يعقوب أفرام منصور
أربيل
خلال أعوام العقد الثامن وحتى أواسط العقد التاسع من القرن المنصرم لِيمَ الأدباء والمثقفون (مفكرون، شعراء، فنانون، مسرحيون) من لدن البعض على انصرافهم إلى أدب الحدث والشأن الوطني والمواضيع التي تمتّ بصلة إلى السياسة، من بعيد أو قريب، كالمظالم والطغيان، وامتهان وتجاوز حقوق الإنسان، والخيانات والمحن التي قاساها الوطن، من تدمير وحصار متعسّف، وفضّل اللائمون المقصّرون إنصراف هؤلاء جميعًا إلى الأدب والإبداع الإنساني الصِرف، متناسين أولاً أن ألأديب أو المثقف، كعضو فاعل في المجنمع، ينبغي عليه بقضل تميّزه إحساسًا وإدراكًا ـ بحكم مواطنته وإنسانيته ورهافة شعوره وعمق وعيه ـ أن يكون إيجابيًا، فيعبّر بوسائله الإبداعية عن أفكاره وآماله وطموحاته الوطنية والقومية والإنسانية في ظل العدل، كما يعبَر عن احتجاجه وشجبه وغضبه إزاء العسف والطغيان والجبروت والإرهاب؛ ومتناسين ثانيًا أن الكتابات الأدبية والإبداعية في باب أدب الهموم والشؤون المحلية والبيئية، بما فيها من عيوب ومثالب وتخلّف ، تتسم بالوطنية والإنسانية كذلك. فهل من العيب أو عدم الجدارة أن يكون الأديب أو المثقف منفعلاً وإيجابيًا بروحه ويراعه بباعث من وطنيّته ووحي ضميره الإنساني اليقظ؟! لا أعتقد ذلك، بل أؤ كّد كون النقيض هو الصحيح، إذ بخلاف ذلك يكون الأديب أو المثقف سلبيًا وجامدًا وذاتيًا فقط ونرجسيًا أيضًا، وهذا ما يشينه.
في هذا المجال قال الأستاذ عبدالله زكريا الأنصاري في كتابه (خواطر في عصر القمر) : " الإلتزام لا يعني الإلزام، فالإلتزام في الأدب والإبداع، شعرًا أو نثرًا أو رسمًا أو لحنًا، هو السير في طريق محدد المعالم واضح المسالك، يلتزم به هؤلاء في نتاجاتهم من خلال التعبير عن شعورهم وأحاسيسهم وآرائهم ونزعاتهم بصدق وأمانة في مضامير مشاكل وهموم وشجون المرحلة الحياتية التي يعيشونها. فنتاجات هؤلاء تُصنّف بكونها أعمالاً فنية، فهم إذن فنانون متخصّصون في صناعة التعبير والإفصاح والجهر والإبداء بشكل إدبي إبداعي متفنن ليس لأجل الفن نفسه بل لأجل خدمة المجموع والمجتمع والوطن والشعب بحسب تأثّرهم بمعاناة المحيط. ولما كانت المجتمعات متعددة ، والأمم مختلفة، والحضارات متباينة، والإنسانية ما زالت في تناحر وتشاحن وتباغض، والأقوياء ماديًا ما زالوا يفتكون بالضعفاء ماديًا، والعقل ما زال مسخّرًا لإنتاج وسائل البطش والإفناء التي ما برحت موجّهة لضرب البشرية، والفتك بالإ نسانية، والأطماع ما فتئت متأصّلة في النفوس والقلوب؛ ففي خضمّ هذا البحر الهائج من التيارات والمعترك والتطاحن، يجدر بهؤلاء المتفننين في ميادين الأدب والثقافة والشعر والرسم والمسرح والإنشاد أن ينشطوا لإنتاج إبداعاتهم، وأن يعملوا ما في وسعهم من عمل لصدّ هذه التيارات عن مجتمعاتهم وبيئتهم وأمتهم عِبر التزامهم بفنونهم الإبداعية لصدّ هذه التيّارات ولتوعية الجماهير، ودفعها إلى العمل على التهوض بمجتمعاتهم وتقدّمها وازدهارها. فالقائلون بالفن للفن فقط وليس لغيره ـ وإن يعمّموا فكرتهم هذه في مختمع أممي واحد وداخل أمة عالمية واحدة، فهيهات ثم هيهات أن يأتي ذلك اليوم، إذ هو حلم من الأحلام العبثيّة التي لا تتحققق، وتضادد طبيعة حياة البشر على هذه الأرض، وضد نفسيات البشر. فالإلتزام في الإبداع الأدبي والثقافي هو النابع من الإيمان والإقتناع بالعقيدة والفكر والرأي، وهذا النهج هو غير الإلزام الذي يعني الإجبار والإكراه على الإبداع لصالح عقيدة أو فكرة أو رأي ( ص 48 ـ 51)
فالعقّاد ـ كأديب ومفكّر ـ كتب كثيرًا من المقالات ذات نَسَب قوي إلى السياسة، وغاص بكتاباته ومعاركه القلمية في خضمّ أحداث سياسية، والأديب الصحافي إبراهيم صالح شكر كتب كثيرًا من المقالات في الصحف العراقية بأسلوب أدبي، فهل كانا مُسيئَين إلى وطنهما أم إلى أدبهما أم إلى القلم الشريف؟ والرصافي له قصائد رائعة عديدة في مجالات السياسة، فهل أساء أم أحسن؟ والشاعر لامرتين ـ المشهور بقصيدة ( البحيرة ) ورواية حب (رافائيل) ـ كان سياسيًا ورجعيًا. وبرنارد شو ـ صاحب المسرحيات العديدة والمشهورة، كان إشتراكيًا فابيًا، وله مقالات تُعد أفضل من كتاباته المسرحية. وسان بيف ـ أكبر نقّاد فرنسا الأدبيين في القرن التاسع عشرـ كان من أتباع سان سيمون الإشتراكي الفرنسي الخيالي. ومحمد كرد علي ـ المفكر المؤرّخ ورئيس المجمع العربي السوري ـ كتب في السياسة. ومارون عبّود ـ شيخ نقّاد الأدب ـ كتب في النقد السياسي : " من الجراب"، "أشباح ورموز"، "حبر على ورق"، "قبل انفجار البركان". وجبران خليل جبران الشاعر والرسام والمفكّر، تشهد له أكثر مؤلفاته العربية بالألتزام الهادف إلي إيقاظ الشعب واستنهاضه ومقاومته الدخيل والفساد والإستبداد بشكل سافر وشديد في ( أرواح متمرّدة) ، (الأجنحة المتكسّرة)، (عرائس المروج) و (العواصف). فهل أساء كل هؤلاء الأمثلة في كتاباتهم الملتزمة إلى حِرفتهم أو أمّتهم أو رسالة الأدب والثقافة والفن والقلم؟ أنا شخصيًّا لا أعتقد أنهم أساءوا، بل أحسنوا صنعًا. فشؤون السياسة والحكم والإدارة لدى أرباب القلم والإبداع لا تشكّل ميدانًأ حِرَفيًا تخصصيًا مؤسساتيًا عمادها أفراد السلطتين التنفيذبة والتشريعية ، فضلاً عن دبلوماسيين ومنظّرين ومعلّقين وزعماء وحزبيين، إذ إن كتابات الأدباء والمثقفين تمتّ بصلة ألى السياسة والحكم والإدارة والإيديولوجيات بقدر تعلقها بقضايا الحق والعدل والمساواة، ومصلحة الشعب العليا في نواحي الإستقلال والسيادة والإقتصاد والإرتقاء في المجالات الإجتماعية والتعليمية والصحية والخدمية والبيئية، وكل ذلك يقومون به من خلال كتاباتهم الفنية الحصيفة بفضل رقّة مشاعرهم ، وغيرتهم الوطنية ومبادئهم الإنسانية، وبواعث الحق والعدل الي تزخر بها نفوسهم، وهي مزايا قلما تتوفر في نفوس الساسة والزعماء ورجال الإدارة والحكم في أقطار العالم كافّة.
مضت سبعة عقود على طرح هذا الموضوع وتداوله إعلاميًأ وصحفيًا ومجتمعيًا، لكنه ما برح محناجًا إلى تذكير بين آنٍ وآخر، لأنّ جمهرة كبيرة من المبدعين الأدباء والشعراء والمثقفين ما فتِئت نائية عن الإلتزام في نتاجاتها عن القضايا الوطنية والمصيرية والإجتماعية والإنسانية، إذ هي موغِلة في ذاتيتها. فهل يكفي ويليق أن يكون أحد هؤلاء المبدعين ذاتيًا أو نرجسيًا فقط ، أو لامباليًا بما حوله من هموم وشجون وعسف؟ هل يحسن به أن يصوّر لواعج الحب والغرام وصنوف العبث واللهو والترّهات فحسب؟ ألا تثير فيه حروب القرن العشرين والعقدين الأخيرين، بما اكتنفهما من فظاظة وهمجية وجرائم وتدمير وتجويع ومظالم وطغيان وانتهاك حقوق وحريات وتهجير و إبادة في الوطن وأقطار الشرقين الأدنى والأوسط ؟! وكل هذا يجري في ظل وسائل إعلام مُلهية ومضلّلة ومسايرة للنظم الفاسدة والسلطات الغاشمة، وتزوير حقائق، وتغاضٍ عن تجاوزات صارخة لحقوق الأنسان، وإذلال الشعوب المستضعفة لتخنع لإرادة الشر المتجبّرة ؛ فيطوي الذاتيون والنرجسيون واللامبالون كشحًا عن هذه المشاهد والمظالم، فيملأون الصفحات الثقافية الإبداعية بالقصص والأشعار والسجالات الغثّة، بعيدًا عن كل هذه الشجون والأوجاع والمثالب حيالهم!
قليلة جدّاهي القصص القصيرة التي تصوّر سوء أحوال النازحين، ونادرة جدًا هي القصص الطويلة التي تصوّر معانيات المهجّرين وبينهم الغارقين في البحر قبل بلوغهم بر الأمان، وأندر منها أشعار تصوّر ضحايا التفجيرات المتنوعة التي تحيل أجسادهم إلى هباء منثور وكأنهم هم الظالمون ومسببو النكبات والفساد والخيانات؛ كما في حكم العدم إنتاج اي نوع أدبي يصوّر أحوال النكد والإستغاثة والخروقات الأخلاقية والجسدانية الفظيعة التي تٌرتكب في ظلمات السجون.ألا تثير إنتهاكات حقوق الإنسان عصبًا في أرباب القلم الإبداعيين لتجعلهمم ينفعلون، فيمتشقون أقلامهم ذودًا عن حق هضيم، ودفعًا لجورٍ جاثم، وتحفيزًا لنخوة ونجدة،، وإيقاظًا لوعيٍ في سبات، ودعمًا لمطالب جماهير مسحوقة مُهمَلة، ومناهَضَةً لطغيان وإرهاب بصنوفه : الرسمي والقئوي والظلامي المتخلّف الذي تخلقه وتغذّيه عِبر الحدود مطامع الغرباء الأشعبية، وتبصيرًا بالعواقب الوخيمة ؟!
في بحث قٌدّم إلى مؤتمر الأدباء العرب السابع في 1969 بشأن [ دور الأديب العربي في المعركة ضد الإستعمار والصهيونية العالمية]، قال الأستاذ عودة بطرس عودة في تطرّقه إلى دعم جركات التحرر في العالم : " على الأديب العربي أن يعمل من أجل خلق الرأي المهتم والمؤيّد لكفاح الشعوب، ومن أجل تقديم الإنتاج الأدبي والفكري القادر على النفاذ من الأسوار العالية التي تقيمها الصهيونية والأستعمار والإمبريالية لحجب الحقائق عن شعوب العالم. ومن أجل ذلك، يتحتّم : (1) أن يكون ثمة تحليل علمي تاريخي لكل قضايا الشعوب، وتطوّر هذه القضايا ، (2) فضح مستمر واستنكار متواصل لمرامي أعداء الشعوب وأهداف الأستعمار والإمبريالية وأعوانهم الخائنين ، (3) أن تكون ثمة قناعة تامّة ـ نابعة من حركة التاريخ وأحداثه ـ بأن التوحّد الفكري في هذا القصد هو السبيل إلى التحرر الشامل، فيجدر يالأديب في أقطارنا، وقد انفعل بهذه القناعة ، أن يتحول إلى مناضل بقلمه وإنتاجه الأدبي من أجل هذا التوحّد في القصد. "
يواجه أدباء أقطار هذه المنطقة من الشرقين الأدنى والأوسط، التي باتت مطمع الدول الغربية الرأسمالية الإستحواذية، بسبب غنى ثرواتها النفطية والمعدنية، وبسبب تشرذمها وقلة وعيها إلى حد الغفلة في بعض البقاع، وندرة الإنتباه إل حد الغفوة في بعض الأنظمة، في هذه المرحلة الحاضرة المصيرية، أقول يواجه هؤلاء الأدباء مسؤولية إضاءة الطريق أمام الجماهير جمعاء، لكن بروز الرأي العام العالمي كسلاح أمضى من الأسلحة القتالية الحديثة، واتساع ميادين الكفاح وتعددها وتنوّعها في العصر الراهن، وارتباط شعوب العالم بعضها ببعض، وانهيار الحواجز الفاصلة التي كانت تفصل بعضها عن بعض قبل عقود، إتّسعت مَهَمّة الأدباء في أقطار هذه البلاد لتشمل الإهتمام بتوجّهات السياسة العالمية المُخيفة، وما يصطرع فيها من تيارات فكرية واقتصادية واجتماعية، والإهتمام بأوضاع الشعوب المتخلفة وتكتّلاتها وأحلافها، لما في ذلك من تأثير في وضع أمتهم وبلادهم. فمَهَمّة الأديب الغيور في هذه الأقطار واجبة وذات أهمية ، لأن هذه الأقطار قد واجهت منذ عقود عداوة وأطماع وأستغلال واستعباد الإستعمار القديم، كما تواجه الآن ومنذ أمد عداوة ومطامع الإمبريالية المعاصرة والصهيونية العالمية مقرونتين بالحرب النفسية والصراع الحضاري،آخذين يعين التقدير ما تملك هذه القوى المزدوجة، المادية، الجهنمية من سلطان في العالم لا يدانيه سلطان أخر.
من المناسب في هذا المقام أن أورد ما قاله القدّيس (إيرونيموس المتوفّى عام 420) : " إن الصلاة هي السياسة "، وفد عقّب الشارح على هذه العبارة قائلاً : " فالأبتهال هو السند الذي إليه يستند العالَم المائل نحو الهبوط. أفتحسبون أولئك الرهبان المنفردين في المحابس والمناسك أناسًا متوانين؟ حاشاهم من ذلك، لآنهم يقضون آناء الليل وأطراف النهار بالصلوة والضراعة والإبتهال الى الله لبكفّ غضبَه عن العالم المفعم بالشرور، أو هل تحسبون الإهتمام في إرضاء الله من أعمال البطالة؟ كلاّ أيها الإخوة’". وقال(غااندي) قديس السياسة في القرن العشرين : " أقول من غير تردد وفي إتضاع كامل إن أولئك الذين يزعمون إن الدين لا علاقة لهم بالسياسة، لا يعرفون معنى الدين " (ص 577 من كتابه " قصة تجاربي مع الحقيقة " ) لكنّ وجود علاقة بين الذين والسياسة لا يعني تدخّل رجال الين في السياسة، ولا تدخّل السياسيين في الدين. فالدين معنيٌّ بالمعاملة بين الناس، وهذه المعاملة التي يوصي بها الدين تلتزم الأمانة والصدق والعدل والنزاهة والكرامة الإنسانية، غير أن السياسة كثيرًا ما تتجاوز على هذه الحقوق والوصايا والمبادئ، حتي التشريعات المدنية منها وفي أرقى وأكبر الدول حيال شعوبها، علاوةً على غير شعوبها. وخير الدول هي التي لا تتجاوز على تعاليم الدين أو قلّما تتجاوزها.
فإذا كانت هذه مقولة قدّيس ديني، في مدى إرتباط الصلاة بالسياسة، وهذه مقولة قدّيس مدني في وجود علاقة بين الدين والسياسة، فلعمري ماذا يقول وماذا عليه أن يفعل الأديب الغيور بيراعه، والكاتب الحر بنتاجه، والمفكّر الإنسان المنصف بصوته الجهوري في هذا المعترك السجال بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وبين الفضيلة والرذيلة، وبين الجمال والقبح؟! أترك الجواب لحملة الأقلام، ولذوي الألباب خصوصًا، وللمثقفين عمومًا.
وفي خاتمة الموضوع من المناسب طرح هذا التساؤل : خلال هذه الحقبة العسيرة الملأى بالعيوب والمساوئ في الوطن، من عام 2003 حتى الآن، هل كان الكتّاب الإبداعيون والمثقفون ( أدباء، قاصّون، شعراء، مفكرون، متفننون) على المستوى المطلوب من الإلتزام، عددًا ونوعًيًأ، تجاه البواعث الوطنية، والمبادئ الإنسانية، وروح العدالة ونبضات الضمير اليقظ؟ بكل أسف، أجيز لنفسي القول بالنفي، وسيكتب التاريخ لومًا شديدً على كثيرين من حملة الأقلام والألقاب اللامعة، وعلى الإتحادات والمؤسسات الثقافية والإعلامية لتقصيرها الكبير في هذا الميدان .
1157 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع