خالد القشطيني
سألني يومًا الزميل خالد عيسى: «يا خالد، في هذا العهد الجديد للعراق، ما رأيك إذا عرضوا عليك منصب وزير؟»، قلت له:
«عزيزي أنت تعرف رأيي في هذه المواضيع.. أفضل أن أكون بوابًا في قاعة (فيستفال هول) وأسمع موسيقى كل ليلة، على أن أكون وزيرًا في العراق وأسمع كل هذا الوعظ».
ضحكنا، وجرّنا الموضوع لمتابعة أخبار الهرولة بين المثقفين لاقتسام المناصب بعد سقوط صدام حسين. تذكرت موقفًا مشابهًا وقفه الكوندكتر الألماني، كارل مزورا، قائد فرقة برلين السيمفونية في أيام الحكم الشيوعي. احترام الألمان للموسيقى شيء لا يضاهى.. مكنّه ذلك من انتقاد الحكومة باستمرار، واستعمال الموسيقى جزءًا من حملة التحدي دون أن تجرؤ السلطات على اعتقاله. يرى البعض أنه كان من العوامل التي قربت سقوط النظام. وبالنظر لهذا الدور الذي لعبه، خطر للقوم أن يرشحوه لرئاسة الجمهورية. فاتحوه في الموضوع، فأجابهم: «لماذا.. أوجدتم مستواي الموسيقي سيئًا لهذه الدرجة بحيث تقررون نقلي وتعييني رئيسًا للجمهورية؟».
للفنانين مواقف رهيبة إزاء السلطة.. من أروعها ما فعله بيتهوفن عندما التقى بنابليون في الغابة السوداء. كان يتمشى مع الأديب الكبير غوته، عندما واجههما نابليون على ممر ضيق في الغابة. التفت غوته لبيتهوفن وقال: «انظر.. الإمبراطور أمامنا. فلنفسح له الطريق»، ثم تنحى غوته جانبًا وانحنى لنابليون وهو يمر أمامه. أما بيتهوفن، فلم يعبأ بكلمات صاحبه، واستمر ماشيًا حتى اقترب من نابليون، فتنحى هذا جانبًا وأفسح الطريق للموسيقار الكبير ثم انحنى له وهو يمر أمامه.
اشتهر الرسام روبنز بمزجه بين فنه بصفته رسامًا، وقيامه بمهمات دبلوماسية.
هذا شيء لم تلتفت إليه سائر الدول، وهو أن للفنانين سحرًا خاصًا على الآخرين، وبإمكانهم استغلال ذلك السحر في التأثير على الساسة بالقدر الذي يسحرون به النساء. أنا واثق بأن عبد الناصر لو عين عبد الوهاب بدلاً من عبد الحكيم عامر حاكمًا على سوريا، لما تمردت سوريا وانفصلت. فأي مواطن سوري يفضل سماع خطب المشير بدلاً من سماع عبد الوهاب يغني؟ بيد أن ملك هولندا التفت لهذه النقطة، فعين الرسام روبنز سفيرًا في لندن، وبعد أن أنهى مفاوضاته مع جيمس الأول، قال له: «أسمع أنك أيضًا تتلهى بالرسم أحيانًا»، فأجاب: «نعم. ولكن الحقيقة هي أنني أتلهى بالدبلوماسية أحيانًا».
سألني بعضهم: «كنتَ معجبًا بعدنان الباجه جي.. أهذا لأنك تعتقد أنه رجل مخلص أكثر من غيره للعراق؟»، أجبتهم قائلاً: «لا.. أصبحت معجبًا به عندما اكتشفت إخلاصه لفاغنر، فهو يذهب مرارًا لألمانيا لمشاهدة أوبرات فاغنر».
لكننا لا نحترم الفنون.. حتى أنا الذي قضيت سنوات في الرسم، لم أستطع التخلص من احتقارنا التقليدي للفن، فعندما عزمت على الزواج، سألتني زوجتي فقالت إنهم اعتادوا في مدينتها نشر أنباء زواج بنات القرية، ويذكرون شيئًا عن الزوج. لاحظت أنني «سبع صنايع» فتحيرت، فقالت: «ماذا سنكتب عنك؟»، قلت لها: «اكتبوا: (محام)». ولكن أم نايل نظرت باستغراب، وقالت: «محام؟! ولكنك أيضًا فنان رسام.. لماذا تريد أن تقول (محام)؟ المحامون عشرة بفلس.. أي واحد يستطيع أن يصبح محاميًا، ولكن كم فنانًا عندكم؟».
857 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع