من حكايات جدتي ... السادسة والثلاثين

                                                   

                             بدري نوئيل يوسف

           


   من حكايات جدتي ... السادسة والثلاثين
فراسة فتاة

كانت جدتي تحتفظ بماعون من الخزف عليه صورة للملك فيصل الاول، وشاء القدر أن ينكسر الماعون الى نصفين . يبدو على جدتي الضجر والقهر فهي تعتز بهذا الماعون، ولكنها كانت تترقب خياط الفرفوري أو فخفوري قدومه الى المحلة وهو ينادي (خياط فرفوري). بالإضافة الى الماعون فقد احتفظت جدتي ببعض المواعين والكاسات الخزفية المكسورة ، يتم تصلحيها فهي من مظاهر الاعتزاز بالشيء والاقتصاد بالنفقات البيتيه.
خياط فرفوري: مهنة قديمة عفى عنها الزمن فاندثرت منذ زمن بعيد، حيث كان يتم اصلاح قطع الخزف الصيني عندما تكسر. يقوم خياط الفرفوري بمثقب خاص لديه بعمل ثقوب في قطع الخزف المكسورة ويربطها بسلك معدني ويلحمها بمادة النورة المخلوطة بصفار البيض ويتركها إلى أن تجف  القطعة وتكون صالحة للاستخدام مرة أخرى.
في هذا اليوم جاء الى زقاقنا خياط الفرفوري وهو ينادي وخرجت جدتي تنادي عليه وبعد ان اتفقا على سعر التصليح جلس فوق عتبة باب الدار ليصلح القطع الخزفية ويعيدها صالحة للاستعمال لقاء اجر ضئيل .
نعود لحكايتنا الاسبوعية حدثتني جدتي: يُحكى أن شيخاً طاعناً في السنّ راودته فكرة الزواج بعد وفاة زوجته، فطلب من أبنائه أن يبحثوا له عن فتاة علَّهم يجدوا مَنْ توافق على الزواج منه، واستغرب الأبناء لهذا الطلب الذي جاء في غير أوانه، خاصة وأن أباهم رجل شيخ وفي مثل هذه العمر المتقدمة، غير أن إصرار أبيهم، وعدم رغبتهم في إغضابه جعلهم ينزلون عند طلبه، ويحاولون تلبية رغبته.بعد فترة قصيرة من البحث وجدوا فتاة في مقتبل العمر توافق على الزواج من أبيهم الشيخ خطبوها إليه، وبعد عدة أيام زفُّوها إليه، ودخل الشيخ على عروسه الشابّة وقضى ليلته عندها، ولكنه في صبيحة اليوم التالي لم يخرج، وعندما استبطأه ذهبوا أبناؤه إلى خيمته الصغيرة، التي تزوّج فيها فوجدوه على فراشه وقد فارق الحياة. شعروا الأبناء والدهم هذه قسمته ، فجهزوه ودفنوه، وعادت العروس بعد ذلك إلى بيت أهلها بعد هذا الزواج القصير الذي استغرق عدة ساعات.
أما العروس جاءها من أقاربها يخطبها فزوّجوها إليه أهلها قبل انقضاء العدّة الشرعية، وبعد فترة الحمل أنجبت لزوجها الجديد ابناً ذكراً، ثم أنجبت له بعد ذلك أولاداً آخرين .
كان الابن الأكبر يساعد أباه في أعماله ويعينه في شؤونه، غير أن الأب كان لا يمنحه أي شعور بالمحبة، ولا يجعله يشعر بأي شيءٍ من حنان الأبوة، بعكس إخوانه الآخرين، الذين كان يعاملهم بكلّ رفق، ولا يضنّ عليهم بشيء، بل إن الأب كان يضرب ذلك الابن دائماً، ويعامله بكل فظاظة وقسوة، ولا يجد له رحمة في قلبه .
كبر الصبي مع إخوانه وعاش ظروفاً قاسية، كان دائماً عوناً لأبيه في أعماله، برغم كلّ هذه المعاملة القاسية التي يعامله والده بها، وفي أحد الأيام ذهب الوالد ليعمل في حرث الأرض ومعه الصبي هذا، ولأسباب تافهة ثارت أعصاب الأب وقام بضربه ضرباً مبرحاً آلمه كثيراً مما جعله يهرب من بين يديه، ويهيم على وجهه وظلَّ الصبيّ يعدو حتى وصل إلى خيمة، يقيم بها بعض الأخوة وحولهم أغنامهم ومواشيهم، فاستجار بهم من ظلم أبيه وقال لهم: أنقذوني من أبي فقد ضربني حتى كاد يقتلني، فَهَدَّأَ أصحاب البيت من روعه وأعطوه ماءً ليشرب ويهدأ قليلاً، وبعد أن استراح بعض الشيء حدثهم عن معاملة أبيه القاسية له بعكس إخوانه الذين يعاملهم معاملة طيبة رقيقة، أما هو فمحروم من كل شيء، وهو يشغله معه في الحراثة ورعي الأغنام ونَشْل الماء لهم من البئر، وغير ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يطلبها من أبنائه الآخرين، شعر صاحب البيت بميلٍ شديد نحو الصبي فسأله: ومن هو أبوك ؟ فقال : أنا ابن فلان ، وسأله أيضاً: ومن هي أمك ؟ فقال: أمي فلانة بنت فلان . فقال صاحب البيت : أنت لست ابناً لهذا الرجل، بل أنت أخي ، فقال له الصبي: وكيف أصبحت أخاً لك وأنا لم أشاهدك في حياتي قبل هذه المرة ، فقال الرجل: لا تستعجل فسأخبرك بذلك في حينه، وبعد ساعة من الزمن جاء أبو الصبي يريد أخذ ابنه من عندهم لأنه كان يتبعه وهو يهرب منه، ولكن الأخ الأكبر قال له: هذا ليس ابنك أيها الرجل، بل هو أخي. فقال الرجل: كيف أصبح أخوك خلال هذه الساعة، إنه ابني ولكن يبدو أنه جرى لعقلك شيء، أو تكون قد جننت حقاً !.
فقال الأخ الأكبر: لن أتركه لك إلا بعد أن نتقاضى ونحتكم عند أحد الشيوخ، فإن كان ابنك فخذه، وإن كان أخي سآخذه أنا، وقال له سنلتقي غداً في بيت الشيخ فلان، فهل ترضى به حَكَمَاً بيننا، فقال الرجل:ونعم الشيخ، واتفقا أن يجتمعا عنده في اليوم التالي ليفصل بينهما في هذه القضية المعقدة ، وفي اليوم التالي ذهب الأخوة ومعهم الصبي إلى بيت الشيخ المذكور، ثم جاء غريمهم أبو الصبي، وكان بيت الشيخ بعيداً فما وصلوه إلا في ساعات العصر، فرحب بهم الشيخ واستقبلهم استقبالاً حسناً، وبعد أن استراحوا، شرح كل واحد منهم حجته لذلك الشيخ، فقال لهم: لن أحكم بينكم قبل أن أقدّم لكم واجب الضيافة ولكنني أريد من هذا الصبي أن يساعدني في بعض الأمور، ودعا الشيخ الصبي ليفهمه ما يريد منه فخرج معه إلى جانب البيت، فقال له الشيخ: أنت ترى يا ابني إنكم ضيوف عندي، ولا بد من عمل ما يُقَدَّمَ إِلى الضَّيْف لكم، وأغنامي بعيدة، وأريد منك أن تذهب إليها فهي ترعى قرب الوادي الفلاني ومعها ابنتي، فغافِل ابنتي واسرق منها خروفاً واحمله وأحضره إليّ لكي أعمله عشاءً لكم ولا تدع الفتاة تراك أو تحسّ بك.
فذهب الصبي وغافل الفتاة ثم حمل خروفاً كبيراً وسار يعدو به حتى أحضره إلى الشيخ الذي ذبحه وأعدّ منه عشاءً لهم . وفي ساعات المساء وبعد أن تناول المختصمون عشاءهم عند ذلك الشيخ عادت الفتاة ومعها أغنامها إلى البيت فجاءت إلى أبيها وعلى وجهها ملامح الحزن وقالت لأبيها وعلى مسمع من الضيوف : لقد ضاع مني اليوم خروف يا أبي ، سألها : وكيف ضاع منك ؟ هل أكله الذئب ؟ أجابت: لا بل سُرِق .
سألها والدها: وهل رأيت الذي سرقه أجابت: لا ولكنني عرفته. استغرب الوالد وسألها: كيف عرفتِه ولم تبصره عيناكِ ؟ قالت: وجدت أثر أقدامه فعرفته من أثره ، فهو صبي أمّه شابّة وأبوه شيخ هَرِم . قال لها أبوها: وكيف تثبتي لي ذلك ؟ قالت: إن أثره صغير كأَثَرِ صبي لم يبلغ بعد. قال أبوها: حسناً ولكن كيف عرفت أنه ابن شيخ هرم ؟
قالت: عرفته من أثره أيضاً، فوجدت خطواته مرة تكون طويلة ومتباعدة ومرةً تكون قصيرة ومتقاربة، فعرفت إنه عندما كان يأتيه العزم والقوة من ناحية أمه ، فكان يعدو فتبعد خطواته عن بعضها البعض، وعندما تأتيه القوة من عند أبيه فكان يتعب فتقصر خطواته، فعرفت أن أمه شابّة وان أباه شيخ هرم. فقال لها الشيخ: اذهبي الآن يا ابنتي وسنبحث عن الخروف فيما بعد. ثم نظر إلى ضيوفه وقال لهم: هل سمعتم ما قالته الفتاة ؟ قالوا: نعم سمعنا .
قال الشيخ: وبذلك تكون قد حُلّت القضية، فأما أنت أيها الرجل فالصبي ليس ابناً لك، وأما أنت أيها الصبي فالحق بإخوانك وعد إلى أهلك. وبهذا أكون قد حكمت بينكم .بذلك تكون فراسة الفتاة البدوية حكماً فطرياً أنقذ الصبي من ظلم أبيه المزعوم، وأعاده إلى حضن إخوانه الذين فرحوا كثيراً بعودته إليهم.
المصدر : التراث الشعبي

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

780 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع