كتبها أ. د . حسام داود خضر الإرْبِلِّي
بغداد{ زهرة المدائن على ما غنّتْها فيروز } بناها المنصور سنة 145هـ { أي قبل نحو ثلاثمئة وألف سنة من الآن } .
قال فيها العَكَوَّك ،علي بن جَبَلَة { ت213هـ} لمّا رحل عنها:[من السريع]
لَهْفي على بغدادَ مِنْ بلدةٍ كانت مِنَ الأسْقامِ لِيْ جُنَّهْ
كأنني عنــد فِـــــراقي لها آدمُ لمّا فارقَ الجَنَّـــــــــــهْ
{ديوان علي بن جبلة ، تحقيق زكي العاني 73 } والجُنَّة : السترة
وقال أبو اسحاق الزجّاج { ت 311هـ }:" بغداد حاضرة الدنيا ، وما عداها بادية ."
{ معجم البلدان : مادة بغداد }
وقال ابن زُرَيْق الكوفي الكاتب { ت بعد 325هـ } :[ من البسيط ]
ســافـرْتُ أبْغِي لبغـدادٍ وساكِنها مِثْلاً ، فحاولْتُ شيئاً دونه الياسُ
هيهاتَ ! { بغدادٌ } الدُّنيا بأجمعِها عندي ، وسكّانُ { بغدادٍ } همُ النـاسُ
{ يتيمة الدهر ، تحقيق د. مفيد قميحة 2 : 442 }
ولكن ناسُها الآنَ ، بعد مضي أربعٍ وعشرين ومئتين وألفِ سنة ، على وفاة العَكَوَّك ، لا يحزنون عليها ، مثلما كانوا يحزنون عليها سابقا ، بوصفها تَمْنَعُ الأسقام عنهم ... الآنَ بعد كلِّ تلك السنين ، يُفارقونها لأنها تنشر فيهم الأمراضَ ، وتطلق عليهم السمومَ ... والفرد منهم لمّا يفارقها لا يُفارقها كأنّه آدم يُفارق الجنّةَ ، إنّما يُفارقها كأنّه { مُطارَدٌ } يُفارق سجّانه الظالمين .
بغداد الآن ، ليست { حاضرة } كما كانت أيام أبي اسحاق الزجّاج ، قبل نحو ستٍ وعشرين ومئة وألف سنة .
بغداد الآنَ { باديةٌ } بثعابينَ سامةٍ ، وحشرات لادغة قاتلة ، وقطّاع طرق غير مُلثَّمين ، يقطعون الطرقاتِ على مُسْتَخْدِميها ، نهارًا جَهارًا .
بغداد الآنَ ، ليست كما رسمها ابنُ زُريق الكوفي الكاتب ، قبل نحو اثنتي عشرةَ ومئةٍ وألف سنة ، وعمارتها ليست كما كانت على ايامه : هي الدّنيا ، وغيرها خرائب ... وناسها ليسوا كناس وقته يترفلون في النعيم ، وغيرهم يتعذّبون في الجحيم ، حتّى إذا ذُكرَتْ بغدادُ ذُكِرَ الناس ، كأنّ الناسَ يُعْرَفُ بناس بغدادَ ، وكأنّ المدنَ تُعْرَفُ ببغداد .
ناسُها الآنَ عليلينَ ... تعبانينَ من التَّعّبِ والعَتَبِ والعَطَبِ والعَطَل ... قلقين على ابنائهم ، خائفين على غدهم ... مُحَاصَرين ، جائعين ، مُفْلِسين . يُفَكِّرِون بخِشاشِ الأرضِ حينًا وحينًا بما حُرِّم من حيوانها . أو ربما يفكّرون بالإقتلاع عن الجذور ، وتقبّل ضيم { المتحضّرين } الغربيين ، وسخرياتهم وتشفّيهم وإهاناتهم لأصولهم وعقائدهم ودينهم ودنياهم .
وربما يخطّطون لإنهاء حيواتهم على غير رغبة رسولهم المصطفى في حديثه الشريف : " الإنسانُ بناءُ اللهِ ، ملعونٌ مَنْ هَدَمَه ، ملعونٌ مَنْ أذَّاهُ ، ملعونُ مَنْ قتله . "
فَمَنِ الملعونُ في العراقِ حتّى تجدَ أغنى الأرضِ أفقرَها ، وأعذبَ الأمواهِ أملحَها ، وأسعَدَ المخلوقات أتعسَها ؟ !!
مَنِ الملعونُ مَنْ أنهَى عِزَّ العراقِ بِذُلٍّ إلى ذُلّ ؟ .
مَنْ جَرَحَ العراقَ ، ومَنْ يضمُدّه ؟
مَنْ يَسْتَجِبْ لنداء مَغْدُورة ِ العراقِ : وافارساه ؟
1079 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع