نظرة على تطور النظم السياسية في العراق القديم

                                      

                      حامد خيري الحيدر

حدثت ثورة الاستيطان المدني في وادي الرافدين عند منتصف الالف الرابع ق.م، فمثلت تحولاً حضارياً هاماً في سلسلة التطور الاجتماعي للمجتمعات البشرية، أنتقل خلاله الانسان من الحياه القروية الى المدنية، وتعتبر مدينة الوركاء أول من شهدت ذلك التحول الكبير الذي شمل فيما بعد باقي مدن أرض الرافدين الاخرى.

وقد صاحب ذلك التطور تغير الكثير من النظم والمفاهيم والتقاليد السائدة الموروثة عن الحياة السابقة، منها نظم إدارة تلك المجتمعات البشرية الجديدة، فأخذ شكل تلك الادارات بالوضوح في نهاية الالف الرابع  ومطلع الالف الثالث ق.م  حيث تحولت التجمعات القروية القديمة الى دويلات صغيرة، لكل منها حدودها وإدارتها الخاصة بها ومعبودها القومي وجيشها الحامي واقتصادها الخاص. لقد كان للظروف الطبيعة القاسية التي عاشتها تلك المدن مثل أخطار الفيضانات المتكررة أو شحة الامطار وأتشار الاوبئة وأيضاً تعرضها الى الغزوات الخارجية، وغيرها من الاسباب قد أوجبت قيام تلك الادارات لتجمع الجهود وتنسيقها وتوجيهها من أجل خدمة الجماعة ومجابهة تلك الظروف الطارئة فنشأت بذلك أولى الحكومات المعروفة آنذاك.
كان المعبد هو الموجه لدفة الحياة في تلك المدن في بداية تكوينها والمُخطط والمُنظم الاقتصادي لها، حيث كان يشرف على تنظيم الزراعة وخطط الارواء وتنظيم التجارة والاشراف على المهن والحرف اليدوية في المشاغل وايضاً حل المشاكل والنزاعات التي قد تنشأ بين أبناء المدينة. لذلك كان الكاهن الأعلى والمسمى بالسومرية (أين)  أي (السيد) هو الشخصية الأولى في تلك الحكومة الدينية، علماً أن هذه الكلمة لازالت متداولة حتى وقتنا الحاضر تطلق على الشخوص كبار المنزلة (عين من الأعيان)، وكان يجمع بين سلطتين، السلطة الدينية  باعتباره الكاهن الأعلى حيث يمارس دوره الكهنوتي في أجراء الطقوس الدينية الدورية داخل المعبد وخلال الأعياد والمناسبات الرسمية، وبنفس الوقت يترأس سلطة أدارة مجريات الحياة داخل حدود مدينته وتنظيم حياة سكانها.... ولا يُعرف تماماً فيما إذا كان ذلك الكاهن يتولى منصبه عن طريق الوراثة أم عن طريق الأنتخاب من قِبل بقية الكهنة، او لتميزهُ عنهم بفارق العمر أو تدرجهُ الديني.
مع تطور الحياة وتعدد مسؤوليات الكاهن الاعلى الدنيوية وتشعبها، صار من الصعب عليه الالتزام بواجباتهِ، فحدث في حدود 2800 ق.م نوع من الانفصال بين سلطتيه الدينية والسياسية الادارية فاخذ كهنة آخرون يحلون محله للقيام  بمهامه الدينية، ليتفرغ هو بشكل أكبر لمهمة أدارة المدينة ورعاية شؤون سكانها، لكنه ظل يحتفظ بصفتهِ الكهنوتية العليا في الاحتفالات الدينية خاصةً أعياد راُس السنة، وسُميت هذه الشخصية الجديدة بالسومرية (أينسي) أي  (الامير).... أضافة الى سلطة المعبد الدينية والامير الحاكم فقد وجد خلال تلك الفترة نوع من النظام الديموقراطي البدائي، يتمثل بسلطة برلمانية تعتبر الأولى من نوعها  في التاريخ، فكانت كل مدينة تدار من قبل مجلسين الاول يضم الشيوخ وكبار السن (الحكماء)، والثاني يضم الرجال القادرين على حمل السلاح (الشباب).. اي أنهما يمثلان اهم عنصرين في المجتمع  (الخبرة والقوة). كان المجلسان يناقشان جميع القضايا العامة التي تخص المدينة ويتخذان القرارات المناسبة  بشأنها بالأخص قرارات الحرب، ثم يعطون توجيهاتهم الى الامير ليقوم بتنفيذها..... وهناك عدة نصوص مسمارية توضح او تعطي اشارات عن عمل هذين المجلسين، لعل أهمها النص المسمى (قصة كًلكًامش وحاكم أكًا) الذي يتطرق لواقعة  تدور احداثها في مدينة  الوركاء تتمحور تفاصيلها بأعلان حالة حرب مع مدينة (أكًا)، ويصّور النقاشات الحادة  بين المجلسين لاًتخاذ قرار الحرب أم السلم، الذي أنتهى في النهاية لصالح مجلس الشباب الذي كان يريد الحرب، وبالفعل أعلنت وأعطيت الاوامر الى الامير (كًلكًامش) ليقود الجيش ضد المدينة  المعادية... لكن بنفس الوقت لم توضح تلك النصوص كم كان عدد أعضاء تلك المجالس أو طريقة اختيارهم لعضويتها.. لكنه يرجح انهم كانوا ممثلين عن الأسر والعوائل التي كان يتكون منها مجتمع المدينة، على اعتبار أن المدن في بدايات نشأتها لازلت تعتمد النظام العائلي القبلي الموروث عن الكيان القروي السابق في هيكل بنائها الاجتماعي.   
وفي حالات الطوارئ والظروف الاستثنائية مثل نشوب الحروب كما في المثال السابق أو الكوارث الطبيعية كان المجلسان يمنحان الامير صلاحيات أستثنائية مطلقة لحكم المدينة دون الرجوع اليهما لأخذ موافقتيهما، لتمكينهِ  من اتخاذ القرارات السريعة المناسبة خلال تلك الظروف على ان ُتسترجع هذه الصلاحيات بعد زوال مبررات منحها ليرجع الامير الي وضعهِ السابق بسلطته المُقيدة بقرارات المجلسين... وقد سميت الشخصية الجديدة صاحبة السلطة الاستثنائية بالسومرية (لوكًال) وتعني الرجل العظيم أي الملك وبالأكدية (شار)، وكانت هذه بداية ظهور الملكية بمعناها المعروف في وادي الرافدين وذلك في حدود 2600 ق.م. ثم حدث ان الملوك بمرور الزمن  واستمرار حالات الطوارئ لفترات طويلة تعاظمت قوتهم  العسكرية والسياسية، فاخذ الملك يحتفظ لنفسهِ بالصلاحيات الممنوحة له حتى بعد  زوال ظروفها، بل قام  تدريجياً بتقليص نفوذ المجلسين ليجعلهما تابعين له مؤيدين لقراراته وطبيعة حكمه الجديد جاعلاً من  وجودهما شكلياً.. وهكذا تم تحول النظام السياسي من الديموقراطية الى الملكية التسلطية، وقد ظلت بقايا ذلك النظام الديموقراطي حتى بعد سيادة الملكية متمثلة بمجالس المدن التي كانت تختص بالنظر في القضايا العامة التي يحيلها اليها الملك والتي غالباً ما تكون قضائية  والتي استمرت الى آخر عهود  وادي الرافدين.
كان  لأستقرار الاوضاع السياسية فرصة لبعض الملوك المتعاظمة قوتهم أن يبسطوا نفذهم على بقية دويلات المدن الاخرى وتوسيع رقعة سيطرتهم على الاراضي الزراعية ومصادر المياه ثم احتلال المزيد من الأقاليم لتأمين طرق المواصلات المؤدية الى مناطق المواد الخام في البلاد البعيدة لسد الاحتياجات المتنامية للدولة الجديدة وتقويتها اقتصادياً، ليتم فيما بعد توحيد تلك الدويلات والأقاليم في مملكة واحدة ذات سلطة مركزية موحدة امتدت سلطتها الى خارج حدود وادي الرافدين. كان (لوكال زاكيزي) ملك مدينة (اوما) 2380 ق.م اول من بدأ بهذا المخطط تلاه (سرجون الأكدي) 2371 ق.م، الذي اسس أول امبراطورية في التاريخ تمتد من الخليج العربي (البحر السفلي) وحتى البحر المتوسط (البحر العلوي)، ليتحول وخلفاؤهُ الى اباطرة يحكمون منطقة واسعة من الشرق الادنى القديم، وقد رافق هذا التوسع السياسي ظهور مسميات والقاب جديدة تقلدها هؤلاء الملوك تبين مدى سطوتهم وعظم الرقعة الجغرافية التي غدت تحت نفوذهم مثل (شار مات شوميرم أو أكيدم/ ملك بلاد سومر وأكد)، (شار كيبرات أربايم/ ملك الجهات الاربعة)، (شار كلي شري/ملك كل الملوك). ليستمر بعدها هاجس التوسع الامبراطوري لدى جميع السلالات التي تعاقبت على حكم وادي الرافدين  المتمثلة  في (اور الثالثة)، (حمورابي)، (الآشورية)، (الكلدية). حتى انقلبت الاوضاع كلياً بسقوط بابل سنة 539 ق.م ليصبح وادي الرافدين جزء من املاك الامبراطورية الفارسية الأخمينية.
لقد أضاف الملوك وهم يتحولون الى السلطة المطلقة لذواتهم صفة القدسية، معتمدين بذلك على الخلفية الدينية لمنصبهم (الكاهن الاعلى). وقد اشارت النصوص المسمارية الى ان الالهة ما خلقت البشر الا  لخدمتها والاشراف على املاكها في الارض فاختارت احدهم (الملك) ليكون ممثلاً لها ونائباً عنها في قيادة الناس، فتسلمه شارات الملوكية من السماء دلالةً على ان الملك معين من قبل الالهة وله حقاً الاهياً  لا يجوز لاحد المساس به سوى الالهة نفسها وبالتالي  فان جميع الاوامر والتشريعات التي يصدرها انما تتم بوحي من الالهة لذا فهي واجبة التنفيذ.... وقد ساعد هذا الاعتقاد  على بقاء الملوك  في حكمهم فترات زمنية  طويلة.... لكن بالرغم من هالة القدسية والتعظيم التي اضفتها المعتقدات العراقية القديمة على شخص الملك فأن ملوك وادي الرافدين لم يصلوا الى درجة التأليه كما هو الحال عند فراعنة وادي النيل، حيث ان الملك بقى من البشر يحيى حياةً بشرية غير مخلدة ويمارس طقوسه الدينية كأنسان عادي، كما تذكر النصوص الملكية الاعمال الدينية التي يقوم بها الملك ليكسب رضا الآلهة، كذلك تصورهم المنحوتات والمسلات وهم يحملون على رؤوسهم سلة البناء دلالةً على مشاركتهم في بناء المعابد والمباني الدينية، أو يظهرون في اخرى واقفين  بهيئة الخشوع امام الالهة يقدمون لها القرابين. وللتاُكيد ايضاً على هذا الخضوع فقد كانت احدى مراسيم عيد راُس السنة المسمى (أكيتو) ان يقف الملك امام تمثال الاله القومي خالعاً جميع شاراته الملكية ليضعها امامه متعهداً له  بالولاء وتنفيذ جميع رغباته، عندها تعاد له الشارات مجدداً فيجدد عرشه سنة أخرى جديدة.... بأستثناء حالتين فقط ظهرت اشارات غير واضحة أو مؤكدة أختلف الباحثون في تفسيرها لأدعاء الملوك الالوهية أو هكذا يُعتقد، الاولى كانت مع (نرام سن) الملك الرابع في السلالة الاكدية 2371_2230 ق.م الذي ظهر في مسلتهِ المعروفة باسم (مسلة النصر) ومنحوتات اخرى مرتدياً الخوذة المقرنة التي أقتصر أعتمارها على الآلهة دون غيرهم، كما ان اسمه كان يكتب في النصوص الملكية مسبوقاً بعلامة النجمة التي توضع عادةً قبل أسماء الآلهة للدلالة عليها... اما الحالة الثانية فكانت مع (شولكًي) الملك السومري الثاني في سلالة اور الثالثة 2113_2006 ق.م  حيث  ظهر أسمه في الكتابات ايضاً مسبوقاً بعلامة النجمة .. لكن يبقى هذين المثالين استثنائين وشاذين عن معتقدات وادي الرافدين وخطها الفلسفي العام.
كانت طبيعة اختيار شخص الحاكم منذ انفصال السلطتين الدينية عن المدنية في مطلع الالف الثالث ق.م كما أسلف يتم بشكل وراثي داخل العائلة الحاكمة. ويكون وريث المُلك اما أحد الاخوان أو الأبناء أو الأحفاد.. وقد أستمر هذا التقليد مُتبعاً الى آخر العهود السياسية لبلاد وادي الرافدين القديمة.... وكان اختيار ولي العهد يعتبر حقاً شرعياً خاصاً للملك يتم الاعلان عنه في حفل كبير يضم حكام الاقاليم والمقاطعات والمدن، وكذلك قادة الجيش وجال البلاط، يتعهد به هؤلاء جميعاً بالطاعة والولاء للملك الجديد.... هذا طبعاً أذا سارت الامور بشكل طبيعي بروتوكولي سلس.. وما عدا ذلك فقد حدثت العديد من الانقلابات العسكرية تم خلالها تغير السلطات السياسية بأخرى، وغالباً ما كانت تلك الانقلابات دموية الطابع يعقبها التنكيل برموز السلطة السابقة... كما يبدو ذلك واضحاً عند تولي الملك سرجون الأكدي العرش عام 2371 ق.م، وكذلك المؤامرات العديدة التي حدثت في زمن الامبراطورية الآشورية الحديثة عند مطلع الالف الاول ق.م.... وقد ذكرت أدبيات سالبي العروش هؤلاء لغرض شرعنة حكمهم الجديد، أن الآلهة هي التي اختارتهم بعد فشل الحكام السابقين بتنفيذ رغباتها.... كما كان تغير الانظمة الحاكمة يتم كذلك عن طريق الحروب والاحتلال الأجنبي لأرض الرافدين.. كما حصل هذا مرات عديدة، على سبيل المثال عند سقوط حكم الامبراطورية الأكدية على يد القبائل (الكًوتية) البربرية عام 2230 ق.م، او لدى احتلال مدينة (أور) من قبل (العيلاميين) عام 2006 ق.م، وسقوط سلالتها الثالثة، وكذلك سقوط مدينة (بابل) على يد (الحثيين) عام 1595، ثم اسقاطها للمرة الثانية عام 539 ق.م من قبل الفرس (الأخمينين)..... ومن المهم ذكره في هذا الجانب كذلك هو دور الشعوب الطامحة للحرية في عملية تغيير الانظمة الحاكمة.... وهذا ما بدا واضحاً في عملية التغيير السياسي الذي حدث في دويلة (لكًش) السومرية عام 2400 ق.م. والذي كان أثر ثورة جماهيرية عارمة تعتبر الأولى من نوعها في تاريخ البشرية... اطاحت بالسلطة السابقة الفاسدة لتتولى الحكم أخرى جديدة رموزها وأهدافها من الشعب واليه.
لقد ساعد الملك في حكمه العديد من الشخصيات والموظفين الحكوميين الذين الفوا جهازا أدارياً متكاملاً  تنفذ أوامره وقراراته وتساعده في اتخاذ الصحيح والمناسب منها.. مثل الوزراء، المستشارين، قادة الجيش، كبار الكهنة وقراء الفأل، الكتبة والمحاسبين الماليين، مسؤولي الخزائن، مشرفي الأقطاعات الزراعية، متابعي المشاغل الصناعية، السفراء لدى الدول الأخرى ... كما عمل في خدمة القصر العديد من الموظفين.. مثل الحجاب، الطباخين، السقاة، الموسيقيين، مسؤولي العبيد، الخدم... رغم ما كانت توحي قوة السلطة المركزية للملك في السيطرة على البلاد، (وقد كانت كذلك بالفعل) لكن كان النظام المتبع في أدارة الدولة والذي أصبح بمثابة عرفاً سياسياً متبعاً منذ عهد امبراطورية أور الثالثة 2113_2006 وحتى العهود اللاحقة خلال الالفين الثاني والأول ق.م.. هو اللامركزية  الادارية.. حيث كان يتم تقسيم الدولة الى عدد من الاقاليم، تقسم بدورها الى وحدات أصغر هي المقاطعات ثم المدن ثم القرى... وكان حاكم أو رئيس كل من هذه الوحدات الادارية مسؤولاً أمام الحاكم الأكبر منصباً، من ناحية الامور التي تخص وحدته الادارية فيما يخص جمع الضرائب وتجنيد الشباب للجيوش، وكذلك في اقامة المشاريع التنموية كحفر الجداول والمبازل واستصلاح الاراضي الزراعي وكذلك متابعة أمور القضاء... ليكون كبار حكام الاقاليم مسؤولين ومحاسبين بشكل مباشر أم شخص الملك.. وبهذه الطريقة تمت السيطرة الى حدٍ بعيد على الدولة المترامية الاطراف، ساعد في ذلك أنشاء جهاز بريدي متطور وسريع لإيصال الأوامر والمعلومات بين الحكام والبلاط الملكي، وهذا ما حققته سياسة الامبراطورية الاشورية الحديثة بنجاح منقطع النظير.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1644 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع