د. علي محمد فخرو
في مجتمعاتنا العربية نتكلم كثيراً عن أهمية ونبل التراضي فيما بين بعضنا بعضا ونحاول ممارسة التراضي من خلال تعابير نمطية فيها الكثير من النَّفاق الاجتماعي أو الكثير من مخدَّرات الضمير الذي بطبيعته لا يرضى الظلم ولا يستطيع التعايش معه.
فمثلاَ، من التعبيرات النمطية ما يقوله أتباع المذاهب والطوائف الفقهية الاسلامية عن بعضهم بعضا، من وجود أخوة دينية فيما بينهم مبنية على المحبة والاحترام والتراحم، وبالتالي عدم القبول بأن يقع الضَّرر على أتباع أي مذهب بسبب التمييز أو التهميش أو التسلُّط . وللتدليل على وجود تلك الأخوة المتفاهمة المحبًّة يتفاخرون بالتزاور في مناسبات الزواج والأعياد والوفيات، وبالتزاوج فيما بينهم حتى ولو كانت النسبة لا تزيد عن خمسة في المئة، وحتى لوكانت تجري وراء الكواليس والأبواب المغلقة كل أنواع التساؤلات والشروط والاعتراضات والتحذيرات.
والأمر نفسه ينطبق على أصحاب الديانات أو الأصول العرقية أو الانتماءات القبلية والعشائرية المختلفة. هناك أيضاً تعابير نمطية وادعاءات بوجود الأخوة والمحبًّة وعدم القبول بالتمييز أو الاستعلاء أو الظلم.
تلك التعابير قد تكون صادقة عند البعض القليل من أصحاب الضمائر والأخلاق الانسانية والاستنارة الاجتماعية.
لكن قلب موضوعنا ليس في وجود أو عدم وجود تلك التعابير الأخوية وتبادل المجاملات والزيارات، بل وحتى انتشار وقبول التزاوج بنسب كبيرة.
كل ذلك حدث عبر تاريخنا بنسب مختلفة في كل أقطار الوطن العربي ودون استثناء. لكنه لم يمنع طغيان فئة على فئة من خلال سياسات الاستئثار بالمال والسلطة والجاه والامتيازات الظاهرة والخفيًّة، وبالتالي لم يمنع تفجُّر الصراعات الدينية والطائفية والقبلية، ووصول بعضها الى حالات الحروب الأهلية.
الموضوع هو كيف الوصول الى مجتمع فيه تعدُد ديني ومذهبي وعرقي ولغوي وثقافي، ولكنه مع ذلك مجتمع ينعم بالسلام الأهلي دون حاجة لممارسة سياسات التراضي التي وصفنا، القائمة على النًفاق والتعابير النمطية المخادعة والكاذبة أحياناً، والتي لا تمنع حدوث الصراعات والانفجارات وقيام النظام السياسي الفئوي المتسلط. وبمعنى آخر جعل التعدُد الديني والمذهبي والثقافي مصدر اغناء لحياة المجتمع ومصدر تفاعلات تدفع بالمجتمع الى السمو والتحضُر.
والجواب هو بترسيخ مفاهيم العدالة التي لا ترفض فقط الظلم وانما العدالة التي تمنع حدوث الظلم.
ونحن هنا لا نتحدث عن وجود حاكم عادل في بيئة ظالمة وفاسدة وتمييزية، وانما نتحدث عن وجود نظام عادل في مكوناته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية من خلال احتواء مفهوم العدالة على أجوبة محدًّدة بشأن قضايا من مثل الحرية والمساواة وحقوق الانسان وواجباته والمواطنة وتوزيع الثروة وتبادل السلطة وشرعية القوانين وعلاقات السلطات الثلاث ببعضها بعضا الخ....
بالنسبة لنا كعرب فان هذا الطرح بهذا الشكل مهم للغاية، اذ ان تراثنا انشغل بمواضيع العدالة الالهية، وبالتالي أصبح العدل مساويا فقط لتطبيق الشريعة وعدم الخروج عن نصوصها، كما أنشغل بصفات الحاكم العادل، بينما أهملت الأسس النظرية للعدالة والتنظيمات الضرورية لتواجدها حتى تتواجد كممارسة في الحياة اليومية المجتمعية.
من هنا فان علاج تلك الصراعات والمشاحنات التي وصفنا، اذا كان سيأتي عن طريق ارساء دعائم العدالة، فانه يجب أن يستفيد من المناقشات الغنية العصرية حول العدالة، والتي تشترط على الأقل وجود المكونات والمضامين التالية:
المساواة في الحقوق والواجبات، بما فيها المساواة في الفرص والمساواة بين الرجل والمرأة، بصور نسبية بالطبع، ولكن مرتبطة أشد الترابط بمبادئ التكافل والتراحم والخير العام.
العدالة الاجتماعية التي تقوم على توزيع عادل للثروة ومنع وجود فوارق كبيرة بين الأغنياء والفقراء ومنع استغلال جهد الآخرين من قبل أي أقلية، ورفض التمييز في الفرص الحياتية.
علاقات سياسية واجتماعية قائمة على مبدأ المواطنة المتساوية، وشرعية القوانين وتساوي الجميع أمامها وانفاذها من قبل قضاء نزيه، واستقلال وحيوية المجتمع المدني بعيداً عن أي هيمنة، واحترام لشتى أنواع الحريات الفردية والجمعية في التعبير والتجمُّع وغيرهما.
وجود مثل تلك العدالة، المقنًّنة لتلك النقاط الأساسية، كفيل بانتقالنا من ممارسات التراضي والمجاملات الى ممارسة العيش المشترك بسلام وطمأنينة وأخوة حقيقية في المواطنة والانسانية.
وهي عدالة منسجمة الى أبعد الحدود ومكملة للعدالة الالهية التي نادت بها جميع الشرائع السماوية، كيف لا وربُّ العالمين هو العدل المطلق.
934 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع