إبراهيم الزبيدي
يومَ أقدم بضعة أطفال في مدينة درعا، في 26 شباط/فبراير 2011، بتلقائية ذاتية بريئة أو بتحريض من ذويهم، على كتابة شعارات تطالب بالحرية كان يمكن لملمة الأمر، بسهولة، وتمريره بأقل التكاليف، وبدون الدخولٍ في مكاسرة طويلة دامية مع الملايين من السوريين الذين لابد أن مخابرات النظام كانت لديها معلومات عن بلوغ نقمتهم على الظلم والفساد حدودها القصوى القابلة للانفجار، لو كان النظام الحاكم في سوريا غير هذا النظام، ورئيسُه غير هذا الرئيس الذي ورث القسوة والعنف والدموية عن والدٍ سرق السلطة بخيانة حزبه، والغدر برفاقه، وأقام حكمه إلى أن مات بالدم وعلى الدم، وتخصص بالاغتيال والاحتيال واللعب على الحبال.
وإن كان عليه أن يعلم، قبل إشعال الفتنة، بأن قوىً ودولا ومخابرات وتنظيمات إقليمية ودولية عديدة، في طليعتها الإرهابيون الإسلاميون، سنة وشيعة، والمتطرفون القوميون العرب والكورد، لابد أن تستدرجها الحرب بين النظام وشعبه، لما تخلقه من بيئة ملائمة لتحقيق أهدافها ومخططاتها. فإيران التي كانت قد تسللت إلى مفاصل السلطة سوف تحقق لها الحرب فرصة الاستفادة من غرق النظام في هموم بقائه، لتقييده بحبال حاجته إلى معونتها العسكرية والسياسية والمالية. أما البعض الآخر، تركيا وإسرائيل، مثلا، فعلى رأس قائمة أجنداته تدمير المدن والقرى السورية وجعل إعادة إعمارها أمرا مؤجلا عشرات السنين، خصوصا إذا أمكن استدراج الشعب السوري المنتفض إلى حمل السلاح، ليسهل قتل بعضه لبعضه الآخر، وتهجير من ينبغي تهجيره منه، وجعله هما وعبئا على دول الجوار، وترويض من يتبقى منه أسير داخل وطنه، مثلما حدث للشعب العراقي قبل ذلك، وربما أكثر منه بكثير. خصوصا وأن لسوريا حدودا ساخنة مع إسرائيل وتركيا ولبنان.
ولكن الوكيل الأمني المخابراتي لبشار الأسد في درعا لم يكتفِ بقلع أظافر الصغار، بل شتم أولياء أمورهم، حين راجعوه بشأنهم، وقال لهم بلغة الشوارع الساقطة البذيئة التي ميزت أهل النظام الأسدي، من أعلى سلطة فيه إلى أصغرها: (هاتوا نساءكم لكي نعلمَهن كيف ينجبن أولادا من جديد).
بهذه العبارة الحارقة القصيرة أغرق سوريا، من أولها إلى آخرها، بتظاهرات غاضبة هتافُها كان بسيطا في البداية: (الله، سوريا، حرية وبس).
ثم حين اختار رئيسُ النظام مواجهة المتظاهرين بالرصاص الحي رفعت الجماهير سقف مطالبها، وصارت تهتف بصوت واحد: (الشعب يريد إسقاط النظام).
ومن يومها والدم لا يتوقف عن الجريان، والرصاص لا يكف عن الأزيز. وتفتحت أبواب جهنم على الشعب والنظام معا حين اضطر شبان التظاهرات إلى حمل السلاح للدفاع عن صدور أشقائهم المتظاهرين العارية.
وعلى أي طلب عربي أو دولي بتنحي الديكتاتور الذي يقصف شعبه بالغاز السام والصواريخ والبراميل المتفجرة كان وما زال يجيء الرد من بشار نفسه، ومن أعوانه الكبار والصغار، بأن "الشعب السوري وحده الذي يقرر مصير السيد الرئيس". و" لا يحق لأحد أن يتجاوز على شرعية السيد الرئيس"
وهذا هو آخر ما صرح به عمران الزغبي وزير إعلام النظام، ردا على إعلان المعارضة السورية الأخير عن رؤيتها للحل، والتي تتضمن مرحلة تفاوض من ستة أشهر على أساس بيان جنيف، تليها مرحلة انتقالية من 18 شهرا تشكل خلالها هيئة الحكم الانتقالي من دون بشار الأسد.
ومفهوم، ولا يحتاج إلى توضيح، أن الزغبي وأمثاله من أعوان الديكتاتور المقربين، لا يعنون، بحديثهم عن الشعب السوري، جماهير التظاهرات التي تهتف بسقوط النظام، ولا المقاتلين الذين يحتلون كثيرا من الوطن، ولا المهجرين، ولا المحاصرين، ولا المفقودين، ولا السجناء. ولكنهم يعنون فقط أؤلئك الذين يقتلون أشقاءهم لحساب السيد الرئيس، ويهدمون المنازل على نسائهم وأطفالهم وشيوخهم، ويغتصبون ويمثلون بجثث الضحايا، وينهبون، ويغتصبون، ويستأصلون حناجر الذين يهتفون بسقوط النظام.
أما ما عدا ذلك فتكفيريون إرهابيون خارجون على القانون وعلى شرعية السيد الرئيس، يحل ذبحُهم، وقصفهم بالغاز السام والقنابل المحرمة.
هذه هي الأكذوبة التي يحترمها المنافقون من قادة المجتمع الدولي، وهم يعلمون علم اليقين، قبل غيرهم، وأكثر من غيرهم، حقيقة الشرعية التي تنتجها انتخابات مزورة أو محسومة بقوة المخابرات وشبيحة السيد الرئيس.
إنها ذات الشرعية التي تغنى بها محمد مرسي في مصر، ومعمر القذافي في ليبيا، وصدام حسين في العراق، وعلي عبد الله صالح في اليمن، وعمر البشير في السودان، ومثلُهم محمود أحمدي نجاد وحسن روحاني في إيران، وقبلهم ستالين ثم وريثُه بوتين في روسيا، وهتلر وموسليني وفرانونوفي أوربا، ونورييغا في بنما، وشاوشيسكو في رومانيا، وكيم إيل سونغ وحفيدُه كيم جونغ إيل في كوريا، وعيدي أمين وموغابي في إفريقيا، وعشرات غيرهم من الحكام المجانين الذين ارتكبوا أبشع أنواع الجرائم ضد مواطنيهم باسم هذه الشرعية المغشوشة التي لا يأخذها مأخذ الجد، ولا يُلوح بها أصحابُها إلا وقت الضيق، وعند قلة الصديق.
فالنظام الأسدي، من أكبر رأس فيه إلى أصغره، يرى، بإصرار وبَجاحة ووقاحة، أن ما يجرى ويجري في سوريا مجرد مؤامرة خارجية يقودها التكفيريون الوهابيون وأمريكا وإسرائيل ضد (جمهوريته الفاضلة).
أما الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني ومليشيات حزب الله العراقي وأبي فضل العباس والنجباء وعصائب أهل الحق، وجيوش بوتين الجوية والبحرية، وقواعده في سوريا، فهي قوات صديقة وحليفة جاءت لنصرة الشعب السوري على أعدائه، وللدفاع عن شرعية السيد الرئيس.
نعم ، في سوريا إرهابيون قتلة ومتخلفون يجب قتاله ودحرهم، وعلى الشعوب العربية والأجنبية وحكوماتها أن تقاتلهم بجدية لو كان بشار الأسد وشبيحته وحلفاؤه الإيرانيون والعراقيون والروس أقل إرهابا ودموية وهمجية. ألم تولد داعش من رحم الفتنة السورية، وبدعم النظام وتواطئه؟
وألكثر إثارة للشفقة أن وزراء النظام كثيرا ما نقلوا عن رئيسهم عتابا مرا و(زعلا) كبيرا من زملائه الأوربيين، لأنهم لا يعتمدون على حقائق، بل على معلومات (مغشوشة) تصلهم من خارج سوريا، وليس من داخلها. ويقول وزير خارجيته وليد المعلم "مع الاسف منذ اندلاع الأزمة في سوريا لم يأتنا مسؤول أوروبي واحد ليناقش معنا ما يجري".
إذن فهو كان يعتقد بأنه قادر على تضليل العالم وإخفاء الحقائق عنه بغلق الحدود، وتحريم دخول المراسلين الصحفيين، واغتيال الكتاب والمثقفين والمطربين والموسيقيين والرسامين، وعرقلة عمل وكالات الأمم المتحدة، ومؤسسات حقوق الإنسان الدولية، وأجهزة مخابرات الدول، وأقمار التجسس السابحة في الفضاء تصور حتى أدق التفاصيل داخل القصر الجمهوري، والفضائيات والإذاعات ووكالات الأنباء، والإنترنيت، والهواتف النقالة التي تصور كل شيء وتنقله إلى آخر بقعة في الدنيا الواسعة في ثوان.
هذه هي الجرثومة القاتلة التي أصابت بشار الأسد، مثلما أصابت من قبلُ أمثالَه الحكام المجانين الذين انتهوا قتلى أو أسرى أو هاربين من وجه العدالة.
اللهم لا شماتة. فقد خسر شعبه، ونظامه، وحزبه، وأمته، وحتى أهل بيته، وجعل نفسه، ومعه الوطن وأهلُه، باختياره أو رغما عنه، حبيسا محاصرا بشعبٍ لا يريد أن يتوقف عن قتاله، ولا يكف عن طلب رحيله، ورهينةَ مليشياتِ الولي الفقيه وحرسه الثوري، وأسيرا لمزاج القيصر العنيد، ومقايضاته التي لا يعرف حدودها ويترقب نهايتها، وهو كضيم.
1153 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع