بين لغة العلم ولغة الفن

                                                               

                                 أ.د. محمد الدعمي
لغة العلم لغة دلالية denotative، تكون الصلة بين اللفظ (الرمز) والمدلول أو (المرموز له) صلة مباشرة ودقيقة، لا مجال فيها للتوهم أو الإيهام والإبهام. ومن ناحية ثانية، تكون لغة الأدب دائمًا لغة إطناب، أي لغة مثقلة connotative، لا صلة مباشرة فيها بين اللفظ (الرمز) والمدلول، نظرًا لميل الأديب إلى توظيف الخيال وإلى الاستئناس بأبعاد فوق لفظية، مثل الزمن والمكان، وهكذا.

يميل العقل الغربي إلى الاختزال والاكتفاء بأدنى درجات الترميز لبلوغ المعنى والدلالة في توظيف اللغة، بدليل اختراعه أنواع وسائل الاتصال التي تستغني عن اللغة التقليدية، ومنها توظيف الرموز الرقمية الشائعة اليوم، ومنها كذلك ابتكار علامات المرور التي توظف أشكالًا وألوانًا صورية للاستغناء عن شروح أو جمل مطولة. لذا ظهر علم العلامات semiotics الذي يرصد ويدرس العلامات ومعانيها ودلالاتها حسب قياسات اجتماعية وثقافية متنوعة.
على عكس ذلك بقي العقل الشرقي والعربي خاصة متشبثًا بالإطناب والحشو، نظرًا لأن بيئته وتطورها العلمي لم تفرض عليه ما فرضت على العقل الغربي من لوذ بالاختصار والعلامات والرموز. العقل العربي لم يبتكر علامات المرور، نظرًا لأن الإنسان العربي يتجذر في البادية: وفي البادية لا يحتاج حادي العيس لعلامات مرورية، فهو يطفو على خلاء الصحراء دون حاجة لدقة الاتجاه ولتحاشي الارتطام أو دهس الأوادم. كانت هذه الحال وراء ابتكار العقل الغربي لعلامات تقييس دقيقة، النظام المتري (الفرنسي) أو النظام الإنجليزي، جريًا وراء الدقة التي لا يمكن لـ”الفراسخ البحرية” أو لمقاييس البادية من نوع “شمرة عصا” أن تتيحها بذات الدقة!
وإذا كانت ثقافة العرب شعرية التبأور، فإن هذه الصفة هي التي تكمن على الميل للمبالغة والإطناب، ذلك الميل الذي يتبلور حتى في طرائق كتابة العناوين البريدية: في العالم الغربي، غالبًا ما يكتب العنوان البريدي على النحو التالي: رقم البناية، اسم أو رقم الشارع، زائدًا رقم صندوق البريد، ورمز المدينة الرقمي مع اسمها. أما في عالمنا العربي، فإنك تجد العجائب في عناوين الأمكنة، كما في التالي: دار العم عفتان، مقابل حلويات الشكرجي، الفرع الثالث يسارًا شارع النصر العام/بغداد! وهي حال تستدعي التندر.
تقبع هذه المفارقة على الفارق بين لغة العلم ولغة الأدب، فنًّا. لغة العلم المثالية هي لغة اختزال وترميز، بدليل أنك إذا سألت عالمًا في الكيمياء أو الفيزياء: “ما الماء؟”، تكون أفضل وأدق إجابة هي “H2O”؛ أما إذا سألت شاعرًا، “ما الماء؟” فإنه سيسهب في اللف والدوران حول الـ H2Oليكتب نصًّا يطول صفحات، بل وفصول من كتاب، أحيانًا! ثم يخفق في تجهيز الاستفهام بجواب يرقى إلى دقة الرمز الكيميائي أعلاه للماء.
لغة العلم لغة دلالية denotative، تكون الصلة بين اللفظ (الرمز) والمدلول أو (المرموز له) صلة مباشرة ودقيقة، لا مجال فيها للتوهم أو الإيهام والإبهام. ومن ناحية ثانية، تكون لغة الأدب دائمًا لغة إطناب، أي لغة مثقلة connotative، لا صلة مباشرة فيها بين اللفظ (الرمز) والمدلول، نظرًا لميل الأديب إلى توظيف الخيال وإلى الاستئناس بأبعاد فوق لفظية، مثل الزمن والمكان، وهكذا. أي أن لغة الأدب هي لغة أكثر وأعمق تعبيرية عن خوالج وعواطف الإنسان الذي يستخدمها. إذا سألت شاعرًا أن يعرف “القمر”، فإنه لا يمكن قط أن يجهزك بالبيانات التي احتاجت إليها وكالة الفضاء الأميركية NASA لإنزال أول رجل على سطح القمر، أرمسترونج (1968)، أما إذا ما سألت شاعرًا عن القمر، فإنه سيفاجئك بعشرات، أو ربما بمئات احتمالات إدراكه للفظ القمر، من صورة حبيبته إلى صورة المرشد في متاهات الصحارى العربية!

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

792 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع