بقلم/ حامد خيري الحيدر
ما أن أسدل الليل ستاره وأنكفأ الناس الى بيوتهم بعد يوم طويل من شقاء وتعب الحياة، حتى حمل (أيشومال) بتثاقل قيثارته العتيقة بأوتارها المهترئة وجرة نبيذه ليذهب صوب مكانه الاثير بجانب نخيلته الصغيرة في طارف مدينة (سبّار) بادئاً يوم عمله المعتاد حين يشع القمر بضيائه الجميل على العالم..
حيث تدب هناك في هذا الوقت من كل يوم حياة أخرى لا تمت بصلة لدنيا النهار الصاخبة وضجيجها، حياة عنوانها السكينة والهدوء.. تجملها ملتقيات العشاق وهم يتغنون بنجوى احلامهم وأماني عشقهم، ورموز حلاوتها قناديل ملونة تزيّن حانات جميلة مطلة على النهر، تبدأ باستقبال كل من يريد السفر بعقله الى عوالم الخيال ومسامرة شياطين الأوهام.. لتكون هذه السويعات كذلك ملاذاً للمتمردين على تقاليد جائرة مسخت انسانية مجتمعهم، والهاربين عن عيون المتطفلين الحاسدة، وكل من جعل الوحدة عنواناً لعيشه، من هائمين حائرين ببلوى زمانهم أو فارين من دوامة مشاكل شائكة استعصى على عقولهم حلها، الى آخرين يتمايلون بين بعض البغايا المنتشرات هنا وهناك بملابسهن الفاضحة لينتقوا من تستحق أن تشبع شهوة ليلهم، لا يُزاحمهن بأغرائهن سوى بعض المُخنثين الشواذ بعلاماتهم المميزة من أقراط تُثقل آذانهم أو أطواق عريضة تغطي أعناقهم محاولين خطف زبائنهن.. كل فرد في هذا العالم المتناقض له حكاية لا تماثل الاخرى، قد تتقارب في بعض جزئيات وتفترق في أخر، لكن رغم هذا يشاء القدر ليحتضن هذا المكان الغريب كل تلك الأضداد جاعلاً منها لوحة رغم أنها مبهمة الخطوط لكنها متجانسة الألوان.... أستقر بجلسته واضعاً أمامه صحنه الفخاري القديم الذي يجمع فيه ما يتكرم به الناس عليه... ما أن أستعد بقيثارته وأخذ جرعة طويلة من نبيذه حتى راحت أنامله تداعب أوتارها برشاقة ومرونة متحدية تعب السنين وما صبغت جسده من وهن.. ليردد اغنية أعتاد أن يبتدئ بها أمسياته.... (ماضينا حقيقة وجمال، حاضرنا وهم وخيال... ماضينا محبة ووفاء، حاضرنا طمع ورياء).... ما كاد صدى غنائه يتردد، حتى يبدأ بالتوافد الى مكانه أولئك المرهقين بحاضر زمانهم الناقمين على قسوته، كأنهم بانتظار قدومه، لينقوّا بموسيقاه وعذب أنغامها أفئدتهم مما لحق بها من هموم هذه الأيام، ويطهّروا ما أصاب سمعهم من زعيق أغانيها. فيجلس كل منهم مع جرة نبيذه في مكان ما هنا وهناك غير بعيد عنه يتيح له الاصغاء لشدو (أيشومال) الشجي الرخيم رغم حشرجة صوته المُتعب.. ليسافروا مع ريح أغانيه القادمة من ماضي ذلك الزمان المحملة بعبقه وجماله، مذكرة اياهم بنقاء تلك العهود الزاهية الخوالي وطيبة أهلها.... لم يقطع غنائه رغم وصول صديق عمره المهرج (سابيئم) مع قرده الأليف الذي حياه كما تعود دون كلمات كي لا يقطع عليه صفو أنشاده حين يأخذ مجلسه بجانبه ليستمع لبعض ٍ من قديم الغناء يغسل به تعب أيامه قبل أن يذهب هو الآخر الى مكانه ليبدأ شقاء عمله..... لم يمضي وقت طويل من قدوم صاحبه حتى التفت اليه دون أن يقطع استرساله في العزف ليراه قد سرقه داء السرحان بعيداً، رامياً بصره الى السماء كأنه يتأمل طيفاً مسافراً الى عوالم الالهة، غير مبالي أو عابئ بما يفعله قرده أو ما يدور حوله من حركة الناس.. (ماذا جرى له بحق الآلهة؟ هل نزلت عليه صاعقة لتجعله مُتسمراً هكذا؟)، ثم أنتبه دون شعور منه بأن رفيق معاناتهم الآخر العجوز (أولام) مروج العاب النار لم يأتي معه كما اعتادا... قبل أن يتفوه بشيء سبقه (سابيئم) كأنه عرف رغم شروده ما يدور بخلد صديقه.. (مات (أولام) هذا الصباح.. هرع الناس الى كوخه عندما سمعوا صراخ أبنته الوحيدة، ليجدوا أن الآلهة قد اختطفته الى عالم اللاعودة... مسكينة أبنته كيف ستعيش دون أبيها)... توقف عن غنائه ليسرح بفكره هو كذلك، اعقبها بحسرة طويلة بثها من أعماق صدره.. بضع قطرات دمع منحتها عينيه هو كل ما جاد به كرم حزنه لهذا الخبر، كما لو أن خزين دمعه أوشك أن ينضب بعد كل الذي ذرفه لفراق الأحبة والأصحاب على امتداد سنين العمر، انسابت الدمعات بتمايل وهدوء على وجهه المُتعب لتدفن أخيراً بين شعيرات لحيته البيضاء، وكأن تلك القطرات اختزلت بلحظات قليلة مسيرة حياة البشر، منذ انبعاثها من مياه الحب ثم تأرجح بلا هدف لتغيب أخيراً تحت أكوام الثرى... ترك (سابيئم) صديقه مواصلاً صراعه مع الحياة، ليذهب هو الى مكانه المعتاد كي يقدم العابه ومهارات قرده على مسافة غير بعيدة من مجلس (أيشومال).. ما كان ليستقر في مكانه حتى أخرج صحنه الفخاري الذي لم يشم رائحة الفضة منذ أمد وباقي أدوات عمله من عصي و أطواق ملونة وملابس غريبة مزكرشة أكساها لقرده الاليف، الذي كان يعرف ويتقن عمله تماماً فما أن رآها حتى أخذ بالقفز من خلالها والرقص حولها وأداء حركاته الجميلة المضحكة التي كان قد تعلمها لاستمالة الناس اليه.. لكن رغم طرافة العابه وجمال فنونها لم يقربه أحد أو يعيره شيئاً من اهتمام ورغبة بالمشاهدة، بعد أن أصبح ما يقدمه من بقايا عتق الماضي المُمل كما يظن من أعتاد التواجد في هذا المكان... نظر اليه (أيشومال) بألم وشفقة.. (ها هم رفاق الدرب والعمر يتساقطون واحداً تلو الآخر مثل الدموع.. (ميلام أنا)، (مثرامال)، (أيكًامي) وها هو (أولام) يلحق بهم.. لعلهم عثروا على فُسحة ومراح بسكنى العالم الأسفل بعد أن ضاق بهم رداء هذا الزمن.. لم يتبق من أحجار ذلك الدهر غيري وهذا العجوز، متى يحين دورنا وتختطف الآلهة أرواحنا كي لا نرى ما سيأتي من قادم الأيام؟) .. رغم صداقة العمر و الطفولة لم يخطر بباله أن يسأل حتى رحيلهم هل من (سومر) كانوا أم (أكد) أم من ارض (آشور)؟ هل كانوا يمجدون (أنليل) أم يعبدون (عشتار) أم يبغضون (ننكًال)؟.. كل ما عرفه عنهم هو مدى وفائهم ونقاء قلوبهم وعشقهم اللامحدود لهذه البلاد الخيّرة ونهريها الذين ترتوي منهما الآلهة.. بصق على الأرض بعد أخذ جرعة من نبيذه كأنه يلعن مفارقات الدنيا... (ماذا تبقى منك يا (سبّار)، أهلك رحلوا، طيبة ماضيك غدت غباء وسذاجة، غيرة ومروءة الفرسان أصبحتا نكات يتمازح بها الصعاليك.. تباً، حتى الالهة قد تغير حالها في هذا الزمن.. أنها ليست آلهة تلك الأيام التي نعرفها.. حينها كانت تدعو للخير والتسامح والمحبة بين البشر.. أما اليوم أخذت تدعوا للقتل والانتقام واراقة الدماء).. تمالك نفسه رغم الألم الذي أعتصر قلبه، ثم بدأ بترديد اغنية أخرى تستذكر رفقة الماضي، ما أن سمع من جلس حوله مطلع عزفها حتى صاحوا فرحاً حيث كانت أغنيتهم الأثيرة.. (رائع يا (أيشومال) أخيراً ستنشدها).. (عجّل يا (أيشومال) أننا ننتظرها منذ أن جلسنا)..... (صحبة كان لي ورفاق.. من كبريائهم تيقنت.. من نضالهم تعلمت.. أن لا أحيا بلا أنعتاق).. بينما هو مواصل غنائه بتناغم وانسجام وسط شرود منصتيه ورحيلهم بعيداً مع سُفن ذكرياتهم، ليمرّ أمامه شابين يترنحان، ما أخضّر شاربيهما بعد، ولم يفقها حتى يومهم هذا على حقيقة الدنيا، أخذ السُكر مأخذه منهما ليقول أحدهما (عن أي صحبة وأي ماضٍ يتغنى هذا الغبي؟)... (دعه وشأنه هناك بعض البشر لا يطيب لهم أن يعيشوا مع تطور الحياة، أنه سيبقى أسير ماضيه، مصّراً أن يبقى عبداً من عبيده ناكراً جمال الحاضر بزهو روعته الذي يماثل جنائن الآلهة)..... (عبداً من عبيد الماضي خير حتى من آلهة زمانكم الأدهم هذا، التي لم تعد تعرف كيفية خلق البشر وصياغة أخلاقهم).. تذكر ما كان يردده راحلهم (أولام) .... (أذا أردتم أن تعرفوا ما تفكر به الآلهة فأنظروا الى البشر الذين تخلقهم، أنها دوماً تزرع فيهم أخلاقها، فالمنتوج يبيّن دوماً روح الصانع ومهارته... أنها ليست كما مضى تخلق البشر من طينة نقية مجلوبة من عند ضفاف الفرات، بل من أخرى آسنة تبولت عليها الشياطين).... صمت قليلاً ليمنح حنجرته بعض الراحة وليرتشف بضع جرعات من النبيذ تعينه على اكمال ليلته، مانحاً سامعيه فسحة ليتصدقوا عليه بشيء من قطع الفضة.. تمطى محاولاً تحريك جسده المُتخشب ليخطو حيث مكان صديقه (سابيئم) محاولاً ممازحته رغم حزنه.. (ها أيها العجوز الم يحن الوقت لتغيّر العابك؟ أم تراك ستقضي بقية عمرك مع القرود حتى بعد أن ضجرها الناس؟) ليجيبه وابتسامة كاذبة ارتسمت على وجهه الذي اختطت عليه التجاعيد متاهة لا تعرف أين تبدأ و كيف تنتهي، تماماً كفوضى هذه الأيام (حينما تغيّر أنت غنائك الذي أرتدى غبار الدهر ونسى حتى تاريخ ميلاده.. صدقني لم أعد أرى الحياة بعد كل تلك السنين سوى غابة للقرود.. فذاك يقفز ومثله يأكل وذاك يركض ومثله يضاجع وآخر نائم على الدوام ومثله يلهو بدُبره مستمتعاً.. أننا في الحقيقة نعيش وسط قرود يا عزيزي فلماذا التنكر لواقعنا)... تركه باسماً ليواصل الاعيبه مع قرده مستمتعاً، ناسياً بلهوه ازدراء الناس وتجاهلهم لفنه، مقتنعاً بما ارتضاه لنفسه، ليعود هو الى مكانه وغنائه منتقلاً من أغنية لثانية مع أعادة لأخرى طلبها المنصتون بعد أغرائه ببضع قطع من الفضة تتوافق مع شدة سكرهم وذكرى مرّ طيفها على مخيلتهم وتراقصت مع صفاء ليلهم، بين طرب وفرح رسم بسماته على الشفاه، أو حزن وشجن أسال دموعاً جادت بها العيون... فجأة ودون انتظار من أحد قطع غنائه لدى سماعه صراخ مدوي أخذ بالاقتراب من المكان.. ليتبين مصدره فيما بعد، رجل هرم مهلهل الثياب حافي القدمين، أشعث الشعر أغبره، بدا واضحاً أن عقله قد رحل الى عوالم أخرى.. (كفاكم تسكعاً واحتساءً للنبيذ بانتظار مصائركم المقرفة.. هلموا معي لنوقف دوران الأرض كي نعيد للعالم ماضينا الجميل الذي كانت تحلق في سمائه الملائكة).. (أنه (أورلما) المجنون.. لقد أعتقدنا أنه مات منذ زمن ..هل بُعث ثانية كعفاريت الظلام من العالم الأسفل).. (مسكين لقد فقد عقله بعد أن أغتصب حاشية المعبد زوجته أمام عينيه وقطعوا رؤوس أبنائه لأنه رفض تمجيد كبير الكهنة)..... (أغرب عن وجهنا أيها المجنون ولا تفسد علينا ليلتنا).. (بل حاضركم هو المجنون الذي أباح لمن أمتلك القوة أن يسلب عقولكم وقلوبكم وحتى ضمائركم، ليجعلكم تسيرون كالخراف البلهاء خلف ما يتفوه به كهنتكم، اليوم قررت أن أوقف دوران الأرض كي أرجع ذلك الماضي الناصع الذي حفظ كرامتنا وانسانيتنا وبسمات أطفالنا)... أستمر بالصراخ بينما هو آخذ بالابتعاد رويداً رويداً عن المكان (حاضركم أستباح طيبتكم ليقتل نقاء نفوسكم وأرواحكم الحالمة فأصبحتم مثل حمير السواقي لا تعرفون غير الدوران حول واقعكم الغبي.. أبشّركم ستظلون تركضون لاهثين دون أن تشبعوا، فقط من أجل اكتناز المال ومضاجعة النساء.. سأوقف دوران الأرض، لابد أن أوقف دورانها.. ساعدوني لنوقف معاً هذا الزمن الأهوج).. ليلحق صراخه ضحكات وهزأ البعض، وأهات وهزات رؤوس آخرين، آسفة على ما تبقى من هذا الأنسان وما جرى له، فقط لأنه قال يوماً (لا) لأولئك الذين سيطروا على أدمغة الناس ومصائرهم..... عاد (أيشومال) لغنائه دون رغبة منه بالمواصلة بعد رؤيته منظر ضحية الدهر هذا وما سمعه منه، كما لو أن ملحاً قد نثر على جروحٍ قديمة ضن اندمالها فأعاد فتحها ثانية.. لكنه أستمر احتراماً لسمَر سامعيه وما طربت له آذانهم، لتمر تالي السويعات رتيبة كحال كل يوم...... بعدما شعر أن رواد المكان أخذوا بالتناقص شيئاً فشيئاً مع عبور أنتصاف الليل وقتاً طويلاً، نهض من جلسته ملتقطاً صحنه الفخاري داساً ما احتواه من عطايا الناس في جيبه، دون أن يحصيها فقط رفع راسه الى السماء شاكراً الالهة... همّ بمبارحة المكان.. مشى نحو صاحبه (سابيئم) ليجده مع قرده قد أحتضن كلاهما الآخر طلباً لحنين افتقداه ليغطا معاً في نوم عميق... نظر الى صحنه فلم يجد فيه شيء، كان خالياً تماماً (اللعنة ، لم يكسب شيئاً منذ أيام، كيف سيطعم هذا الأبله قرده؟).. نظر الى صورة صاحبه وهو نائم غير شاعر بشيء.. أنتظر قليلاً ثم مد يده داخل جيبه ليخرج ما حصل عليه من قطع فضة واضعاً بعض منها بهدوء في صحن (سابيئم) متجنباً أيقاضه، نظر الى ما تبقى لديه (أما هذه فللمسكينة أبنة (أولام))، ليحتفظ بجيبه الأخرى بواحدة فقط (أنها تكفي لجرة نبيذ يوم غد.. هذا أذا قُدّر لي أن أراه).. حمل قيثارته على ظهره المحني من وطأة السنين وبيده جرة نبيذه التي لم يتبق فيها سوى بضع جرعات أعتاد التسلي بأرتشافها بطريق عودته الى خربته المتهاوية وحيداً، كما جاء منها، مُبتسماً هازئاً بزمانٍ الف غدره وجفاه، مُدندناً مع نفسه.. (أيامنا أغنية أنغامها آهات ودمع وشجون.... أسفي على ماضٍ طوت صفحاته المنون).
808 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع