الخارج ومحن التنمية الإنسانية العربية

                                                          

                                د. علي محمد فخرو


في اعتقادي أن موضوع التنمية الانسانية الشاملة للمجتمعات العربية لا يحصل على الاهتمام اليومي الدّائم في اغلب وسائل الاعلام والتواصل العربية وفي كل المنابر الحكومية والتشريعية. فالتركيز الكبير يقتصر على ضرورة النمو في الاقتصاد وعلى ضرورة التوجه نحو مزيد من الديموقراطية في السياسة.

هذا بينما ان كلا الأمرين، النمو الاقتصادي والممارسة الديموقراطية، هما جزءان فقط مُما يعرف بالتنمية الانسانية التي لا تقف عند تحقيق هذين الأمرين وانُما تتعدّاهما لتشمل قضايا التعليم والعمالة والبيئة الطبيعية والبيئة الثقافية ومختلف العلاقات الاجتماعية وتفعيل القيم الانسانية السامية، اي انها تتوجه نحو تمكين الفرد ماديا ومعنويا ليعيش بكرامة وحرية ونحو تمكين المجتمع ليصبح سيد نفسه وليحمل مسؤوليات قدره.
منذ سنة 2002 وتقارير التنمية الانسانية العربية تصدر تباعا وتشير الى وجود نقاط ضعف مأساوية في الحياة العربية، لكنها تحظى بترحيب ونقاش محدود حين صدورها، ثم لا تلبث حتى يطويها النسيان. ولذلك فان محتوياتها وتوصياتها وما تشير اليه من اخطار وكوارث قادمة لا تترسخ في العقل الفردي والجماعي لتصبح جزءا اصيلا راسخا مثيرا للقلق والهلع في جدول اعمال الحياة اليومية للمجتمعات العربية.
من هنا تأتي الأهمية القصوى لجعل موضوع التنمية الانسانية العربية، بكل اجزائها وتفاصيلها، فصلا بارزا في الثقافة السياسية للانسان العربي.
وعندما يزداد وعي الانسان العربي وتشتد حساسيته تجاه موضوع التنمية الانسانية، كأمر وجودي وأخلاقي يمسٌ حاضره ومستقبله ومستقبل اولاده وأحفاده، سيطرح على نفسه السؤال المهم: من المسؤول عن فشل التنمية الانسانية في ارض العرب؟ وعند ذاك سيكتشف هذا الانسان ان جواب ذلك السؤال سيشير الى كل اعداء ومناهضي تقدمه ونهوضه من تخلٌف تاريخي يرزح تحته.
وسيكتشف ان الأسباب داخلية وخارجية تتفاعل مع بعضها وتتعاضد في اشكال سمسرة وزبونية وفساد ونهب واحتكار للسلطة وتبادل للمنافع.
دعنا من ذكر الأسباب الداخلية فقد كتب عنها الكثير، وقد نعود اليها. وسنكتفي اليوم بتسليط الضوء على عاملين خارجيين يساهمان في افشال التنمية الانسانية العربية، ويحتاج الانسان العربي ان يعي بعمق اهميتهما.
العامل الأول الايجابي، والذي يستطيع ان يلعب دورا مهماً في كل محاولة للتنمية على المستوى الوطني، هو الترابط التنموي العربي، بدءاً بالتكامل الاقتصادي والسوق العربية المشتركة وانتهاء بوحدة اقتصادية على المدى البعيد. يكفي ان نذكر أن تواجد كتلة اقتصادية تكاملية عربية سيكون مدخلا لوجود سوق كبيرة امنة لكل نتاج عربي على المستوى الوطني، ومدخلا لقيام صناعات اساسية وهندسية وعسكرية وزراعية كبرى على المستوى الوطني، ومدخلا لاجراء البحوث المعرفية وللتطوير التكنولوجي الضروري للانماء الاقتصادي، ومدخلا للتفاوض الاقتصادي والتكنولوجي مع الكتل الاقتصادية الأخرى.
فاذا اضيف الى ذلك ان الأمن العسكري والغذائي والمائي والوقوف في وجه الخطر الصهيوني والتدخلات الخارجية الضاغطة المتآمرة على المستوى الوطني سيحتاج الى رافد قومي يعينه ويقوّيه ادركنا الأهمية القصوى للترابط العضوي بين كل مشاريع التنمية الانسانية في كل الأقطار العربية، وأن غياب ذلك الترابط يساهم بصور مباشرة او غير مباشرة في افشال التنمية الانسانية الوطنية.
أما العامل الثاني، وهو سلبي في كثير من جوانبه، فهو مؤثّرات العولمة السلبية على التنمية العربية على المستويين الوطني والقومي، وبالتالي افشالهما.
ذلك انّه، بالرغم من كل الخطابات الدعائية الرنّانة المادحة للعولمة، الا ان للعولمة جوانب سلبية تحتاج ايضا الى مواجهة على المستويين الوطني والقومي.
ان اصرار القوى الفاعلة الضّاغطة في المسرح الدولي العولمي على الازالة الكاملة للأسوار الجمركية الضرورية احيانا لحماية المشاريع الصناعية والخدمية الوليدة، واحتقارها للتخطيط المركزي للتنمية الوطنية، وايمانها الجنوني بقدرة حرية الأسواق ونظامها التنافسي على حلّ كل القضايا الاقتصادية والاجتماعية والفردية، ودفعها بقوة لتتخلّى الدولة عن مسؤولياتها في الرعاية الاجتماعية وعلى الأخص للفقراء والمهمّشين ووضع تلك المسؤولية في يد القطاع الخاص، ونشرها بكل الوسائل الاعلامية والاعلانية لثقافة الاستهلاك المادي النّهم المجنون والابتعاد عن ايّ ادخار او توازن حياتي او تقشّف معيشي وذلك من خلال بناء انسان فردي مبالغ في استقلاليته الفردية وفي عدم التزامه بالروابط والضوابط العائلية والاجتماعية والوطنية، ورعايتها لكل الاتفاقيات الدولية المفروضة التي تحيل العالم كله الى ساحة ترتع في جوانبها بحرية كاملة الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للحدود وذلك على حساب كل ما هو محلُي ووليد، ان كل ذلك لا يمكن ان يصَب في صالح التنمية الانسانية الوطنية ولافي صالح التنمية الانسانية القومية.
لكن كل تلك الجوانب السلبية، الكامنة في النظام الرأسمالي العولمي المتوحش الذي يقود العولمة، لا يمكن مقاومتها اذا لم تواجه على مستوى تكتُل عربي كبير. وإذا كان ذلك قد اصبح من شبه المستحيلات في هذا الجحيم الذي تعيشه امة العرب من جراء المؤامرات الخارجية وتنامي الهمجية التكفيرية من قبل القاعدة الأم وفراخها وارتكاب اخطاء فادحة من قبل اشكال من الأنظمة التسلطية الفاسدة.
التنمية الانسانية العربية في محنة والتعامل مع مفشليها يحتاج ان يكون في قمَة جدول اعمال الحياة السياسية العربية.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

903 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع