هارون محمد
يخطئ زميلنا الكاتب والأكاديمي القطري، محمد المسفر، إذا اعتقد أن كيانات مصنّعة على عجل، مثل مؤتمر باريس “العراقي” الـذي كان واحدا من المشاركين فيه، يمكن أن تملأ فراغا سياسيا حصل في بلد مازال يشهد اضطرابا وأزمات متلاحقة كالعراق، الذي يعيش تحت وطأة ظروف بالغة التعقيد، تستدعي تعبئة كل الجهود الوطنية، وحشد الطاقات الشعبية، وطيّ صفحات الماضي القريب، رغم مراراتها لتفادي آثار وخيمة باتت تتهدد حاضر البلاد ومستقبلها.
وقد نتفهم سعي الأخ القطري لتسويق المؤتمر العراقي الذي عقد على ضفاف نهر السين الباريسي وسط أجواء ساحرة قد ترفع من مستويات الزخم الثوري لدى المشاركين فيه، وتزيد معدلات اندفاعهم الوطني لتعديل مسار العملية السياسية الفاسدة في العراق من “داخلها” كما يتمنون، ولا نريد التشكيك بنوايا الشقيقة قطر لـ“توحيد” القوى العراقية، بكل نزاهة وشفافية بعيدا عن المحاور والتكتلات الشللية، ولكن ليس من حق الدكتور المسفر أن يتحدث بسخرية عن أحزاب وتيارات سياسية وطنية وقومية، بعضها مضى على وجوده في الساحة العراقية قرابة قرن مثل التيار القومي العربي، وأكثر من ثمانين عاما كالحزب الشيوعي، وحوالي سبعين عاما كما حزب البعث العربي الاشتراكي، ويقول عنها أنها انتهت، ولا يلتفت إلى ما تركته هذه الأحزاب والتيارات من أفكار ومبادئ ومفاهيم وأنصار ومؤيدين وحتى معجبين، والمفارقة أنه، وهو الباحث السياسي والأستاذ الجامعي، يرشح كيانا خرج توّا من بطن أمه في العاصمة الفرنسية ولـم يبلغ سن الفطـام، لملء الفـراغ السياسي الـذي خلفه “انتهاء” هذه القوى، ولم ينتبه أيضا إلى أن الأحزاب ضاربة الجذور في العمق والتاريخ العراقيين، ولها تراث وتجارب وأدوار ومسارات -اتفقنا معها أو اختلفنا- لا يمكن الشطب عليها بقرار أصدره حاكم أميركي استعماري، أو قانون اجتثاث قسري اتخذته زمرة عميلة جاء أفرادها على ظهور دبابات الاحتلال أو تعلقوا بها، ولا يمكن أيضا أن نتفق معه وهو يتكهن بأن يحل “المشروع الوطني العراقي” مكانها ويصبح بديلا لها وهو مازال في القماط ويتنفس بصعوبة هواء باريس المنعش للأعصاب المتوترة.
وعبر التاريخ العراقي الحديث قرأنا واطلعنا وعايشنا، أحزابا وتيارات حُظر نشاطها وأُعدم قادتها وصفيت كوادرها واعتقـل أعضاؤها، ولكنهـا سرعـان ما تنهض من جديد وتلتقط أنفاسها عندما تسنح أول فرصة لها وتستعيد عافيتها، عند تبدل الظروف السياسية والسلطوية، المتغيرة دائما والمتحركة عادة، والمجال لا يسع هنا للحديث عن تفاصيل ما جرى للحركات والأحزاب القومية واليسارية والبعثية التي تعرضت إلى اضطهاد وقمع وتصفيات.
وأفضل الأزمنة للأحزاب الوطنية والقومية التي توهم السيد المسفر بأنها انتهت وتركت فراغا سيملأه مؤتمر باريس (العراقي) كما توقع، عندما تخضع بلدان هذه الأحزاب إلى احتلال أو انتداب أجنبيين وتُنصّب فيها، هيئات وسلطات حكومية فاقدة للشرعية الوطنية تعتمد نظاما مشوها في تكوينه ومسيرته وتنخرط في عملية سياسية عرجاء تقوم على المحاصصات الطائفية والعرقية والمناطقية، فمثل هذه السياسات والإجراءات تقوّي الأحزاب المعارضة وتمنحها فرصا مثالية لمراجعة مواقفها السابقة ومعالجة أخطائها ونقد سياساتها وتجديد هيكليتها للانطلاق نحو آفاق جديدة من النضال والعمل، موظفة النقمة الشعبية على فساد الطبقة الحاكمة وتنافس أقطابها على مصالحهم الذاتية، إضافة إلى فقدان الأمن وغياب القانون وانهيار الخدمات وتدني المستوى الاقتصادي والمعيشي للمواطنين، وجميع هذه المشكلات والأزمات صبت -كما أثبتت الوقائع على الأرض- في صالح القوى والحركات والتيارات المناهضة لمرحلة ما بعد صدام حسين الذي بات الحنين إلى عهده يشد قطاعات واسعة من العراقيين، عفويا أو مقصودا.
لقد أثبت مؤتمر باريس أنه أحادي التشكيل وقصير النظر وفارغ المضمون، اقتصر على جماعة واحدة جديدة على السـاحة السياسيـة، وهـدف إلى تلميع صـورة راعيه وكأنـه الزعيم السياسي الوحيد القادر على إنقاذ العراق، رغم أنه رجل لا يملك قدرا بسيطا من مواصفات الزعامة، وسجله الوظيفي السابق في هيئة العلماء المسلمين التي انشق عنها أو فُصل منهـا لأسبـاب لا نريد الخوض فيها، لا يشجع على أن يكون في صدارة المشهد السياسي في العراق، لا الآن ولا مستقبلا، مهما تلقى تمـويلا أو دعما، لأنه، ببساطة، يفتقر إلى الخبرات السياسية ويحتاج إلى وقت طويل ليواكب الأحداث ويتابعها ويكوّن رؤية واضحة تقوده إلى التقييم الموضوعي لما يجري في العراق واختيار المواقف المناسبة بشأنها، لا أن يلجأ إلى شراء كتلة نيابية (جاهزة) ويسعى إلى استقطاب أعضائها خلال لقاءاته معهم في أربيل وجنيف طيلة الأشهر الخمسة الماضية، اعتقادا منه بأنه عبر هذه الكتلة الواهنة يستطيع تعديل أو تطوير العملية السياسية المتهرئة أصلا.
ولا يمكن أيضا أن نقتنع بطروحات الدكتور المسفر بأن البعث، كحزب وأفكار وجماهير، قد انتهى، وهو صاحب تراث سياسي متراكم وتجربتي حكم، الثانية تحققت فيها إنجازات لا يمكن إنكارها مع إخفاقات يجب الاعتراف بها، كما أن إسقاطه لم يأت عن طريق ثورة داخلية أو انقلاب عسكري محلي أو انتفاضة عراقية، وإنما بقرار أميركي وإسرائيلي وتوافق إيراني، مما أكسبه تعـاطفا من أطـراف وطنية وقومية بعضها كان معارضا له طيلة سنوات حكمه.
وعلى العموم نأمل أن تتحقق رغبة الدكتور محمد المسفر وتمنياته في أن يكون وليد باريس بديلا وطنيا ويملأ الفراغ الذي تركته أحزاب وقوى وطنية وقومية خرجت من حضن الوطن، اعتمدت على نفسها وموّلت أنشطتها ذاتيا ونجحت أو فشلت، دون أن تستعين بدولة شقيقة أو صديقة تنظم مؤتمراتها في عواصم المتعة والسياحة.
948 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع