرغبة في الاقلاع عن التدخين من جهة , وعدم التمكن من ذلك من جهة أخرى لأسباب عدة يكمن في اساسها وجود نقص فاضح عند أغلب المدخنين في معرفتهم للأبعاد الخطيرة لتعاطيهم هذه العادة , كما وأرجو أن يساعد في وقاية من لم يبتل بهذه الآفة بعد.
أولا- تاريخ التدخين:
تعود عادة التدخين الى عهد غابر سحيق في القدم حسبما ما تنص عليه المصادر الصينية , وكذلك حسب قول المؤرخ اليوناني القديم (هيرودت) فإن المدخنين الغابرين كانوا يحرقون أعشاباً معينة ومن ثم يستنشقون دخانها ليس هذا فقط بل حتى أنهم توصلوا في ذلك الحين إلى استعمال المشارب المختلفة لهذا الغرض تلك المشارب التي لا تزال اشكالها الأثرية باقية الى يومنا هذا على واجهات التحف الصينية القديمة .
أما في أوروبا فقد عرف سكان هذه القارة عادة التدخين في نهاية القرن الخامس عشر عن طريق البحارة المكتشف ( كريستوفر كولومبس) وقد حدث هذا عام 1492 م عندما وصل هذا البحار في الثاني عشر من تشرين الأول من العام المذكور إلى أمريكا وخلال وجود المكتشف المذكور وبحارته هناك لفت انظارهم أن سكان هذه الجزر كانوا يستنشقون بشغف دخان أوراق مشتعلة ملفوفة على شكل قصبة وكانت هذه الأوراق السحرية تعود لنبات يطلق عليه السكان المحليون اسم ( بتيون) ثم تغير هذا الاسم فيما بعد في تركيا حيث أصبح (تيوتيون) أو عندنا في العراق ( تتنٍ) وفي كوردستان (توتن ) , ومع أن الراهب الديني الذي صحب سفن كولومبس كان قد منع كلياً البحارة من استنشاق الدخان المنبعث من أوراق ( البتيون ) إلا أن بعضاً منهم استطاع أن يخفي كمية منها ولو بحذر حاملين اياها معهم إلى إسبانيا حيث أخذوا يدخنونها أمام الأعين المندهشة لأقاربهم وأصدقائهم.
كل هذا يدل بوضوح على أن وطن التبغ الأصلي أمريكا , حيث لم يكن يزرع هناك فقط بل كان ينمو أيضاً كنبات طبيعي , وكان التدخين وسط قبائل الهنود الحمر مرتبطاً بشعائر دينية مختلفة حتى أن بعض القبائل كانت تعتقد بأن نبات التبغ هو نبات مقدس , وبعد ذلك انتشر تدخين التبغ في القارة الأوروبية كلها بشكل واسع وسريع وأصبح ظاهرة عامة شملت قطاعات واسعة من الناس إلى درجة حدت بالعالم الطبيعي السويدي ( شارل لينتس ) حيث طلب منه تعريف الانسان أجاب مازحاً ( الإنسان هو ذلك الحيوان الاجتماعي الذي يمتلك رجلين وليست له اجنحة و ... يتعاطى التدخين).
وحين انتشرت عادة التدخين بشكل كبير في انحاء مختلفة من العالم تغيرت النظرة الى هذا النبات , ففي البداية كان يسمى بالنبات المقدس فتحول الى النبات الشيطاني وأخذت الدول والكنيسة تحرم التدخين وتضع العقوبات المختلفة على المدخنين تصل في بعض الأحيان إلى عقوبة الاعدام اضافة الى فرض غرامات على المدخنين .
ورغم ذلك فلم يكن بمستطاع العقوبات ولا القوانين شديدة الاجراءات من أن توقف الهجوم الكاسح لوباء التدخين في ربوع العالم بل إن ما حدث هو العكس تماماً إذ أنه أخذ يتفشى في مجالات أعم وبسرعة مدهشة وقد انتشر التدخين إلى دول الشرق الأوسط عن طريق تركيا بعد أن كان ادخل اليها بواسطة التجار الانجليز , ولا يوجد تاريخ محدد لانتشار التدخين في كوردستان إلا أن الكورد اشتهروا بكونهم احسن ( اساتذة ) التدخين في المنطقة , فبالإضافة إلى تفننهم في تدخينه برعوا في زراعة انواع كثيرة منه.
ثانياً- البداية والإدمان:
البدايات مع التدخين تدشن عندما يمد المراهق يده إلى جيب سترة والده ليخرج منها بعض سكاير ويمسك احداها بين اصابعه المرتعشة ويضعها بين شفتيه رغم أنه يضيق ذرعاً بدخانها المحترق , البداية هنا تكون عند المبتدئ على أساس التقليد والمحاكاة معتقداً بأن التدخين من سمات حريته في التفكير وعمق ثقافته والإعلان للأخرين بأنه أصبح رجلاً وله الحق في استقلاليته كما أنه لا يتراجع عن التدخين بسبب اعتقاده بأنه سيفقد ما حققه من انتصار أمام الأخرين.
وبمرور الوقت فإن السم النيكوتيني يكون قد وطد علاقته بجسم الإنسان وانتشر فيه وأصبح مقرباً إلى نفسه أشد القرب , وحين ذاك فإنه اذا ما عزم على ترك التدخين سيجد نفسه حيال مشكلة حلها ليس بالأمر اليسير أبداً.
وتمثل ظاهرة التدخين عند قسم أخر غير قليل من المدخنين مسألة طقوس ومظاهر وحركات يقصد بها جلب انتباه الآخرين , فتراهم مثلاً يتفننون في طريقة اشعالهم لعود الثقاب وللسيجارة ونفضهم لرمادها وفي مسكها لها بين اصابعهم وشفاههم أو في كيفية استنشاقهم للدخان ولفظهم له الى غير ذلك من الحركات.
وتعتبر عملية التدخين من الناحية الفسلجية عملية احساس وتذوق فالسيجارة المشتعلة أو المشروب المشتعل تولد لدى المدخن المدمن احساس لذيذاً للتدخين , وخاصة بعد تناول وجبات الطعام , وعقب الاستيقاظ من النوم أو أثناء العمل اليومي الشاق أو عند التهيج والانفعال النفسي ... إلخ
والتدخين في جوهره ليس إلا إدمان لا يختلف بأية حال من الأحوال عن الإدمان على تعاطي المخدرات أو الكحول , لذا فلا يمكن اعتباره مطلقاً حاجة من حاجات جسم الإنسان الفسلجية بل عادة مرضية.
ثالثاً- أضرار التدخين:
1- الاضرار الصحية للتدخين:
لقد انتبه العلماء الى احتمال وجود اضرار من التدخين ففي سنة 1950 نشرت المجلة الطبية البريطانية اربعة بحوث عن علاقة التدخين بسرطان الرئة , ففي كل بحث تبين علمياً بأن نسبة الاصابة بسرطان الرئة عالية عند المدخنين , ولدراسة الموضوع دراسة جدية قامت الجهات المعنية ببحوث مستقبلية مستفيضة عن الرجال من فئات أعمار مختلفة للمدخنين وغير المدخنين , وبين الحين والأخر يعاد فحصهم لمعرفة الذين توفوا في السنتين التي تلت البحث وبيان سبب الوفاة وبعد أربع سنوات من هذه الدراسات ظهر التقرير الأول مثبتاً المعلومات السابقة وكاشفاً عن :
1)علاقة التدخين مع الوقاة علاقة ثابتة للذين يموتون بسرطان الرئة وسرطان البلعوم وسرطان الفم وسرطان المثانة وسرطان البنكرياس وأمراض أخرى غير خبيثة مثل التهاب القصبات المزمن و
أمراض القلب والأوعية الدموية وقرحة المعدة.
وترك التدخين له فائدة كبيرة فالوفيات أقل بين المدخنين الذين تركوا التدخين وبين الذين استمروا عليه وأن النسبة هذه تقارب المستوى الموجود في غير المدخنين كلما ازدادت مدة ترم التدخين.
2)علاقة التدخين بأمراض الجهاز التنفسي فقد دلت الكثير من الدراسات على أن احتمال اصابة المدخنين المعتدلين بأمراض الجهاز التنفسي يقدر بحوالي اثني عشر ضعفاً عن احتمال اصابة غير المدخنين , وتتضاعف هذه النسبة عند مفرطي التدخين , ومن أخطر تلك الأمراض سرطان الرئة , وسرطان الحنجرة والفم والمريء , بالإضافة الى الربو الشعبي والنزلات الشعبية , وانتفاخ الرئة.
3)التدخين السلبي لا يقل خطورة عن التدخين العادي فاستنشاق دخان سجائر الآخرين له مضرة كبيرة , فبالإضافة إلى عدم تقبل غير المدخن لهذه الظاهرة وانزعاجه من دخان سيجارة المدخن فإنه يكون عرضة للإصابة بنفس الاضرار الصحية وخاصة اذا كان غير المدخن يلازم المدخنين بشكل مستمر ولمدة طويلة.
2- الاضرار النفسية:
يكون الحدث المدخن في حالة غير طبيعية متوتر الاعصاب , حاد المزاج , مضطرب السلوك , شاذ التصرف , يشعر بالكآبة او يعاني من الخوف والقلق والخجل والإحباط والشعور بالذنب وغيرها من حالات المعاناة النفسية.
3- الاضرار الاقتصادية:
اتفق جميع الباحثين على الآثار الاقتصادية السلبية التي يسببها التدخين وما يحدثه من خسائر مادية وبشرية , فعلى المستوى العالمي يتوقع بأن الخسائر المادية قد تصل الى 200 مليار دولار سنوياً تتحمل الدول النامية نصف هذه الخسائر , وفيما يخص الفرد والمجتمع فيرى الباحثون أن التدخين يؤثر في انتاجية الفرد بسبب الأمراض الخطيرة التي يتعرض لها بسببه ويؤثر في معدل انتاجية العمل وزيادة في نسبة الغيابات والعوق .
كما أن شراء علب السجاير تحتاج إلى قدرة شرائية قد لا يتمكن عليها ذوو الدخل المحدود مما يشكل عبئاً كبيراً على كاهل العائلة من ناحية المصروفات , وقد يلجأ الحدث للحصول على ما يبتغيه إلى وسائل وطرق ملتوية كثيرة غير مقبولة اجتماعياً تؤدي به إلى الانزلاق إلى طريق منحرف فيشذ ويسوء سلوكه العام.
4- الاضرار الاجتماعية:
ان انحراف الحدث عن الطريق السوي سيشكل خطراً مزدوجاً على نفسه وعلى المجتمع لأنه سينقل العدوى إلى اقرانه بمجرد تقليد الآخرين . وبذلك يزرع في جسم المجتمع عادات اجتماعية خطيرة تنمو وتتكاثر بسرعة لتنخر بسمومها القاتلة اجساد الشباب فتجعلهم عرضة للأمراض والعلل الصحية والنفسية.
رابعاً- موقف الشريعة الاسلامية من ظاهرة التدخين:
ان بلوى انتشار ظاهرة التدخين بين الناس وخاصة فئة الشباب قد ادى الى اهتمام جميع فقهاء المسلمين بتوضيح الحكم الشرعي للتدخين وتأكيد تحريمه , وقد صدرت أخر فتوى عن المجمع الفقهي الاسلامي العالمي بأن التدخين حرام وبالتالي بيعه حرام والمعاونة عليه حرام. وذلك استناداً الى قاعدة (( لا ضرر ولا ضرار ))
فإذا كان المرء يتوب بفضل الله عن ايذاء غيره من الناس أفلا يتوب عما هو أكبر من الايذاء ألا وهو محاربة الناس في صحتهم وإجبارهم على استنشاق الدخان السام القاتل.
وتطبيقاً لقوله تعالى (( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة))(البقرة آية 195) , وقوله تعالى (( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً )) ( سورة النساء آية 29) , فقد وجب الابتعاد عن التدخين حيث ثبت علمياً أنه سبب لأمراض كثيرة تفتك بالإنسان وتودي بحياته.
والتدخين من الخبائث منعنا الله عنه حسب قوله تعالى (( يا أيها الذين أمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون)) (سورة البقرة آية 172) , ومما لا شك فيه أن تدخين السجائر ليس من الطيبات والتدخين اسراف وتبذير نهى عنه المسلم من قوله تعالى (( وآتِ ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا اخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً )) ( سورة الاسراء آية 26 ).
خامساً – الخلاصة والإجراءات الوقائية:
ان مجرد القيام بحملة دعائية مباشرة ضد التدخين قد لا يجد نفعاً بسبب وجود أناس معارضين . إن أهم واجباتنا استهداف الاحداث والشباب وإقناعهم بأضرار التدخين عن طريق الصحافة وعبر القنوات الاعلامية ووضع البوسترات في أماكن مناسبة:
1- التوعية والتبصير بالآثار المضرة للتدخين والنتائج التي تترتب عليه بدءاً من رياض الأطفال وصعوداً الى المعاهد والكليات , واستخدام الصحافة والتلفزيون والراديو والبوسترات لهذا العرض.
2- الزام المعلمين والمدرسين بالامتناع عن التدخين في حرم المدرسة , لأنهم بمثابة القدوة للطلبة وحثهم على ترك التدخين نهائياً وهم بذلك سيساهمون حتماً بالإقلال من نسبة المدخنين من الطلبة الأحداث.
3- منع الأحداث من بيع السجائر والمتاجرة بها في الشوارع العامة لأن احتمال تعودهم على تعاطي التدخين يكون كبيراً وربما مؤكداً وإلزام أولياء أمورهم بالتقيد بهذا التوجيه وتحميل العائلة مسؤولية رعاية وتوجيه ومراقبة وإرشاد اطفالهم من الناحية السلوكية والأخلاقية ومحاسبتهم عند انحرافهم , والتعاون بين أولياء أمور الطلبة وإدارات المدارس والإحاطة بخطورة الممارسات السلبية كافة وبضمنها عادة التدخين من أجل تحصين الحدث ضد هذا النمط السلوكي الشاذ.
4- نشر الوعي الصحي بين جميع المواطنين وتحذيرهم من العواقب الجسيمة والمضار الوخيمة التي تنجم عن ظاهرة التدخين وخاصة لدى الأحداث الذين هم رجال المستقبل وتعويدهم على ممارسة الأعمال والأنشطة المفيدة والنافعة وغرس القيم النبيلة والعادات الحميدة وبناء شخصيتهم النموذجية.
5- ضرورة قيام الجهات المعنية بما يقع عليها من التزامات في هذا الشأن من أجل الحد من هذه الظاهرة وخاصة بين الأحداث من خلال وسائل الإعلام العديدة والكثيرة, بالإضافة الى دور العبادة ورجال الدين في توجيه النصح والإرشاد للشباب ومنعهم من التدخين.
6- تعاون السلطة التشريعية والتنفيذية في مجال مكافحة التدخين من خلال سن التشريعات التي تمنع التدخين في المحلات العامة ودوائر الدولة وداخل وسائد النقل , كما ونجد من الضروري احياء الاقتراح القاضي بضرورة تحديد يوم أو اسبوعين من كل سنة يخصص لغرض القيام بالأنشطة المختلفة في مجال مكافحة التدخين والحد من خطورته على المواطنين والأحداث بشكل خاص وبالتعاون مع المؤسسات الرسمية والشعبية.
وأخيراً ندعو جميع المدخنين الذين قرؤوا هذا الموضوع واطلعوا على حجم وخطورة الأمراض التي يسببها التدخين , فالإقلاع عن عادة التدخين طالما أنها عادة مكتسبة إذ بالإمكان التغلب عليها حيث أنها لا تتطلب سوى الإيمان والتصميم وإرادة صلبة ونظرة متفائلة للحياة.
941 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع