قراءة في فن الحروب المعاصرة ...تنظير الدكتور مهند العزاوي*
اطلقت قبل عامين تقريبا مصطلح ((الحرب الدافئة))[1] منظرا في فن الحرب المعاصرة لتوصيف سلسلة الحروب المتوالية التي نشهدها في مسرح الشرق الاوسط ومجاله الحيوي المتصدع, وبالرغم من ان البعض استغرب من التوصيف والمصطلح الا ان بمرور الوقت اكتسب المصطلح قيمته العملية والفكرية , بعد ان افضت الحقائق الوقائع الى توصيف هذه الحروب المختلفة كليا عن الحروب التي شهدها العالم في العقدين المنصرمين , ومن يكتب في فن الحرب اشخاص مسلحين بالخبرة والعلم وقد خاضو تجارب حربية متعددة يتم تسطيرها كسياقات ونظريات ومفاهيم ومصطلحات , ولعل قابلية التصور المنطقي تعطي زخما قويا للقائم بالتنظير ليصف الواقع الحربي بشكل منطقي وموضوعي , ولغرض بيان طبيعة الحرب الدافئة التي يخوضها العالم في الشرق الاوسط وتخومه الجغرافية ساكتب في سلسلة مقالات عن الاهداف والغايات التي ترتبط بالحرب الدافئة حتى يتم اصدارها في كتاب.
الحرب الدافئة
مصطلح الحرب الدافئة نظرته كمصطلح من الواقع السياسي والحربي الحالي قد تخطى قيم الحرب الباردة ومعاييرها المخابراتية ومخارجها المعتدلة بعض الشيئ الى الحرب الدافئة وهي ((الواقع الحربي المركب الذي يمتاز بسخونة مرتفعة تفوق الحرب الباردة بهمجية وتوحش تفوق الصدمة والرعب في الحرب النظامية , وتستخدم فيها المفاعيل الحربية الدولية الحاكمة قدرات القوة النظامية الساندة والأدوات المسلحة الغير متناظرة وان اختلفت مسمياتها وتعددت رايتها المزيفة لتبرر سياسة الوصول والتواجد الحربي من جهة والسياسي والاقتصادي من جهة اخرى , ويستخدم فيها السلاح بكافة انواعه , العتاد بكافة انواعه , المتفجرات , اجهزة الاتصالات , المستشارين , المتطوعين المتقاعدين من الشركات الامنية الخاصة كمدربين , الدروع الواقية , الروبوت الحديثة المتعدد الاغراض , الكلاب البوليسية , الحواسيب وشاشات العرض وكاميرات المراقبة , السيارات المصفحة , مراكز الدراسات , الصناعة الاعلامية بكافة عناصرها , صناعة الافكار المتطرفة والهدامة )) انه بالحقيقة سوق تجاري للحرب والأمن من جهة وأدوات تحقق متطلبات الحرب الدافئة التي لا تنطبق عليها القواعد الامرة في القانون الدولي للحرب .
مفاهيم مختلفة
لم تعد القيم الحربية التي تدرس في المعاهد والأكاديميات العسكرية المختصة تواكب بيئة حرب غير متوازية , خصوصا بعد اتساع ظاهرة الجيوش المبعثرة الغير حرفية , وبروز جيل الجيوش المرتزقة والبيارق المزيفة من المليشيات والتنظيمات الارهابية المتوحشة , وكذلك اندثار خطوط التماس الحربي , واندثار الحدود السياسية لدول عربية متعددة , وتلاشي مفهوم الردع العسكري المنظم وفق فلسفة توازن التوافق والاضداد , وكان المجتمع العسكري الدولي قد اعتنق في حقبة التسعينات عقيدة ((خصخصة الحرب والجيش الذكي)) الذي يعتمد على كثافة ودقة القوة النارية الجوية والأرضية والبحرية المتطورة , ومكننة الحرب , وتجزئة القدرة النووية الى اسلحة محدودة , ناهيك عن امتلاك الهيمنة الفضائية ضمن سياق الحرب الالكترومعلوماتية التي تستطيع من خلالها ان تمسح ساحة المعركة ومسرح العمليات بدقة متناهية, وقد افرزت هذه العقيدة جيوش بشرية ذات خبرة ومهنية سائبة اضطرت للعمل في مجال الامن وخصخصة الحروب والتنظيمات المسلحة المتطرفة.
الحرب الدافئة بين حربين
تعد الحرب ابرز ادوات السياسة الصلبة وباستخدام القوة الخشنة , ولعل قرار الحرب من اصعب القرارات عندما يكون هناك مسؤول يتخذ قرار الشروع بالحرب , لان شن الحرب امر متاح وسهل وايقافها امر صعب للغاية مهما كان شكل الاطراف , اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار ان الحرب صدام طاحن للقوة واستنزاف منظم للموارد وتخللها ضحايا بشرية قد يصعب احصائها , ناهيك عن الارتدادات المجتمعية والمتغيرات الجيوسياسية التي تطرا على الرقعة الحربية .
اضحت الحرب في عالمنا المعاصر مختلفة كثيرا عما سبق رغم استخدام بعض الاستراتيجيات العسكرية السابقة , ولعل مانشهده اليوم هو نتاج واضح لاستراتيجية خصخصة القوة والحرب مطلع التسعينات ودخول العامل المدني لهيكل القوة ومشاركته الحروب بمختلف مدياتها , وكذلك منهجية الجيش الصغير الذكي الذي اعتمد مطلع التسعينات للجيوش والذي افقد الجيوش الكتلة الحيوية البشرية المهنية الخبيرة واستعاض عنها بالادوات التكنلوجية المتطورة , ومن هذا المنحنى والانعطافة الاستراتيجية السياسية العسكرية
برزت عوامل ومقومات (الحرب الدافئة) التي تختلف في سياقاتها وامدها عن الحرب النظامية المعلنة والمحددة باهداف وخطوط تماس وجبهات وجيوش وفق نظام المعركة , بينما تعمتد الحرب الباردة على الحرب الشبحية وحرب المخابرات السرية وحرب الاقتصاد المضاد وخندقة المعسكرات السياسية , ومن هنا نجد ان حروبنا المعاصرة هلامية الوقت تفتقر للرؤيا الاستراتيجية والاطار السياسي الفاعل والدور الاممي القانوني وبلا شك انها تفتقر للحسم العسكري والسياسي , ويدور في فلك الحرب الدافئة دول ومنظمات وتنظيمات مسلحة وجيوش نظامية وشركات ساندة وكذلك عصابات الجريمة المنظمة التي تشغل المنطقة الرمادية في مشهد اللايقين المضلل والمعتمد في منهجية الاقتصاد الاسود الذي بات يجتاح الاقتصاد الرسمي العالمي وينهكه .
العراق حرب دافئة بنيران حارقة
يفتقر الكثير من الخبراء للقراة الواقعية والصحيحة للمشهد العراقي الساخن في احداثه والبارد في انهياره والدافئ في اداوته , لقد شكل العراق على الدوام وعبر التاريخ صمام الامان في الشرق الاوسط ودلالاته الاستراتيجية كثيرة , ولعل غزو العراق عام 2003 كسر اقفال الامان وفتح مسرح الارهاب من اوسع ابوابه بغض النظر عن هوية وشكل النظام الحاكم , ولم يكن قرار غزو العراق متسرعا او فوضويا كما يرى البعض بل انه قرار كارتل الحرب المتلاعب بالامن والسلم الدولي , ويصعب تشخيص هذا الكارتل الحربي بدقة ولكن الاصابع الخفية التي تتحكم برخ الشطرنج ذات اهداف متعددة , في نظرة سريعة للشرق الاوسط قبل 2003 ومابعده وفحص للمؤشرات الرقمية والبصمات النوعية نجد ان العراق هو المفتاح الاستراتيجي الذي تعمد صناع قرار الغزو استهدافه لبدء عصر الحرب الدافئة[2] التي تنتقل من بلد عربي لاخر وبشكل سريع وباحداث متتشابه بغية توسيع سوق (الحرب الدافئة) الذي يدر عوائد مالية خرافية تفوق عوائد الامن والسلم الدولي , وبنفس الوقت يحقق حزمة اهداف ثانوية تتسق بالاستراتيجية الدافئة في المنطقة .
العراق كان ولايزال مسرحا مزمنا للحرب الدافئة من خلال حزمة الحروب والحصار والغزو وتفكيك الدولة واستبدالها بنظام الطوائف والمليشيات الذي افرز خمس او ست موجات للتطرف الطائفي التي احرقت الكتلة الحيوية المجتمعية بعد عسكرة المجتمعات , وقضمت الجيوبولتيك العربي وبشكل مخيف ناهيك عن حروب المشاطئة للخليج العربي والتوغل الاقليمي الذي يرفع رايات الحرب المزمنة عبر ادوات مسلحة تحقق الوجود الذكي واحيانا الوجود المباشر كما في العراق وسوريا ولبنان واليمن وبلا شك اصبحت الحرب في العراق حرب مزمنة حرب رمال متحركة تفتقر للحسم واستعادة الامن والسلم فيه .
بعد انهيار صمام امان الشرق الاوسط ((العراق)) انتشرت الفوضى المسلحة وتناسلت المليشيات والتنظيمات الارهابية لتدشن مسرح (الحرب الدافئة) وبتكتيك (الحرب المركبة) من اوسع ابوابه خصوصا اذا علمنا ان هناك مايقارب 99 تنظيم ارهابي مسلح طائفي يدار عن بعد يشغل مسرح الحرب المركبة في رقع حمراء مختلفة غالبيتها في العالم العربي , ومن الملفت للنظر ان الجيوش الذكية لم تتمكن من تحقيق حسم ونصر حربي فعلي على الارض , بل ذهب كارتل الحرب الدولي لإشراك قطعات مجزئة لاسناد قوى لامتناظرة لتؤسس لمرحلة خطيرة جدا يصعب السيطرة عليها اسميتها "الحرب المركبة" وكتلتها الحيوية من المليشيات المختلفة والتشكيلات الغير نظامية التي ادخلت العراق وسوريا واليمن والمنطقة في اتون حرب طائفية اقليمية , ونزاعات لها اول وليس لها اخر , ولعل عامين من الحرب على داعش كانت تؤكد كل ما ذهبنا اليه من نظرية الحرب الدافئة التي اصبح العراق في عمق عاصفتها , ولنا مقالات اخرى تواكب فن الحرب المعاصر
*( خبير استراتيجي –عسكري سابق)
993 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع