خالد القشطيني
كنت وزميلي النحات جاك آكسورثي قد عقدنا العزم على استكشاف منطقة اسكوتلندا بطريقة «هتش هايكنغ»، اعتمادًا على ضيافة السيارات.
أنجزنا مهمتنا، وتفرجنا على كل بحيرات اسكوتلندا الشهيرة وغاباتها وقلاعها التاريخية، وحل أوان الرجوع إلى لندن. وقفنا في أول الطريق المؤدي إليها، وأشرنا بإبهامنا لإحدى الشاحنات العملاقة من عابرات القارات. سمعنا شخير كوابح الوقوف، وهرعنا إلى مركبة السائق: «لندن».. آي نعم، اصعدوا. صعدنا على بركة الله، وزمجرت ماكينة الديزل الضخمة، وانطلقت بنا الشاحنة.
«ماذا تدرسان؟ وأين وماذا ستعملان؟».. جرت هذه الأسئلة المعدودة، وأجاب عنها الزميل جاك. بعد نحو مائة ميل، لاح لنا موقف استراحة للشاحنات، وعرج إليها السائق. نزلنا جميعا إلى بار ومطعم الموقف. تناولنا ما طاب لنا، وكرع السائق قدحًا كبيرًا من البيرة. وعدنا لنركب، ونواصل السفر. وتكررت العملية بعد نحو ساعة من الزمن، وكرع السائق قدحًا مشابهًا. واصلنا السفر حتى وصلنا لموقف ثالث، وتكررت فيه العملية، وكرع السائق كأسًا ثالثة. وعاد إلى مقصورته، ونحن معه. ولكنه لم يتقدم غير بضعة أمتار حتى لاح شرطي أمامه يومئ إليه بالوقوف. توقفت الشاحنة، ونزل السائق كما أمره الشرطي. أخذه جانبًا، وأجرى عليه الفحص. ثم أخرج دفتره، وسجل عليه مخالفة السياقة في حالة سكر.
أعطاه نسخة، ثم قال له: لا يصح لك السير بهذه الحالة.. نم في مقصورتك حتى اليوم التالي، واستأنف السفر بعد أن تصحو. انتقل الشرطي إلينا، وسألنا عن هويتنا. أجبناه بما يلزم. قال: الشاحنة لن تتحرك حتى الصباح.. «دبروا حالكم». ودبرنا حالنا بالنوم على أرضية الشاحنة.
تغيرت الأحوال بعد سنوات، واشتغلت موظفًا بالـ«بي بي سي»، واشتريت سيارتي الخاصة. وكما قلت في مقالتي السابقة، عاهدت نفسي أن أتذكر ضيافة السيارات، فأستضيف كل من تلزمهم «توصيلة». كنت سائرًا في منطقة باتني، عندما لاحظت سيدة وابنتها الصغيرة تجريان على الرصيف بهلع وسرعة. أشارت لي السيدة بإبهامها فتوقفت إليها. سألتها إلى أين؟ أجابت: إلى مدرسة البنات في آخر الطريق. قلت لها: اصعدي.
صعدت مع ابنتها في المقعد الخلفي، وراحت تهمس لابنتها بلغة عربية ولهجة بغدادية أصيلة: «عيني، ليش تخجلين؟ هنا، الإنجليز هكذا. أوادم يحبون يساعدون الناس، ويوصلوهم بسياراتهم.. يسموها هتش هايكنغ».
وعندما وصلت نهاية الطريق أمام المدرسة، أوقفت السيارة لهما لتنزلا، ثم خاطبت السيدة بنفس اللهجة البغدادية: «تصبحين على خير، خالة». تعثرت المرأة بقدميها، وكادت تسقط ارتباكا!
بيد أن أيام الهتش هايكنغ الحلوة قد ذهبت، وانتهت مع الأسف الآن، خوفًا من المجرمين. وأيضًا الآن الخوف من الإرهاب والإرهابيين جعل ضيافة السيارات عملا محذورا لا تسمح به الشرطة، ولا شركات التأمين.. إنجاز من منجزات «داعش» و«القاعدة» وسواهما من منظمات القتل والتخريب
1169 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع