د.محمد عياش الكبيسي
في المظاهرات المستمرة الرافضة للانقلاب تخرج المرأة المحجبة حجابا إسلاميا كاملا مع جارتها وصديقتها المتبرجة، وأصوات الخطباء العلمانيين والقوميين ليست بأقل من أصوات زملائهم الإسلاميين، حزب الشعب الجمهوري وهو الوريث المؤتمن على المبادئ الأتاتوركية يقيم مهرجاناته الحماسية الحاشدة، ولا تعكر مزاجه تكبيرات المساجد المتعالية في الفضاء، هناك وفي منطقة أبعد ما تكون عن التدين دهشت حينما سمعت أحدهم يشير عليهم بالصمت احتراما للأذان فصمتوا جميعا!
لا أدري بالنسبة للمثقف العربي كيف يقرأ هذه الصورة؟ وهو الذي اعتاد أن يفسر كل شيء بالمنظور الأيديولوجي القاتم، وأن يصنف الناس تصنيفا واحدا وبمعيار واحد فقط (الحق راية واحدة، والكفر ملة واحدة)، وفق هذه الثقافة ربما سينظر إلى الحالة التركية على أنها نوع من الازدواجية والنفاق، وتمييع للثوابت الدينية أو الوطنية، وقد قرأت لمعلقين عرب لعناتهم المتتالية على القوميين والعلمانيين والليبراليين الأتراك ظنا منهم أنهم هم الذين قاموا بالانقلاب! هكذا، لأنهم ببساطة لا يستطيعون أن يقرؤوا خارطة الصراع إلا بهذا المنظار.
صورة أخرى غير مألوفة بالنسبة لنا؛ أن كثيرا من العسكريين المشاركين بالانقلاب كانوا يحجمون عن مواجهة الناس، وبعضهم يتردد ولا يدري ما يفعل! حتى تمكن بعض المتظاهرين من الصعود على دباباتهم ومدرعاتهم وإنزالهم منها دون مقاومة، في ميدان تقسيم الشهير كانت عناصر الشرطة المدافعين عن الشرعية يقفون على أمتار من الانقلابيين، وكانوا كأنهم يتحاورون معهم وبمشاركة بعض المتظاهرين أيضا! ولم يعكر صفو هذا الحوار إلا إطلاقات تحذيرية في الهواء من أحد الجنود والتي كانت محل استهجان واستغراب، يمكن القول أن نسبة الذين ارتكبوا جرائم قتل متعمد قليلة جدا قياسا بحجم المشاركين في الانقلاب، وكان أبشعها بلا شك القصف المتعمد على مبنى البرلمان، والذي يؤكد وجود نزعة إجرامية وعدوانية مشبوهة لدى قادة الانقلاب، أما الجيش بشكل عام وحتى كثير من المشاركين فقد كان لهم موقف آخر.
امرأة عجوز كانت تخاطب الجنود (ارجعوا إلى ثكناتكم، مكانكم ليس هنا)، هذه العجوز لخصت العقيدة التي ينبغي أن تؤسس عليها الجيوش، فالجيش حارس، والحارس مزود بما يحتاجه من سلاح وعتاد من مال الناس ورزق أطفالهم، ليحميهم ويدفع عنهم، فكيف ينقلب عليهم ويوجه هذا السلاح إليهم؟ هكذا وبخ بعض الجنود على فعلتهم؛ كيف ستنظرون في وجوه الناس؟ ماذا ستقولون لهم؟ فالتحاكم دائما إلى منظومة القيم الراسخة في ثقافتهم وأسلوب حياتهم.
لقد كان باستطاعة الناس أن يهتفوا (بالروح بالدم نفديك أردوغان) ثم يتخلوا عنه في ساعة العسرة، وكان باستطاعة الجند أن يستعرضوا عضلاتهم أمام البنات والأمهات وأن يجربوا سلاحهم في صدور الأطفال والعجائز.
لقد كان الأتاتوركيون والملحدون واللادينيون أكثر احتراما للمساجد وأهلها من جنود المرجعيات الدينية.
وقد كان الجيش التركي أكثر غيرة ومروءة على حرائر تركيا من جيوشنا العربية.
إننا نقول هذا ليس لأننا نعول على الأتراك في حل مشكلاتنا، فهذا أمر غير متوقع وفق السياسة التركية المنكفئة على ذاتها والتي تعطي الأولوية للداخل وليس للخارج، وإنما لتشخيص معضلتنا وفحص منظومتنا القيمية التي أفرزت كل هذا الشذوذ والتخلف.
1080 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع