رحلة نفسية في خزين الوعي العراقي (١ - ١٢) / د.سعد العبيدي


د.سعد العبيدي

رحلة نفسية في خزين الوعي العراقي (١- ١٢)

على مدى عقود، تقاذف العراقيون أمواج الضغوط: حروب، وانقلابات، وتدخلات، واستبداد أحكم قبضته على الأرواح. في خضم ذلك، تبدلت القيم والأعراف، واهتزت التقاليد، وتغيّرت الطباع تحت الضربات المتواصلة والأوجاع، حتى تزيّف ـ بل وتعفّن خزين الوعي، فأنتج ظواهر اجتماعية ألقت بظلالها الثقيلة على النفوس. في كل واحدة منها إجابة خفية عن أسئلة حائرة: ماذا يجري في العراق؟ من بينها: الدحلبة.
معنى الدحلبة
الدحلبة، اصطلاح وُلِد من رحم اللهجة الشعبية العراقية، مشتق من لفظة "يدحلب"، ويُطلق لوصف ذاك الانسان الذي ينحني للنفوذ، ويتقوس أمام من علاه شأنًا ومرتبة، في انحناءة يكسوها الزيف والرياء، وتغلفها مساعي المنفعة، القريبة أو المؤجلة، وهو: توصيف يحمل بين ثناياه مزيجًا من التملق، والتذلل، والمداهنة، والتنازل عن الكبرياء، متشحًا بأقنعة الود الزائف، طمعًا في مصلحةٍ مرجوة. سلوك ينتشر عادةً في البيئات التي تحكمها معادلات القوة ويغيب فيها تكافؤ الفرص، فتغدو بسعة انتشارها ظاهرة وطوق نجاة، أو سلّمًا مرتجلًا للصعود وسط أمواج التفاوت والاضطراب.
جذور الظاهرة
في الزمن ليس البعيد، سامَ صاحب الأرض فلاحها سوء العذاب بقصد الحصول على إنتاج أكثر، فتعلم الفلاحون وهم السواد الأعظم من الأبناء طرقًا للتكيف مع الظلم بالتوجه الى الظالم، والتقرب منه، وتقديم الولاء المُزّيف، والمدح الظاهري الخالي من العاطفة، وكأنهم في سلوكهم هذا يتقربون منه بانحناءة تعظيم أي دحلبة. وفي الزمن السابق (الديكتاتورية) أحكمت الدولة سلطتها على الأبناء، ظلمتهم أجهزتها السياسية والأمنية المتعددة بصلاحياتها الواسعة، فتعلم إنسان ذاك الزمان أساليب تكيّف للعيش تحت التهديد الأمني شبه الدائم قوامها: التقرب من السلطة، مداهنة أجهزتها، والانحناء دحلبة لتجنب أذاها.
والأمثلة في مجتمعنا عن أساليب التكيف القهري كثيرة وخير مثال عنها ما ورد في سجالات السياسية عن تقديرات لعدد الأعضاء في تنظيم حزب البعث العربي الاشتراكي يوم النجاح في الانقلاب على عبد الرحمن محمد عارف في ١٧ تموز ١٩٦٨ قد قُدرت بعدة مئات، وغدت في اليوم الذي غادر فيه الحزب وصدام الحكم في ٩ نيسان ٢٠٠٣ ما يزيد عن المليون، والتفسيرات الأقرب الى الواقع لهذا الفارق العددي الهائل وموقف الأعضاء في التخلي عن الحزب وقيادته والاختفاء من ساحة المواجهة تمامًا يرجع الى كون الرغبة الأصلية في الانتماء الى الحزب لكثير من المنتمين لم تكن عقائدية، وإنما نفعية ومداهنة إي دحلبة بغية التقرب من الحزب لأغراض التكيف الى العيش الآمن تحت سلطته القسرية، واقتناص فرصة الحصول على كرسي وثير في عربات القطار القادم.
إن إحكام سلطة الدولة قسرًا وظلم المواطن عمدًا لم يقتصر على الزمن السابق، ففي هذا الزمان شاع الظلم بوسائل عدة بينها إدارية، وبينها أخرى مليشياوية، وأخرى دينية مذهبية، وغيرها أشعرت العديد من الموظفين والعمال والعسكريين ورجال الأمن والمواطنين العاديين بفقدان الاستقرار والسكينة، فزادت في داخلهم مستويات القلق، دافعة العديد منهم الى:
١. التقرب من سلطات الدولة النافذة والمليشيات المسلحة حدًا كوّن فيه البعض من المسيحيين حشدًا شعبيًا، وفعل مثلهم بعض الأزيدية والسُنَّة وعشائر من المناطق الغربية.
٢. التوجه صوب المرجعيات الدينية، سبيلًا دفع البعض الى الاكثار من الزيارات الى المراقد الدينية، ودفع آخرون إلى التدين المظهري والمغالاة في الدعاء الصوري.
٣. مسايرة الأحزاب والكتل السياسية الدينية الطائفية، بانتماء البعض الى تنظيماتها ومليشياتها، والترشح في الانتخابات ضمن قوائمها، والدفاع عن وجودها في بيئة غير بيئتها والثناء على توجهاتها.
وبتقادم الأيام والحاجة النفسية الى التكيّف للظلم، والقسوة ونوبات سوء التعامل التي استمرت سمة من سمات السطلة ومن يمثلها من الأشخاص والأجهزة شاع بين العديد من الأبناء سلوك المحاباة "الدحلبة" بقصد التجنب اللازم للأذى أو الحصول على النفع المأمول، وبشيوعها واستمرارها أصبحت ظاهرة يلاحظ في مجالها أنواع من السلوك تعبر عن وقعها مثل:
١. التودّد المغالى به الى الأعلى مرتبة ودرجة. سلوكٌ يحدث تلقائيًا رغم معرفة المعني (أي المتودد) بأنه نوع من النفاق.
٢. نفاق الذات. آلية نفسية تعويضية تكونت بعد تكرار سلوك الانحناء والمحاباة لعقود من الزمان، أنتجت توجهات ومشاعر تعظيم لها أي الذات في مواقف عكسية مثل:
آ. تحويل الهزائم الى انتصارات.
. ثمان سنوات من الحرب مع إيران، وكل الخسائر التي حصلت واستمر حصولها الى يومنا هذا قيل عنها انتصارات، وقُبِل القول برحابة صدر.
. دخلت داعش عام ٢٠١٤ عدة مدن وأسقطت ثلاث محافظات، واقتربت من بغداد وأطراف الحكومة يعلنون الانتصارات.
ب. تصور الإخفاقات نوعًا من الإبداعات. فشلت الدولة في الحيلولة دون قيام داعش باحتلال الموصل، ومدن أخرى، وأخفقت في محاربة الفساد، وتلكأت في حصر السلاح المليشياوي بيدها وبسط سيطرتها الأمنية على الشارع، ومع هذا نجد من بيننا من يخفف من وقع هذه الإخفاقات، ويعد التعامل معها إحدى المنجزات الكبيرة والابداعات الفذة.
ج. قلة الحياء. أصدر مجلس الوزراء القرار رقم ٢٤ لسنة ٢٠٠٥ للمفصولين السياسيين بإعادتهم إلى الخدمة واحتساب مدة فصلهم لأغراض الترفيع والتقاعد، وتشكلت لجان في كافة الوزارات لاستقبال الطلبات ودراستها لإصدار أوامر الشمول من عدمها، فكان قرار مثله مثل غيره من قرارات التعويض والنفع، استثار لعاب البعض وحشّد طاقتهم للتحايل عليه، وكان الملفت في موضوعه مساعي بعض ذوي التحصيل العالي والدرجات الخاصة والرتب العسكرية العالية للتحرك على الجهات العليا والشخصيات السياسية والمليشياوية، التقرب لها دحلبة دون حياء، لجني الثمار رواتب ومخصصات مرتفعة وفرص استغلال للشمول بالقرارات، بينهم:
. اللواء صباح الذي شغل عدة مناصب في الجيش السابق، واستمر في الخدمة العسكرية بدائرة المحاربين إلى يوم ٩/٤/٢٠٠٣، تقرب من وزير الدفاع وجهات سياسية توسطها لشموله بالقرار المذكور على الرغم من تاريخ سابق له معروف بحسن الخدمة إبان النظام السابق، وكثرة الأنواط واشغال المناصب القيادية العليا والانسجام الكامل مع مسيرة الحزب آنذاك، وكانت حجته في المطالبة تتأسس على أنه قد أحيل إلى دائرة المحاربين في رئاسة الجمهورية قبل السقوط، لاكتشاف المعنيين في الحزب أن لدى عائلتهم حسينية. وقد أثمر أسلوبه في التقرب ترقية الى رتبة أعلى ومنصب رفيع لم يحصل على مثله الأقران المتضررون من النظام السابق فعلًا، ولا المهنيون المتميزون.
. السيد سليم حصل من تقرّبه الى حزب المؤتمر على منصب مدير عام، ومن بعد استقراره بالموقع، تقدم بطلب شموله بالقرار المذكور لأن ابن خالته كان مسجونًا من قبل النظام، وبسببه لم يحصل على فرصة للترقية إلى منصب أعلى من المدير العام زمن صدام، علمًا أنه قد تبرأ من ابن خالته المنكوب على وفق سلوك الدحلبة في الزمن السابق باجتماع لقيادة الفرقة الحزبية التي كان عضوًا فيها آنذاك.
٣. الكذب تورية، وضحكًا على النفس والآخرين حتى صنف بعض أنواعه كذبًا أبيضَ، خبره الغالبية، فدرج الموظف على وفقه الإشادة بمديره كذبًا، والعسكري الإكبار بقائده كذبًا، وابن العشيرة للتعظيم بشيخه كذبًا، وغناء المطرب لرئيسه (إشگد انت رائع سيدي) كذبًا. كذبٌ وإن كان أبيضَ حسب التبريرات النفسية فإن جميع أشكاله مصحوبة بالنفاق الغائي بقصد: كسب الود، وتفادي الأذى، وتأمّل الحصول على عائد.
لقد جُرِبَ هذا النوع من الكذب من قِبل الآباء والأجداد لأجيال وما زال يُجرب بالطريقة ذاتها، وفي ذات التوجه والاتجاه، فسار الجمع في طريقه ركبًا، يستسهلون السير وسطه سبيلًا في الحياة، لم يتوقفوا في محطة من المحطات ولم يخففوا سرعة المسير، حتى أخذوا به فـي الحـرب وسوح القتال وسيلة خلاص، وفي البناء والاعمار وسيلة من نوع آخر للمداهنة من جهة، ولمضاعفة الكسب غير المشروع من جهة أخرى.
. بعد انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية عام ١٩٨٨، شرعت الحكومة بإعادة بناء مدينة الفاو، وحدّد الرئيس مدة لبنائها تقل عن الشهر، وشرعت الكوادر الهندسية، والمقاولون والاسطوات والمهندسون بالعمل ليلَ نهار فأنجزوا المهمة الرئيسة بحدود خمسة وعشرين يومًا، ولما سؤل أحد المهندسين المقيمين في جلسة خاصة عن هذه السرعة غير المنطقية، قال:
كنا لا نلتزم بالضوابط والمعايير المهنية لبعض الفقرات الخاصة بالبناء، فمثلًا لا ننتظر أسبوعين ليباس الخرسانة كي نبني عليها، وإنما نستمر بالبناء ومن بعدها نرفع الأعمدة الساندة (السقالات) وكذلك الحال في حدل الطرق ورصفها إذ يجري التعبيد دون اكتمال شروط الحدل حسب المواصفات، وكان جميع العاملين والمشرفين والمسؤولين مدفوعين بالتجاهين: الأول: الخوف من عقاب الرئيس القاسي. والثاني: الحصول على رضاه وثوابه العالي.
سعة الانتشار
كان السير على الطريق دحلبة في كل مجالات الحياة المجتمعية لم تسلم منها:
١. العسكرية التي يفترض أن تخضع خططها وتقديرات الموقف في سياقات عملها الى الدقة والمنطق والنزاهة الوطنية حدث في صفوفها:
. قادة ذاك الزمان أو بعضهم أوهموا قيادتهم وقللوا من شأن العدو في حروبهم، وعدلوا من توقعاتهم دحلبة للقائد العام، وبهذا الصدد ذكر الفريق الركن رعد الحمداني قائد الفيلق الثاني للحرس الجمهوري في كتابه (قبل أن يغادرنا التاريخ ٢٠١٤ ) أن قادة وهيئة ركن الحرس الجمهوري أوهموا القائد العام، ولم يقولوا الحقيقة لما يتعلق بالقدرات والامكانيات لقواتهم وقوات العدو وحتمية وقوع الهجوم الأمريكي المرتقب. وحصل الأمر ذاته في احتلال الكويت، فتقديرات الموقف العسكرية والاستخبارية كانت تتجنب ذكر الانسحاب على الرغم من إنه الخيار الوحيد والأسلم آنذاك، دحلبة للقائد العام الذي لا يريده صفحة من صفحات القتال. وحصل كذلك في هذا الزمان وإن كان بصور أخرى:
. قادة منطقة الموصل ومكتب القائد العام أوهموا القائد العام قبل ٢٠١٤ ولم يذكروا حقيقة قدراتهم القتالية ومعنويات منتسبيهم واستبعدوا قيام داعش باحتلال المدينة، وتبين في المواجهة أنهم كانوا ينافقونه وهو الذي لم يكن ملمًا بالأمور العسكرية والاستراتيجية، وإنهم كانوا غارقين في الفساد وإفساد المفاصل الأخرى من القيادة.
. قام رئيس أركان الجيش عند ترفيعه الى فريق أول عام ٢٠١٥ بتقلد الرتبة الجديدة في حضرة الامام الحسين في كربلاء.
. توجه طلبة الكلية العسكرية بترديد قسم التخرج وحمل رتب ملازم كذلك في حضرة الامام بمدينة كربلاء.
٢. العلوم التي كانت وما زالت سبلها في البحث والدراسة محكومة بوسائل وأدوات لا تتأثر بالمتغيرات الجانبية ذات الصلة بالأهواء والميول والرغبات، لوحظ في مجالها:
. أساتذة وطلاب دراسات عليا يلوون نتائج بحوثهم، يمجدون شأن من يريدون ويحطون من قدر من يريدون، فأُدرِجت في ذلك الزمان عشرات الأطاريح في الجامعات عن صدام وطريقته الفريدة في الحكم، وأسلوبه المميز في الحياة وآراءه السديدة، وأُهديت لشخصه عشرات أخرى.
. سعت جامعة بغداد منتصف الثمانينات وبتوجيه من القيادة العامة للقوات المسلحة الى دراسة الشخصية العراقية والشخصية الإيرانية وإجراء المقارنة بينهما، وعلى إثرها تشكل فريق بحث موسع من أساتذة مختصين في علم النفس والاجتماع، وبعد أشهر من البحث والمتابعة واستعمال بعض الاستبيانات ذات العلاقة أُنجزت الدراسة، وعقدت جلسة موسعة لمناقشتها في الجامعة رأسها الدكتور طه تايه النعيمي رئيس الجامعة حضرها ممثلون ومدعوّون من كل الوزارات، وكانت النتائج جلها خصائص إيجابية للشخصية العراقية مثل الصبر والتضحية والشهامة ...الخ، وجل خصائص الشخصية الإيرانية سلبية، مثل العناد والمكابرة والخرافة ...الخ، ومع هذا التحيز النفاقي الواضح أُقرت الدراسة وطبعت بمجلدين.
. سُجلت في هذا الزمان عديد من الأطاريح عن المراجع والأئمة، وأُهديت عشرات أخرى لرموز غيبية.
إنتاج السلوك الخطأ
إن الدحلبة وباتساعها اقتربت من أن تكون عادةً وطبيعة علاقة غائية في البيت والمدرسة والدائرة والثكنة العسكرية والشارع، مشكلتها في العراق ليس فقط شيوعها ومشاعر الدونية المصاحبة لها في النفس الفاعلة، بل:
١. مغالاة المحيطين بالسلطة ومسؤوليها في التعامل غير الصحيح مع وقعها.
. انزعج صدام حسين من إشارة للصحفية الأمريكية كريستين هيلمز عن ازدواجية الشخصية العراقية وقيامها بنسب الرأي الى علي الوردي، نافيًا بشدة ان يكون الانسان العراقي مزدوج الشخصية (العرب، ٢٠١٥). انزعاج وربما غضبٌ تلقفه المدحلبون القريبون منه فحوّلوه الى تقييدات لتداول كتبه، والتضييق عليه، وكذلك البعيدون من الأساتذة والمختصون فتوجهوا ووجهوا الى عدم الإشارة إلى مؤلفاته مصدرًا، وإلى شخصه عالمًا، فحُرمت المكتبة والقارئ العراقي من أفكار وآراء الأعلم في ذلك الزمان. وحُرمَ العراق فرصة إصلاح العديد من أنواع السلوك غير السوي بتدخله وباقي العلماء. وحُرمَتْ البشرية من كفاءة لو قُدِّر لها الولادة في غير العراق لأعطت واشتهرت، وخُلدتْ بما يفوق جل علماء جيلها المعاصرين له.
٢. تعزيز السلوك الخطأ.
. احتج طالب ( بقصد النفاق النفعي)على أستاذ جامعي في علم الاجتماع عام ١٩٦٨ بسبب محاضرة انتقد فيها الأستاذ بعض معالم السلوك البدائي عند العرب، فأشاد التنظيم الحزبي بالطالب، ونقله من مؤيد إلى نصير، ووضع في الوقت ذاته علامة سوداء على الأستاذ تسببت في احالته على التقاعد قبل بلوغه السن القانونية بعشر سنوات، فتردت العملية التعليمية في العراق لمستوى باتت فيه الجامعة تُخرج عديد من المدحلبين يبتعدون تدريجيًا عن الوطن.
. رفع عريف فصيل في الجيش (ف٣ لمش١٥) تقرير نفاق نفعي عن آمر فصيله بسبب عدم موافقة الضابط الشاب على ترك الجنود منتسبي الفصيل ساحة التدريب قبل انتهاء الساعات المخصصة على وفق النشرة بغية المشاركة في مناسبة حزبية فمُنحَ العريف رتبة أعلى، وأحيل الضابط على التقاعد، فتصدع الضبط وخرقت القيم العسكرية لمستوى بات في أواخر الزمن السابق العقيد عامل بناء والعميد سائق تكسي انتهت في داخلهم وأقرانهم المستمرين بالخدمة الروح العسكرية.
. حجب فلاح أجير في مزرعة مسؤول الماء عن أرض جاره الفلاح الفقير كنوع من الدحلبة، ليروي بها أرض سيده المتخم فتخلفت الزراعة، وضاعت معايير المواطنة وهجر ألوف الفلاحين أرضهم إلى المدينة ليزيدوها بؤسًا.
لقد تكررت مثيرات التعزيز للسلوك الغائي وبتكراره واستمرار التكرار فترة طويلة من الوقت عم سلوك الدحلبة:
شيوخ تقدم الولاء للحاكم الجديد.
وعسكريون مرموقون يؤدون التحية لرجل دين معمم، ويكبرونه تعظيمًا من دون استحقاق.
باحثون يحرِّفون وشعراء يمدحون.
كتاب يشيدون ويكبرون حاكم سابق وآخر جديد.
آخرون يقدمون بناتهم هبة لأولاد الرئيس، وغيرهم يقبلون تزويجهن بعمر التسع سنوات.
مثلهم يتبرعون بالتجسس على آبائهم وأخوتهم وأزواجهم بطرق دحلبة رخيصة.
مخبرون سرّيون في كل عهد يكتبون.
٣. توسيع هوة التناقض الوجداني. ان الإيغال بالدحلبة أضعفت الشخصية، ودفعت البعض الى الاخلال بالقيم والأعراف والتصرف بشكل يناقض المنطق وأصول العيش وبناء الوطن الآمن:
. موظف يعمل في مؤسسات الدولة، يعيش على مواردها معاشًا شهريًا، ويسرقها كلما تسنح الفرصة.
. سياسي يميل الى تجنب أو تفادي المساس بالدولة في العلن ويذمها في السر.
. حزبي يبدي الرأي إيجابيًا بأصحاب القرار في السلطة العليا للدولة، لا يتماشى مع طبيعة أفكاره الدارجة عنهم.
. مواطن يساري التوجه يشيد بتدين الدولة، ويثني على قراراتها بتشريعها بعض المناسبات الدينية عطل رسمية للدولة.
وختامًا، يمكن القول إن سلوك "الدحلبة" — بوصفه ظاهرة نفسية اجتماعية — قد أصبح نتيجة كثرة تكراره واتساعه في الوسط العراقي ظاهرًا للعيان. ومع ذلك، وعلى الرغم من سهولة ملاحظة انتشاره، لا يمكن تعميمه ظاهرة على الجميع؛ إذ لا يزال هناك من بقي صامدًا، لم يتأثر بمثيرات التغيير وضغوط الحياة، وهناك من لم يدرك تأثره ذاتيًا أو ينكر التأثر، لأن سلوك "الدحلبة" يمثل في جوهره آلية نفسية دفاعية ذات وظيفة تكيفية، تسعى النفس من خلالها إلى عدم المساس بصورة الذات لصاحبها و تجنب تعريتها.
***

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1391 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع