أ.د. ضياء نافع
النقطة الاولى
قرأت – وبكل متعة وسرور واندهاش – كتاب السيدة بلقيس شرارة , الصادر عام 2015 عن دار نشر المدى في بغداد والموسوم – ( هكذا مرت الايام ), والذي رسمت فيه بلقيس صورة قلمية وثائقية مدهشة الجمال لذلك الجيل و سمات عصره منذ اواسط القرن العشرين في العراق الملكي وعبر العراق الجمهوري اللاحق.
عندما قرأت عنوان الكتاب طرحت على نفسي رأسا سؤالا محددا , وهو - هل استخدمت بلقيس في عنوان كتابها كلمة ( الايام ) محاكاة لعنوان رواية اختها الراحلة أ.د. حياة شرارة - ( اذا الايام أغسقت )؟؟ , ولكني لم أفصح حينها عن هذا السؤال لاي شخص من حولي ابدا, لاني لم اطلع على الكتاب عندها, ولهذا كنت أخشى ( واتردد ) ان اتحدث عن ذلك علنا . الان , وبعد ان قرأت كتاب بلقيس شرارة - ( هكذا مرٌت الايام ) الممتع والرائع و العميق بكل ما تعني هذه الكلمات من معنى , استطيع ان اعلن عن قناعتي الشخصية ( كدت أقول استنتاجي ! ), ان بلقيس قد استخدمت كلمة - ( الايام ) في عنوان كتابها فعلا محاكاة لعنوان رواية اختها حياة , ان لم يكن عمدا او قصدا فانه انعكاس للوعي الباطن و الكامن في اعماق العقل و القلب والروح . هل ارادت بلقيس ان تقول للقراء و لحياة ايضا في كتابها هذا- وبشكل غير مباشر - ان ( ايامها مرٌت ) بشكل يختلف تماما عن( ايام ) حياة التي ( أغسقت ) ؟؟؟
لقد تذكرت الان وانا اكتب هذه السطور استنتاج المخرج السوفيتي المشهور ايزنشتين الذي ذكر في وصيته الادبية , ان غوغول حاول ان يكون مثل بوشكين وبمكانته وقيمته واهميته الادبية , ولهذا فانه كان يحاكي نتاجات بوشكين طوال حياته في بناء بعض اعماله الفنية وخصائص ابطاله وصورهم وتصرفاتهم ... الخ . ( انظر مقالتنا المترجمة بعنوان - بوشكين وغوغول في وصية ايزنشتين ).
النقطة الثانية
تتناول هذه النقطة الفصل الخاص بالكتاب حول زيارة الاتحاد السوفيتي لمدة شهر باكمله في نهاية عام 1958 . لقد سافر آنذاك وفد من العراق الجمهوري الى موسكو برئاسة أمين العاصمة وبقي هناك طوال شهر باكمله وذلك بدعوة من امين العاصمة السوفيتية موسكو , وكان رفعة الجادرجي ضمن اعضاء هذا الوفد , وقد رافقته زوجته بلقيس , ( لم افهم كيف استطاع رفعة ان يسافر مع زوجته في ايفاد رسمي ولمدة شهر باكمله ؟ ). هذا الفصل يحتاج الى تأمٌل , لانه يجسٌد افكارا وانطباعات عراقية عن الاتحاد السوفيتي في تلك المرحلة , (وهي حقيقية لانهم كانوا متعاطفين مع الاتحاد السوفيتي ونظامه السياسي ) , رغم انه من الواضح ان بلقيس كتبت هذا الفصل بعد مرور عشرات السنين على تلك الزيارة , لدرجة انها نسيت ان ستالين كان يرقد في تلك الفترة جنبا لجنب مع لينين في الساحة الحمراء وبمرقد خاص لا زال موجودا ( ومن المؤكد ان الوفد العراقي قد زاره ) , وقد تم – كما هو معلوم – رفع جثمان ستالين من هذا المرقد بعد المؤتمر الثاني والعشرين للحزب الشيوعي السوفيتي زمن خروشوف , واعيد دفنه في الساحة الحمراء جنب الزعماء السوفيت الاخرين , ولكن وراء المرقد ذاك. لقد كتبت بلقيس انهم سافروا الى تبليسي عاصمة جورجيا لان هناك يوجد قبر ستالين !! وهذا خطأ طبعا . وهناك نقطة اخرى في هذا الفصل تبين ان بلقيس كتبت هذا الفصل بعد عشرات السنين ايضا وهي الاشارة الى الكاتب الروسي سولجينيتسن , والذي لم يكن له في فترة تلك الزيارة اي وجود في الاتحاد السوفيتي . وباختصار , فان تلك السطور عن الزيارة تعكس اراء متاخرة جدا لبلقيس عن الاتحاد السوفيتي وليست مرتبطة بوقت تلك الزيارة , ولكنها – مع ذلك – تحتاج الى تأمل والى تحليل دقيق , واتمنى ان تسنح لي الفرصة يوما ان اتناول بالتفصيل ما جاء في ذلك الفصل ضمن سلسلة مقالاتي بعنوان – ( عن بعض العراقيين الذين مروا بموسكو ) .
النقطة الثالثة
تحدثت بلقيس في فصل خاص عن اختها حياة شرارة وانتحارها . تكمن اهمية هذا الفصل في ان بلقيس وضعت النقاط النهائية والحاسمة على الحروف - كما يقولون – بشأن هذا الموضوع , اذ لا زال هناك من يظن ( ولحد الان ) ان حياة لم تنتحر بل تم قتلها او تصفيتها او حتى اغتيالها لاسباب سياسية بحتة ...الخ.
تذكرت المثقفة الرائعة حياة والشهور الاخيرة معها في قسم اللغة الروسية بكلية اللغات في جامعة بغداد, وتذكرت كيف جاءت الى القسم مرة واعلنت ان خدمتها بلغت 25 سنة وانها الان تستحق التقاعد , وانها ترغب بالسفر الى لندن والالتحاق باختيها وان ذلك افضل لها ولابنتيها. حاولنا ان نوضح لها ان السلطات آنذاك ألغت هذا القانون , وان معظم الاساتذة يتمنون ذلك للتخلص من ضغوط الوضع السياسي الرهيب والوضع الاقتصادي الصعب زمن الحصار ( خصوصا وان الجميع كانوا يعرفون ان الاساتذة العراقيين في دول الجوار يعيشون في بحبوحة ), ولكن حياة رفضت حتى الاستماع الينا , وقد فهمنا انها تمر بازمة روحية شديدة , وحاولنا التخفيف من دروسها والتزاماتها ودوامها, ولم يكلفها القسم بالاشراف على الدراسات العليا رغم انها كانت البروفيسورة الوحيدة بيننا , بل انها حتى اعتذرت - قبل ايام ليس الا - من رئاسة لجنة المناقشة لاول اطروحة ماجستير في القسم لطالب الماجستير حسين عباس بعنوان (جوانب التشابه والاختلاف بين نتاجات تورغينيف ومحمد عبد الحليم عبد الله ) باشراف د. محمد يونس , وحتى رفضت ان تكون عضوا في تلك اللجنة .
و بالتدريج أخذت تلك الازمة الروحية والنفسية عند حياة بالازدياد والتضخم لدرجة انها رفضت حتى استلام راتبها مرة ,
لانها ذهبت الى قسم الحسابات ووجدت الباب مغلقا , و اضطررنا ان نذهب الى الحسابات وناخذ الراتب ونوصله اليها في غرفتها مع المحاسبة , ثم انقطعت حياة عن الدوام بعدئذ , و حاولنا ارجاعها عبثا , اذ ارسلنا اليها زميلاتها في الكلية لاقناعها بالعدول عن تلك الخطوة , وتذكرت موقف المرحوم أ.د. محمد يونس الذي كان رئيسا لقسم اللغة الروسية آنذاك , والذي كان يجب عليه ان يوجه لها انذارا تحريريا بضرورة الدوام والا تعتبر مستقيلة وبالتالي تفقد كل حقوقها ( وكان هذا يعني في ذلك الوقت موقفا لا تحمد عقباه امام السلطة!) , وكيف انه استشار رئيس الجامعة أ.د. عبد الاله الخشاب بعد اكثر من شهر على انقطاعها عندما زارنا في كلية اللغات , وكيف دافعنا جميعا عنها امام الخشاب وطلبنا مراعاة وضعها النفسي الخاص , وقد اقتنع الخشاب بذلك , وهكذا اقترح رئيس الجامعة ان يوجه لها رئيس القسم د. محمد يونس رسالة شخصية بخط اليد يرجوها بشكل اخوي وودي العودة الى الدوام , وقد كتب د.محمد رسالة رقيقة جدا لها وارسلها بيد احد الاصدقاء فعلا , ولكن حياة رفضت استلامها , بل ورفضت حتى استلام الراتب الذي ارسلته الكلية لها , وتذكرت كيف حاولنا ارسال استمارتها للحصول على قطعة ارض في مسقط رأسها مثل بقية الاساتذة , وكيف اننا ( دبرٌنا) ارسال ذلك الطلب بعد ان سحبنا من اضبارتها نسخة من هوية الاحوال المدنية دون علمها وذلك لانها رفضت حتى تقديم الطلب نفسه , وقد ظهر اسمها فعلا - فيما بعد - في قوائم الاراضي التي تم منحها لجميع التدريسيين .
الذكرى العطرة للمرحومة ألاستاذة الدكتورة حياة محمد شرارة , هذه المرأة الموهوبة و المثقفة بعمق , والتي ساهمت بابداع وتميٌز في حركة الثقافة العراقية المعاصرة تأليفا وترجمة وتدريسا, والتي كانت - ولازالت لحد الان - تمثٌل الوجه المشرق والحقيقي لقسم اللغة الروسية في كلية اللغات بجامعة بغداد ولخريجي الجامعات الروسية بشكل عام.
999 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع