خالد القشطيني
مما يلفت النظر في بريطانيا أن كلابها لا تنبح، وقططها لا تموء، وحميرها لا تنهق، وخيولها لا تصهل. تجد هذه الحيوانات في كل مكان، ولكن لا تسمع صوتها. وعندما ينبح كلب تجد صاحبته تبادر لإسكاته بخجل: «اسكت يا حبيبي، بعدين الناس يفتكرونا ما عندنا أدب».
ثم تعتذر للحاضرين: «كل هؤلاء العرب والعجم تعلم منهم سوء الخلق».
وإذا سمع أحد نباحًا من كلب جاره، أخبر الشرطة فتسرع لتنذر صاحب الكلب بأشد عقوبة لتجعل منه – أي الكلب - عبرة لمن يعتبر. تسري هذه القاعدة على الديكة أيضًا. فمن ظواهر الريف الإنجليزي أنك لا تسمع فيه صياح ديك، فتتصور أنه لا يوجد عندهم ديكة فتعجب من أمر الدجاجات وكيف تقضي وقتها وتضع بيضًا وتتكاثر.
وهذا على خلاف الأرياف العربية. فأنا مثلاً لا أتذكر شيئًا من خطب الرؤساء والزعماء في العراق، ولكنني أتذكر صياح الديكة ونباح الكلاب. لا يطر الفجر إلا وأسمع الديكة توقظنا وتذكرنا بأن يومًا تعيسًا آخر ينتظرنا.
وهذا غير جائز في الغرب. فمما سمعته قبل سنوات أن سكان منطقة ويلز احتجوا لدى البلدية على صياح الديكة من بيوت بعض العراقيين. الظاهر أن هؤلاء الناس قد استوردوا ديكتهم من إيران، حيث لا يجوز لأي أحد أن يقاطع الملالي بصوت واحد عندما يخطبون ويلقون وعظهم. قال الويلزيون إن صياح الديكة سيدمر السياحة في المنطقة حالما يسمع الناس بأن هناك ديكة تصيح في ويلز. استجابت البلدية بنصب مسجلات صوت تسجل هذه الأصوات ليعاقبوا أي ديك يجرؤ على فتح منقاره بالصياح بقطع رقبته على نحو ما يفعل الداعشيون. وسمعت بأنهم وضعوا إعلانات على الأشجار تحذر أي ديك من رفع صوته، دونما يقتضي لمغازلة دجاجاته.
هذا في الواقع ما يفرق بين المجتمعات الشرقية والغربية. فعندهم في الغرب يكممون الحيوانات ويمنعونها من رفع صوتها. هكذا رأيت في فرنسا عشرات الكلاب وعلى فمها كمامات معدنية. لا يجوز لها أن تنبح. ولكنك تراهم يسمحون لبني الإنسان بالكلام، بل ويشجعونه على رفع صوته. تولى بعضهم أعلى المناصب لمجرد أنه كان يرفع صوته.
تنعكس الآية تمامًا في مجتمعاتنا الشرقية. تراهم يكممون أفواه العالمين ولا يسمحون لهم برفع صوتهم في حين يسمحون للكلاب والقطط والحمير بأن تعوي وتموء وتنهق كما يعجبها. من ذكرياتي في بغداد أنني كنت أستمع لأحد الشعراء الوطنيين يجعجع بقصيدة حماسية في باب المعظم، وكنا نستمع إليها بإعجاب. وقد
اعتاد المكارية على ربط حميرهم على جانب من الساحة. ويظهر أن أحد الحمير قد تضايق من سماع هذه القصيدة الحماسية فانطلق بالنهيق. فما كان من الشاعر غير أن توقف عن إلقاء قصيدته وترك الحمير تنهق وتنهق حتى تعبت حناجرها، أو ربما حتى لاحظت أن الشاعر قد توقّف من النطق فسكتت. وعندها ابتسم الشاعر نحوها كمن كان يقول لها «شكرًا». وواصل قصيدته. وهذا مما يدل على الأولوية التي نعطيها للحيوان بالكلام على حساب بني الإنسان.
919 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع