سعيد بوخليط
كاتب مغربي*
عن منشورات إي – كتب،التي يشرف عليها الكاتب والصحافي العراقي،الأستاذ علي الصراف،صدر شهر ديسمبر 2015،كتاب تحت عنوان :
إشكالية التربية والتعليم وإعادة إنتاج التخلف في الوطن العربي،بحث في علاقتها بنظرية العقل المجتمعي. حلقة موصولة،بحلقات مشروع نظري، راكم صاحبه الأكاديمي العراقي علاء الدين صادق الأعرجي،مداخل إطاره الحجاجي،عبر أعمال سابقة أخرى، هي :”أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل”،”الأمة العربية بين الثورة والانقراض”،”الأمة العربية الممزقة بين البداوة المتأصلة والحضارة الزائفة”.
على امتداد ستة فصول،انطلقت من تحديد أولي للمرتكزات المفصلية،كمفاهيم التنمية الإنسانية والتربية والثقافة،ثم الانتقال للتناظر بخصوص ممكنات واقع عربي بديل،قد يبدو مع الاحتفاء المستمر الواعي أو غير الواعي،على امتداد الفصول والسنوات،بترسيخ براهين تخلفه الساطع،وإعادة إنتاج ذلك أفقيا وعموديا،أقرب إلى الهاجس السيزيفي الملعون إلهيا.أقول،وقد استحضر الأستاذ صادق الأعرجي ضمنيا، نَفَس سعد الله ونوس :نحن محكومون بالأمل.أو ترياق غرامشي :تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة،فأعاد طرح موضوع التربية والتعليم،القديم-الجديد،الماضي-المستقبل،وما يدور في فلكهما بنيويا من نظم ووسائل وإشكاليات ووظائف وحياة أو موت،انطلاقا طبعا من مستويات علاقة الجماعة العربية الفاشلة فشلا ذريعا،بالعصر! .
أضحى من نافلة القول، التأكيد على أن الوطن العربي، يجسد راهنا أكثر المناطق تخلفاً وتأخراً، على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والمجتمعية والمؤسساتية والتربوية والعلمية والفنية والثقافية، فكان حتميا وصوله مرحلة يحدد آفاقها، ويستشرف سبلها، تنظيم بدائي إرهابي اسمه داعش.
إن الثالوث الوجودي: الإنسان، التربية، التنمية. باعتباره المنطلق الكلي كي تنهض الأمم وتتطور الحضارات، ثم المجال الخصب الوحيد لازدهار سياقات جدلية توليدية، بين العقل الفاعل والآخر المنفعل، كي يأخذ حتما الأول مكانه الطبيعي، ويهيمن متـسيداً على مسارات العقل المجتمعي. أما في حالة العكس كما الشأن مع الوضع العربي، فالنتيجة المنطقية لن تكون سوى عدم الانتساب إلى روح العصر، بل لا يزداد إلا بعداً، في ظل توطد مزيد من السلطات الجائرة التي تـجـتث مقومات العقل العربي الفاعل، وتفرغه من مضامينه المبدعة والخلاّ قة، حددها الأستاذ الأعرجي في الكوابح التالية:
1-السلطة الحاكمة الاستبدادية منذ أربعة عشر قرنا(…الحكم المملوكي،العثماني،الاستعمار، الحكم الوطني الجائر…)
2 . –القهر السياسي.
3 –التخلف الحضاري، الذي استغرق أكثر من سبعة قرون وخاصة منذ سقوط بغداد.
4 –سجن أشباح الوهم التاريخي المعروف بالسلف الصالح .
5-مزاحمة القديم للجديد.
6 –سجن البداوة العريقة.
7-الخلافات الدينية والمذهبية والطائفية والإيديولوجية.
8-القهر الاجتماعي، أو قهر العقل المجتمعي العربي المتخلف.
9 –العَوَز، وما تقتضيه ضرورات وحاجات الجسد اليومية من غذاء ودواء، وملاحقة الفرد العربي الأسطورية للقوت اليومي.
معطيات إيديولوجية ومعرفية، كرست هزيمة العقل الفاعل أمام المنفعل، بالتالي تعذر تعديل العقل المجتمعي والنهوض به.
يقول المؤلف:((إن العقل المجتمعي يتطور ويتغير بتطور الوحدة المجتمعية، بل يحدث في الواقع تفاعل جدلي (دياليكتيكي)بين العقل المجتمعي والتطور الحضاري للمجتمع، بمعنى أن أحدهما يؤثر بالآخر ويتأثر به فيغيره. فكلما ارتفع المجتمع في سلم الرقي المعنوي والمادي أو الفكري والعملي، تغير العقل المجتمعي وتكــّيف تبعاً لذلك.ويحدث ذلك إذا تهيأ لذلك المجتمع (أو الوحدة المجتمعية)رواد يكسرون قيود وحدود ذلك العقل المجتمعي))(ص-101).
من أين نبدأ :التربية أم التعليم ؟ا لمجتمع أم المدرسة؟ كيف نحصر بوضوح خيوط، أولوية التصنيف السيزيفي، الشبيه بسفسطة البيضة أم الديك؟
كيف الطريق نحو بناء مجتمع عربي، يقدس عقلا فاعلا يتطلع صوب الإبداع والابتكار،بمقومات تربوية منفعلة ومتهالكة؟
أيضا،كيف لهذه المدرسة المعرفية العربية أن تتشكل روافدها حسب مقومات تربوية فاعلة وحديثة، وقد احتوت داخلها معلمين ومتعلمين، متشبعين أصلا كفاية من خلال مؤسسات الأسرة والمجتمع، بكفايات التخلف:((من أهم أسباب ظهور وتفاقم أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي،تعود إلى فشل عملية التربية والتعليم فيه. لذلك ما برحنا نرى أن معالجة تلك الأزمة تقتضي معالجة جذورها التي تتجلى في إشكالية التربية والتعليم))(ص-88).
إذا كانت بلدان مثل اليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا وبقية بلدان النمور الآسيوية ،رغم افتقارها لمصادر الثروات والموارد الطبيعية، لكنها أضحت في ظرف وجيز (نصف قرن) قوى دولية منافِسة، بفضل سر ربطها الإنسان بالتعليم، ووضعها الفرد ضمن قلب التنمية البشرية، فإن مختلف تقارير المنظمات الدولية، تؤكد حين انتقالها إلى ضفتنا، أن تعليم الوطن العربي، تميزه فقط المؤشرات التالية :
تدني التحصيل المعرفي، ضعف القدرات التحليلية والابتكارية ،ثم استمرار تدهور المنظومة.
يستحيل استحالة تامة، كما بينت مختلف التجارب الحضارية، تكريس منظومة تنمية مجتمعية واقعية وحقيقية، مع انعدام ثورة تربوية على الطريقة الكوبرنيكية، تستثمر ملكات الفرد اللانهائية وتفتق مواهبه وتقوِّم سلوكه وتنضِّــج شخصيته، حتى يصبح مواطنا فعالا.
التنمية، حصيلة روابط دقيقة ومعقدة، تمزج السياسي والاقتصادي والإداري والثقافي والمجتمعي والقيمي.
يذكّر الأستاذ الأعرجي، في أول صفحات الكتاب، بإحدى فقرات”تقرير الأمم المتحدة للتنمية الإنسانية،2002”:((البشر هم الثروة الحقيقية للأمم : تكمن الثروة الحقيقية للأمة العربية من المحيط إلى الخليج في ناسها نساء ورجال ا وأطفالا. هم أمل الأمة كما هم ثروتها، وتحرير هؤلاء الناس من الحرمان بجميع أشكاله، وتوسيع خياراتهم، لابد وأن يكونا محور عملية التنمية في البلدان العربية))(ص-5).تنمية صميمية، بهدف :((تنمية الناس،ومن أجل الناس، ومن قبل الناس))(ص-8) وليست سياسيوية دعائية.
بعد ذلك،تواترت المفاهيم المؤطِّرة للكتاب :الفرد، التربية، التعليم، الحضارة العربية الإسلامية،بعض نظريات التربية،وظائف التربية،نموذج من تصور التفكير العربي لإشكالية التربية والتعليم في الوطن العربي.
القصد، البحث في ماهية : لماذا لا يكف العرب عن إعادة إنتاج الانحطاط و مأسسة عقلهم المنفعل، وهم بصدد اقتلاع جذور عقلهم الفاعل؟استحضر الأستاذ الأعرجي بشكل سريع، ثلاثة ثغرات كبرى، تحتاج بالتأكيد إلى مشاريع نهضوية، تنظيرا وتفعيلا :((لم نأخذ بناصية العلم والتكنولوجيا منذ البداية، ولأننا لم نخلق قاعدة تربوية رصينة لأولادنا، وتمسكنا بقشور تراثنا وتركنا أصوله التي تدعو إلى أخذ الحكمة من أي وعاء خرجت))(ص-11).انطلاقا من الإشارة الأخيرة، توقف قليلا أحد فصول الكتاب،عند جلاء مرحلة نوعية،مضيئة ضمن صيرورة التاريخ العربي الإسلامي،أقصد هنا، عصر التدوين الذي ابتدأ على وجه التقريب، في منتصف القرن الثاني للهجرة، حيث وضعت باللغة العربية، أسس أغلب العلوم، جعلت منه بنية تحتية للحضارة العربية الإسلامية وفق تعبير الأستاذ الأعرجي، أو إطار اً مرجعيا حسب المفكر المرحوم عابد الجابري،في دراسته تكوين العقل العربي.
إنه عصر الترجمة، وتأسيس دار الحكمة، التي وضعت تحت تصرف المثقفين وطلاب العلم، التراث الهليني الكلاسيكي.أيضا، ازدهرت حياة عقلانية،تحولت معها رؤية الكون، أفرزت بين طياتها أعلاما فكرية بارزة، ك : الكندي، الفارابي، ابن سينا، الجاحظ، البيروني،إخوان الصفا، ابن رشد….حقبة، مميزة بممارساتها العلمية وفضاءاتها،كما تعددت وتنوعت قنواتها التربوية، وكأن الأمر تعلق بمشروع معرفي لتطوير المجتمع، انكب عليه الكل : ((وكان نشاط المسلمين في ذلك يسترعي الأنظار ويستخرج العجب،وليس هناك من نشاط يشبهه إلا نشاط العرب في فتوح البلدان،وقد نظم العلماء أنفسهم فرقا كفرق الجيش، كل فرقة تغزو الجهل أو الفوضى في ناحيتها حتى تخضعها لنظامها.ففرقة للغة، وفرقة للحديث، وفرقة للنحو، وفرقة للكلام، وفرقة للرياضيات، وهكذا، وهم يتسابقون في الغزو والانتصار وتدوين العلم وتنظيمه تسابق قبائل العرب في الفتوح والغزوات، كل قبيلة تود أن تكون السابقة في الميدان. ووجد في ساحة الميدان العلمي قواد بارزون يتنافسون في الابتكار ،فإذا فاز أبو حنيفة بوضع الفقه، ثارت حماسة الخليل بن أحمد فيضع العروض ويرسم المنهج لمعجم اللغة))(ص-43).
تراث هائل،خلّد أمكنة وعقولا ووقائع ومواقف وسلوكات : الكتاتيب،المساجد،مجالس المناظرة،المكتبات والمدارس.مساجد، الكوفة والبصرة والحرم المكي والمدني ومسجد عمرو بن العاص في مصر ثم المنصور في بغداد. أفق عقلاني،صار سياقا معتادا،جراء أدبيات وأخلاقيات فلسفة التناظر،التي كرسها العلماء داخل دور الأثرياء وقصور الخلفاء والأمراء والوزراء،بخصوص إشكاليات عقائدية وفلسفية ونحوية وبلاغية وشعرية :المناظرات بين أهل الرأي والحديث، البصريين والكوفيين،العراقيين والشاميين والمصريين،سيبويه والكسائي،الأصمعي والكسائي،اليزيدي والكسائي،أصحاب مالك وأبي حنيفة،إلخ. أما أشهر المدارس التعليمية، فيجب ذكر: المدرسة النظامية، مدرسة مشهد أبي حنيفة،المدرسة التاجية، مدرسة الشيخ عبد القادر الكيلاني، المدرسة المستنصرية.
إذن، من أجل تكريس وعي نهضوي، وبناء صرح العقل الفاعل في قلب المنظومة العربية،ينبغي حتما،إعادة التفكير جديا وجذريا في مرتكزات التربية التي تقطع نهائيا مع مجرد الهاجس الفطري البيولوجي الغريزي لإنجاب أطفال، الحاضر حاليا عند العرب،كي نــتسامى صوب مدارج الهاجس الأنطولوجي-المعرفي-الإتيقي، ويعثر كل واحد منا عن جواب مقنع بخصوص التساؤل التالي: ما غاية إخراج طفل من أحشائي؟ يقول الأستاذ الأعرجي،مستطردا:((إن معظم الناس المتعطشين لإنجاب الأولاد، أو تبنيهم، ينذر أن يفكرو ا بمدى أهمية هذا الحدث أو الفعل، وخطورته ليس على حاضر الأسرة ومستقبلها فحسب، بل على مستقبل المجتمع الذي يعيشون فيه بأسره، ومن باب أولى على الولد نفسه.نعم، يفكرون غالبا بسعادتهم به، ومتعتهم العظيمة بوجوده، وربما يفكرون بعد ذلك بمستقبله ودراسته ومهنته، وكيف يوفرون له الحياة الكريمة.ولكن يظل جانب آخر بالغ الأهمية وشديد الخطر،لا أدري أن أحد فكر فيه بعمق، وهو أنهم يتحكمون بمصير كائن بشري، شكل فعلهم الغريزي، المستلذ والجنسي البحث، عاملا ً حاسماً في خلقه، دونما إرادته))(ص-68).فمسؤولية منح كائن ما، الحياة، تبقى عظيمة جدا، عظم المتن الذي خلّفه الفلاسفة والعلماء،وهم يبحثون بحكمة وتمعن عميقين، عن النظرية التربوية الأنجع،لتأهيل الطفل كي يستحق حقا إنسانيته.
يصعب حقيقة، اختزال غنى الفكر التربوي، في تأويلات معينة، لكنها عموما تصب عند أطروحة مشتركة، مفادها أن : التربية سواء كانت رسمية أو غير رسمية، تتوخى أساسا من خلال بنيتها اللاشعورية، تذويب الفرد في الجماعة.أي حسب تعبير الأستاذ الأعرجي،الانحياز الضمني لمنطق العقل المنفعل أو العقل الاجتماعي، ولا ينجح في تكسير هذه القاعدة، إلا تلك الذوات الاستثنائية والعقول الجبارة، التي تنهض بمجتمعاتها وتصنع لها تاريخا خاصا :((1-في جميع المجتمعات هناك صراع دائم بين العقل الفاعل والعقل المنفعل، ما قد يؤدي إلى تعديل العقل المجتمعي أو تغييره، ولاسيما في المجتمعات النامية، وفي مجتمعاتنا العربية بوجه خاص2.-في المجتمعات المتخلفة أو النامية، غالبا ما يصعب أو يتعذر تعديل العقل المجتمعي، ناهيك عن تغييره، لأن العقل المنفعل بالعقل المجتمعي يرقى دائما على العقل الفاعل ويبزه في تلك المجتمعات3.-يتوقف تقدم المجتمع على مدى تغلب مفاهيم العقل الفاعل على مفاهيم العقل المنفعل بالعقل المجتمعي السائد.ويحدثنا التاريخ،كما تعلمون،عن هذا الصراع الذي بدأ منذ فجر التاريخ المعروف.مثلا حوكم سقراط وحكم عليه بالموت لأنه كان يحمل عقلا فاعلا تمرد على العقل المجتمعي السائد… 4-وإذا تــتـبعنا النهضة الأوروبية منذ مطالعها في القرون من الثالث عشر إلى السابع عشر فالثامن عشر، نلاحظ أنها قامت، كما تعلمون على أكتاف نخبة من المفكرين والعلماء الفاتحين الذين يتحلون بعقل فاعل… 5- أن جميع المجتمعات مرت بفترة تكبح فيه العقل الفاعل الذي قد يظهر لدى الأفراد المتميزين بذكائهم، الذين فطنوا إلى أن كثيرا من المعتقدات والمسلمات السائدة والقابعة في ”العقل المجتمعي”، غير صالحة لمجتمعهم بل بعضها مدمر له. وهذا ما يحدث اليوم في معظم البلدان العربية))(ص-82/81)
إجمالا، يكمن الخلاص في :
بناء وتوطيد مشاريع مجتمعية قائمة على العلم والمعرفة، متسامية بالعقول الفاعلة حد السماء.
1456 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع