سلام مسافر
برحيله الفاجع اجهز زهير الدجيلي على اخر ما تبقى في الذاكرة من غنج يليق بالعراق،؛
الأزقة والدرابين،الملفعات، والسافرات،وقحات الجمال،خجلات المحيا.الاذاعة والتلفزيون. المباني، والاستوديوهات، المجلة ؛؛ رياض قاسم وحسين الحسيني واعتقال الطائي وسهيل سامي نادر ومهدي المصور ومريم السناطي ورياض عبد الكريم وفالح عبد الجبار وبسام فرج ومؤيد نعمة ويحي الشيخ وصبري الربيعي وجاسم المطير والفراش حميد " ابو تفلة" وسيروان وأديب مكي ووو ....
و140 صحفيا قال (ابو علي) انهم مروا من بين اصابعه مثل آلاف الأبيات الشعرية؛ ومئات القصائد المغناة التي ما تزال الملايين في العراق وخارجه تترنم بها و لا تعرف ان مؤلفها زهير الدجيلي كان يهدي المغنين والملحنيين ليس الكلمات والأبيات فقط بل واللحن لان شعره المموسق يولد ملحونا.
اجتمعت في زهير الدجيلي مواهب لم تجتمع في غيره الا نادرا. كان صحفيا يجيد كل فنون الكتابة. مخبرا، ومحققا، وكاتب عمود، ومدبج افتتاحيات، ورئيس تحرير؛ لا يترك حرفا يفلت من بين يديه دون ان يوّسمه بخطه الرشيق وان كان النص سليما. فزهير حين يقرا يدوس بقلمه المبلل بالحبر الاخضر على النصوص وكأنه يربت عليها ويمنحها جواز المرور الى المطبعة.
حتى الذين لا يخضعون " للرقابة" كان زهير يربت على مقالاتهم فلا احد يفلت من قلم (ابو علي ولا من مسحاته).. هكذا كنا نمزح حين نختلي دونه، ويشبعنا رياض قاسم بنكات بطلها زهير الذي كان يسمعنا في غرفته المغلقة، اذ لا عاصم لصوت رياض قاسم الملعلع في المبنى العتيق.
حتى سهيل سامي نادر الذي علم اجيالا من الصحفيين في العراق المهنة ولقنهم الكتابة وزرع في نفوسهم الثقة وجعلهم لا يخشون ركوب القلم؛ لم يفلت من دوسات قلم ابو علي.
وفي الساعات الاخيرة من الليل، وقبل ان تغلق اخر صفحات مجلة الإذاعة والتلفزيون ، كان زهير يختلي بسهيل بعد ان يفرغ المبنى المجاور للسفارة الإيرانية في الصالحية من العاملين. ليضعا اللمسات الاخيرة على "مياسة" الصفحة الاخيرة من المجلة الاوسع انتشارا في العراق سنوات الأمل بعد مجلة الف باء.
ومن " مياسة" يسمع القرّاء القيل والقال ويغفون على القفشات،وينام العشاق على كلماتها العذبة وسطورها الرشيقة. ودلعها المثير. فيبعثون برسائل الحب والشجن.
وكم طلبوا يد مياسة اللعوب لكن بابا زهير ما كان ليقبل لجميلته عريسا حتى لو جاء من كوكب اخر.
كتب زهير الدجيلي بالفصحى والعامية. وفي البحرين سبح مع اقحوانات اللغة الساحرة التي كانت تتفتح أزهارا وأشواك حملها ابو علي اهات والام ومعاناة في قلبه وكان يحرق كل يوم علب السكائر كأنه يبخر للأفكار كي تتجسد كلمات.
كل العاملين في مجلة الإذاعة والتلفزيون لم يكونوا منتمين لحزب البعث الحاكم . لا حماية لهم من عوادي الدهر غير الشيوعي السابق، نزيل السجون بمختلف العهود؛ زهير الدجيلي ،المتفنن في تحاشي الضربات وافشال الدسائس ضد المجلة والعاملين فيها. مخلصا مع زملائه اذا اخلصوا معه. لم يطالبهم يوما بموقف سياسي يخدم أهداف السلطة. وتحمل بسبب ذلك لطمات مؤلمة . واستثمر علاقاته الحسنة مع مدير عام الإذاعة والتلفزيون آنذاك محمد سعيد الصحاف وجعلها مضلة تحمي المجلة والعاملين فيها من شرور المتربصين والاعداء. تلك كانت سبعينات قرن مضى وانتهى الأمل بالموت.
كان شيوعيا كتب اجمل القصائد عن حزب فهد وسلام عادل، ورثى من سقط تحت التعذيب وعلى أعواد المشانق وبرصاص الانقلابات.
و مع ان قادة الحزب لم يبادلوه الود على قاعدة انه انخرط مع النظام؛ فانه لم يكتب تزلفا من قادة كانوا أنفسهم يفاوضون حزب البعث للحصول على حقائب وزارية على قاعدة المحاصصة ضمن ما سمي بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية.
كان زهير متعدد المواهب. إذاعي وتلفزيوني. مؤلف مسلسلات تاريخية واُخرى شعبية. كاتب أطفال ومنتج برامج تعليمية واُخرى ترفيهية.
كان ساخرا مكتظا بمرارة سنوات العسف والقمع والملاحقات والجوع والفاقة.
رضعته والدته الشعر مع حليبها. فام زهير شاعرة
و" كوالة" صدحت في التظاهرات، وفي حفلات التأبين لضحايا الانتفاضات الوطنية وفي المآتم.
وأورثت شعرها الأنثوي العذب لنجلها البكر، و توجته بنفحات من جمال وجهها الأخاذ وطلعتها البهية. ولا يمكن لذواق الا وينبهر بمحيا السيدة الام والمناضلة حتى بعد ان عبرت عقود الشباب.
غنى زهير للعراق حتى الرمق الأخير من حياته العاصفة المديدة . دخل السجون في سن الصبا. ونهل من الحياة رحيقها الإبداعي. كان عاشقا أبديا للمرأة والجمال. وكانت ام علي زوجته الوفية تدرك بحسها الأنثوي ان المرأة تعني لزهير العراق الوطن الذي لم يبح صوته من مناغاته . منغاة كالنحيب .
كان يامل في ولادة عراق حْنِين، عراق خوش
ولد ،عراق ابن حمولة. ولعله على فراش الموت لم ينطق الا باسمه وروحه الشفافة تطير.
مات طائر اخر من تلك الطيور الطايرة وما ردت لاهلها.
ليس أفضل من يتحدث عن زهير الدجيلي غير (ابو علي )نفسه. هذا الفيديو من بين تسجيلات نادرة على يوتوب للراحل الذي لف العراق بجناحيه ولا ادري ان كان الوطن وجد له قبرا بين خرائبه .
مقابلة تلفزيونية اجمل ما فيها ان المقدم كان من شدة الانسجام والإعجاب بتدفق زهير الدجيلي لا يكثر من الأسئلة فاتاح لنا ان نستمع الى زهير الراوية والمنشد والمؤرخ .
في المقابلة يكشف زهير عن نزر قليل من سجل حياته السياسية والصحفية والإبداعية الحافل .
ومثل زهير الدجيلي يحتاج الى عشرات البرامج لتغطي سفره العميق.
1059 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع