عصام شرتح
اللذة الجمالية في الحقول المعرفية
إن لكل فن من الفنون، وأدب من الآداب لغته الخاصة به؛ وهذه اللذة لا تحققها إلا المنتجات الإبداعية المؤثرة فنياً؛ وهذه المنتجات لا ترتقي فنياً إلا بمقدار الإثارة والاستثارة الجمالية التي تولدها في نفس المتلقي؛ وهذا يعني أن لكل عمل إبداعي فني مؤثر جمالية خاصة به لا تتحقق إلا بفضل الإدراك والإحساس الجمالي، والدربة الفنية في تلقي المنتج الإبداعي، بسيولة شعورية؛ وحساسية واعية، شديدة الرهافة والإحساس والتأثير.
والفنان- لب ما يطلبه في منتجه الفني- أن يثير اللذة في التلقي، وأن يصيب مرمى هدفه من وراء منتجه الفني، مشبعاً غريزته التأملية بلذة الاستغراق، وشحنة التفريغ إثر لحظة الضغط النفسي، وتوتر الحالة الشعورية المحتدمة، والمواكبة للحظة المخاض الإبداعية، أو لحظة الخلق الفني؛ وعلى هذا الأساس ؛ تكاد معظم الدراسات النفسية، والفلسفية، والأدبية، والفنية، تجمع على أن اللذة الجمالية مصدرها المنتج الفني، وحساسية المبدع الجمالية لحظة تشكيل المنتج، وهذا يعني أن اللذة الجمالية هي جوهر المنتجات الإبداعية على اختلاف مشاربها، وتعدد أساليبها، ومؤثراتها الفنية، لأن اللذة الجمالية مصدر جمالية المنتج الفني، ولهذا، فإن كل ما يثير اللذة يدخل ضمن إطار الفن، أو ما يدور في فلكه من متعة، ومجاذبة، ومفاعلة بين المنتج ومتلقيه؛ الذي لا بد له من أن يمتلك الحساسية والرهافة ليكون قادراً على ترجمة مخزونه الجمالي بلذة جمالية، ومتعة فنية، وتناغم إيحائي تقني فاعل يقول غراهام هو:" التناغم عامة يتضمن إعادة فعالة للتوافق بين العناصر المتنوعة، وليس تماثلاً سلبياً، فالهجاء والأدب الساخر يستفيدان فائدة جمة من تجاور الأضداد، ومن صدام المشاعر أو النبرات بشكل فظ حيناً، وعنيف أحياناً أخرى. هذا كله يجب اعتباره مستوعباً ضمن الكل، فهي تنافرات ضمن تناغم نهائي، بعيدة عن الحشو والخطأ"( ).
وتبعاً لهذا؛ فالتناغم والانسجام تعدان خاصيتان مهمتان من مستثيرات اللذة الجمالية في المنتجات الإبداعية المثيرة، خاصة تلكم المنتجات التي تتطلب توظيفاً فنياً دقيقاً للإيقاع كلغة الشعر، والموسيقا عامة.
ومن هذا المنطلق، فإن التجربة الإبداعية المثيرة هي التي تحقق مخزونها الفني، ولذتها المثيرة؛ وعلى هذا الأساس-" تنقسم التجربة الجمالية إلى مجموعتين من الظواهر تنبع من حالة خاصة للتأمل: تلك التي توجد لدى الهاوي الذي يقرأ قصة أو قصيدة شعر، أو ينظر إلى لوحة، أو تمثال، أو يستمع إلى مقطوعة موسيقية، باعتبارها أعمالاً فنية أبدعها إنسان ما بحيث تبعث السرور إلى نفوسنا. وباعتبارها غير موجودة في الطبيعة؛ لأنها من إنتاج عمل بشري؛ وهكذا يصبح الفن- كما قال (ليكون) عبارة عن الإنسان مضافاً إلى الطبيعة، والمراد بالإنسان هنا الإنسان وما أبدعته يداه"( ).
وبهذا التصور ، تتحدد جمالية التجربة بمقدار إثارتها للنبض الإنساني، لتخلق اللذة الجمالية في التواصل الإبداعي الخلاق بين الفنان والمتلقي، وهنا، جاء تساؤل جان برتليمي مشروعاً حين يقول متسائلاً:" هل يعتبر الفن قبل كل شيء إنتاجاً للجماعة؛ سواء تم التعبير عنه مباشرة مع إغفال اسم مبدعه، أم أنه، لكي يخرج إلى حيز الوجود، ينطبع بشكل الفنان واسمه، مادام الفنان هو الذي يخلقه ويستخدم منها أدواته هو؟ أم أن العبقرية الإبداعية ميزة خالصة للفرد الذي يخرج كل شيء من صميم أعماقه هو دون أن يدين بشيء لبيئته أو لمجموعته التي يعيش فيها"( ).
لا شك في أن الإجابة عن تساؤلات برتليمي تضعنا في جوهر الكشف عن اللذة الجمالية في المنتجات الإبداعية العبقرية؛ هذه اللذة التي تحدثها الشرارة الإبداعية المتقدة في نفس المبدع لحظة الخلق الفني أو الكشف الفني؛ والفنان الماهر هو الذي يستثير المتلقي بلذة منتجه بوعي، وإدراك فني؛ غايته الاستثارة والتحفيز الجمالي، ولهذا، اختلفت معايير اللذة الجمالية عند أهل الفن والفلسفة والنقد والأدب، كل على هواه، وبحسب منظوره لفنه وإبداعه؛ ولذا ، سنقوم بدراسة المعايير أو المفاهيم الجمالية في تحديد جمالية المنتج ؛ عند كل منهم؛ والمؤثرات التي تستثير اللذة الجمالية في كل منتج فني من المنتجات الإبداعية، وفق ما يلي:
أولاً- اللذة الجمالية في الفلسفة.
لا شك في أن الفلاسفة هم أوائل الباحثين الذين نظروا إلى الجمال، وأولوا عنايتهم الكبرى بفلسفة الجمال؛ والمثير- حقاً- أنهم عدوا اللذة الجمالية وليدة حالة من التوازن أو مرحلة العدم واللاشعور، أو كما يقال مرحلة الهذيان؛ والنشوة المطلقة؛ وبزعمهم أن اللذة هي حالة من السكر، وانعدام المنطق، والعقل؛ وهي المنطقة الوسطى التي تسكن بين الوعي واللاوعي، وتشعر المتذوق الجمالي بمتعة ورعشة شعورية عميقة لا يستطيع تفسير مغزاها أو شرح تأثيرها على النفس؛ ويرى الكثيرون منهم أن اللذة الجمالية هي التي تنتج عن إحساس شعوري بالارتياح، أو عن لذة الحواس إثر إشباع الغريزة أو الاستعداد الغريزي عند الكائن لحظة تمازج الإحساس بالإشباع الغريزي، وهذا ما أشار إليه جان برتليمي بمقارنة بين اللذة الملموسة واللذة الجمالية الروحية اللاملموسة؛ إذ يقول:" إن اللذة الملموسة هي التي تكشف لهذا الحيوان، الذي هو أنا على عالم الاحتياج والغريزة. ولذة الفهم تحدد استعدادي العقلي للدخول في عالم الأفكار. أما اللذة الجمالية فهي التي تشهد بأني أستطيع الوصول إلى عالم الفن، وهي بهذه الصفة قادرة على إرشادي عما يتعلق بهذا العالم نفسه، وهي لذة مركبة لكل من الجسد والروح نصيب فيها، ولهذا السبب تأرجح الفلاسفة دائماً بين الحسية والعقلية"( ).
وبناءً على هذا، اختلف علماء الجمال والفلاسفة حول تفسير اللذة الجمالية ، فمنهم من قرنها بالغريزة، ومنهم من قرنها بالروح، والإحساس الروحي، والنشوة، والمتعة، وتبعاً لهذا أكد ( بيرجسون) أهمية الإدراكات الحسية المتعلقة بالمتعة الجمالية ، وبيَّن دور هذه الإدراكات في تحقيق المتعة الجمالية، أو اللذة الجمالية، في غير محسوس لا يستثير اللذة، وهذا ما أشار إليه في قوله:" إن الإدراك الحسي نوع من الراحة والسهولة في الحركات الخارجية، يرجع إلى الشعور بالانسجام ، بمعنى أن الجهد الذي يبذله الفنان ينحصر في تحديد الحركات التي يقلدها جسمنا آلياً رغم أنها خفيفة، بحيث تضعنا فجأة في الحالة السيكولوجية التي أثارتها، والتي لا يمكن تعريفها أو تحديدها"( ).
وبهذا التصور، فإن تفسير اللذة لا يمكن للمرء أن يتحثثها أو يدركها؛لأنها حالة لا شعورية ترتبط بحركات جسمنا الآلية اللاإرادية االتي ترتبط بالنشوة، أو الشعور بالطمأنينة والارتياح؛ وبهذا المقترب الرؤيوي ، يقول( جيمس) :" إن ما يمكن أن نحس به في اللحظة التي يثيرنا فيها الجمال عبارة عن وميض، ودقة في الصور، ورغبة، وتنفس عميق، وخفقان في القلب، وهزة في الظهر، ودمع تأتي إلى العيون، وألم في أسفل البطن. وعدا ذلك من آلاف الأمراض التي يمكن تسميتها"( ).
وبهذا التصور، فإن اللذة الجمالية كما تقترن بالاستعدادات النفسية والجسدية، فإنها تقترن بالنبض الروحي، والاطمئنان الشعوري؛ وتبعاً لهذا، بالغ الفلاسفة في ربط اللذة الجمالية، بالنواحي البيولوجية والممارسات اليومية الاعتيادية؛ كالطعام والشراب، والنوم والحلم؛ يقول أدهم في فن الموسيقى والتأثير الذي تحدثه الموسيقا في النفس الإنسانية، ما يلي:" إن أمعاءنا هي المسؤولة عن كل شيء تقريباً"( ). أي : هي المسؤولة:" عن كل شيء ما لا يمكن قياسه والتعبير عنه بقصد سكر النفس ونشوة الروح"( ).
واللذة الجمالية- من منظور الفلاسفة- هي لذة ترتبط باللاشعور ارتباط الشعر بالروح، أو النبض الروحي ، ولهذا، يقول جان برتليمي:" إن الشعر والوحي الشاعري- يوجدان أصلاً في الظلمات المضيئة لفوق الشعور للاشعور الروحي"( ).
وكما أن اللذة الجمالية قرينة ما هو لاشعوري، فهي بنظر الفلاسفة لذة لا شعورية لا يمكن تحثثها أو ترجمتها بشكل دقيق؛ ذلك أن اللذة الجمالية لذة غير مدركة/ أو لذة متأبية على التفسير والتحديد، نظراً إلى تعدد مصادرها ومستثيراتها الجمالية؛ لأنها تقترن بكل ما هو روحي، ولهذا قرنها بعضهم بالنشوة والسكر الروحي؛ نظراً إلى ما تتركه في النفس من متعة، وطمأنينة، وارتياح، يقول الفيلسوف( كانط):" إن الجميل هو الذي يبعث السرور بصورة كلية، وبدون تصور محدد.. وهو الذي لا يقبل الانفصال عن تتابع الأنغام أو المقاطع التي تطرق أذني، وعن الألوان التي تقع تحت عيني،فالشكل الملموس لا يحوي شيئاً آخر غير ذاته؛ وما من شيء يمكن أن نبحث عنه خلف اللوحة، أو فيما وراءها، وما اللوحة برمز أو بغاية"( ).
وهذا بديهي- من منظورنا- أن الشيء الجميل يستثير اللذة الجمالية أو يحقق المتعة الجمالية لحظة تلقيه، والفن بوصفه خلقاً إبداعياً ينشط حركة اللاشعور أو حركة اللاوعي، لإنتاج قواه الإبداعية، وتبعاً لهذا؛ ناقض ( يونغ) نظرية( فرويد) حين قال:" إن الكائن البشري يميل بطبعه إلى حب الحياة، وذلك بفضل قوة إبداعية تضطره دائماً وأبداً ، وحتى من دون أن يدري إلى أن يكون لنفسه توازناً إلى تخطي العقبات الداخلية، وإلى حل المتناقضات لكي يكتمل دائماً ، ويزداد اكتماله مع الزمن"( ).
وهذا، لا يعني إطلاقاً أن مرحلة اللاشعور قوة هذيانية هدَّامة لا بناءة للفن بل هي منظمة للفن وهذا ما أشار إليه برتليمي بقوله:" قد يكون من الخطأ حقاً أن نعتقد أن اللاشعور لا ينطوي إلا على قوى مفسدة هدامة ترمي إلى تغييب الشخصية المعنوية، لأنه كذلك مقرّ لاتجاه إلى السيطرة على هذه القوى الجارفة، وإلى إيجاد النظام والوحدة في نفوسنا"( ).
وهذه الوحدة هي القادرة على الربط لا شعورياً بين حيثيات المنتج الفني، لخلق اللذة الجمالية في بنيته وشكله الفني، وتأسيساً على هذا، تعد اللذة الجمالية – من منظور الفلاسفة- قيمة جمالية ذات جاذبية عظيمة تعمل على تفعيل المتلقي، وجذبه لا شعورياً إلى منتجه الفني، ولهذا، قرنها الكثير من الفلاسفة بما هو جسدي ملموس أو محسوس، وبما هو شعور باطني عميق، شعور يشف إلى ما وراء الواقعي إلى ما هو روحي؛ ولهذا وصف الفيلسوف الوجودي( جوتة) الشعر بالفن الروحي الذي يؤذن بالخلاص، قائلاً:"إن الشعر خلاص لأننا نخف فجأة، ونتخلص من احتياجاتنا ومشاغلنا وخيبة آمالنا ورغباتنا، ونتخطى فجأة متاعبنا وكل ما يشغل بالنا، وتفاهة الوجود، وننسى آلامنا وملذاتنا. إذ إن ملذاتنا ذاتها عديمة القيمة، وتنفجر كما تنفجر فقاعات الصابون إزاء السعادة التي تسيطر علينا الآن"( ).
ومن هذا المنطلق، عد الفيلسوف ( جوتة) اللذة الجمالية منبع الفن، أو منبع إثارة الفنون، ومنبع السعادة أو اللذة التي تستثيرها الفنون جميعها في المتلقي، وبهذا الخصوص، يقول جان برتليمي:" إن اللذة الجمالية لا تسلبنا من هذا العالم إلا لتكشف لنا عن عالم آخر، وتعدنا لهذا النوع من الوجود الذي يتصف بالنزوة، والكمال، والنشوة، والهدوء ،الذي نهدف إليه شعورياً ولا شعورياً"( ).
وهذا يعني أن اللذة الجمالية التي تخلقها النصوص الإبداعية تزيدنا دهشة، وتسلبنا من هذا العالم إلى عالم المثل والقيم الروحية، محققة فينا اللذة، والسكينة ، والارتياح، والنشوة الروحية المطلقة.
وما شدد عليه الفلاسفة وأكدوا عليه، ابتداءً من أفلاطون إلى كانط، وفرويد: أن النشوة الروحية أو اللذة الجمالية لا تتأتى إلا من تلقي الشيء الصادم اللامتوقع الذي يستثير الدهشة، ويخلق متعة الإبداع التي تخف بالمرء إلى التحليق في سمائها، بدهشة لا متوقعة وشهقة لا شعورية إزاء تلقي المشهد الصادم، وبنظر الفلاسفة جميعهم أن أي منتج أدبي أو فني لا يحقق اللذة الجمالية، ويستثير الدهشة والمفاجأة الصادمة ينتفي أن يكون فناً أو ينتفي أن يكون منتجاً إبداعياً مؤثراً؛ وما شدد عليه الفلاسفة وعلماء الجمال وأكدوا عليه أيضاً: أن اللذة الجمالية ليست قرينة المنتج الإبداعي المثير فحسب؛ وإنما هو كل ما يثير اللذة، ويحقق المتعة يدخل في نطاق الفني/ أو الجمالي طالما أنه يحرك المشاعر، ويستثير الأحاسيس؛ وبهذا المنزع يقول( بودلير) :" إنها هذه الغريزة المدهشة الأزلية للجمال التي تجعلنا ننظر إلى الأرض ومناظرها كملخص أو تقابل للسماء. إن العطش الذي لا يروى لكل ما هو فيما وراء الدنيا، والذي يكتشف عنه الحياة لهو أقوى دليل على أبديتنا، والروح ترى عن طريق الشعر، ومن خلال الشعر.. عن طريق ومن خلال الموسيقا ترى الأشياء العليا التي تقع فيما وراء القبور، وعندما تجلب قصيدة شعر جميلة الدموع إلى حافة العيون فإن هذه الدموع ليست دليلاً على سرور مبالغ فيه، بل هي بالأحرى شاهد على طيف قد اهتاج، وعلى توتر في الأعصاب، وطبيعة كانت حبيسة ما لم يكن مكتملاً، لتصل إلى جنة تكشفت"( ).
وبهذا الإحساس يتنامى دور الفن- من منظور الفلاسفة- عبر تحقيق اللذة الجمالية؛ وبقدر استثارة المنتجات الفنية لهذه اللذة ترتقي فنية المنتجات الإبداعية؛ وتحقق سيرورتها الجمالية. ولهذا، يرى الفلاسفة أن كل مصادر اللذة الجمالية لا تنشأ إلا من مصدر جمالي فحسب؛ أو من مصدر إدهاشي مباغت؛ غير متوقع ، ولا مدرك على الغالب.
بعض المزايا والمآخذ على منظورات الفلاسفة:
أولاً- المزايا:
1- ما يحسب للفلاسفة أنهم قرنوا اللذة الحسية باللذة الروحية في تلقي الاستثارة الجمالية، وهذا صحيح، إذ لا يمكن أن تحدث النشوة الروحية إن لم يتم تحثث المنتج الفني، وتلمس مثيراته، ومغرياته الجمالية.
2- ما يحسب للفلاسفة أنهم عدو اللذة الجمالية شعور إبهامي غامض، قد يخفى علينا إدراكه، أو كشف مصدره؛ وهذا صحيح أيضاً، لأن الكثير من المتع الروحية لا نفهم مصدرها سوى ما تتركه من آثار واهتزازات جمالية في أعماقنا.
3- إن ما يحسب للفلاسفة أنهم ربطوا اللذة الجمالية بالتأثيرات الحسية التي تتركها المثيرات الفنية وكذلك بالتأُثيرات الروحية، وهذا صحيح، لأن الكثير من الأمراض العضوية ذات منشأ نفسي؛ وبالتأكيد فما هو لذيذ روحياً سيترك صحته على الأعضاء الجسدية ولذته في الحراك الجسدي أو التنشيط الجسدي والعكس صحيح.
ثانياً- المآخذ:
1- ما يؤخذ على الكثير من الفلاسفة مبالغتهم فيما ذهبوا إليه بربط نشوة الفن بالمتعة الجسدية أكثر من ربطها بالنشوة الروحية، فعلى الرغم من اعترافهم بأن اللذة مصدرها الحساسية في عالم الباطن واللاشعور، لدرجة أنهم عدوا حركة الجسد مصدر النشوة وسموها الروحي وارتقاءها، وهذا غير دقيق، إذ إن الكثير من الملذات- بتقديرنا-لا يمكن تحثثها أو تمثلها إلا روحياً، وما تثيره فينا من اهترازات في استعداداتنا وحركة أرواحنا.
2- ما يؤخذ على الكثير من الفلاسفة أنهم عدوا النشوة الروحية لذة جمالية يولدها الفن في إطار ما هو حسي أو محسوس فقط، مهملين الجانب الروحي، أي أنهم: فصلوا بين اللذة الحسية، واللذة الروحية، وعدوا كل لذة منفصلة عن الأخرى، وهذا ليس بصحيح فما يثيرنا حسياً، بالتأكيد، سينعكس تأثيره على ما هو غير حسي، على حركة أرواحنا واهترازاتها الشعورية؛ وهذه لذة الفن الإبداعي الحقيقي الأصيل التي يتمثلها في النفس إثر تلقيه الجمالي
ثانياً- اللذة الجمالية في الفن.
لا شك في أننا قد تعرضنا لهذه الفقرة من سابق ، لكننا لم نتعمق في تحديدها، بوصفها الرابط الجمالي والإبداعي الخلاق للتفاعل بين المبدع والمتلقي؛ لأن القيم التي يولدها الفن تسمو على جميع القيم التي تولدها اللذات الحسية الأخرى؛ وترتقي فوقها درجات؛ إذ إن الفن الإبداعي الحقيقي، لا يترك إثره إلا عندما يراوغ متلقيه بطرائق إبداعية جديدة لا نعهدها في فن آخر من الفنون ، وتبعاً لهذا؛ يمكن القول: إن الفن الإبداعي الحقيقي هو الذي يترك لذته الجمالية الدائمة في المتلقي؛ بمخزونه الفني وحيويته الخصبة التي تنشط المتلقي، وتُفَعِّله إبداعياً للتفاعل مع المنتج الفني؛ وبما أن اللذة مصدر نشوة الفنون الإبداعية جميعها، فإن أبرز ما يستثيرها مجموعة القيم الجمالية التي تنطوي عليها، أو تتأسس عليها معظم الفنون في رؤاها وقيمها الجمالها؛ وبهذا الخصوص يطالعنا الناقد الجمالي(سترافنسكي)لأحد المعجبين بفنه، إذ يقول:" آه، إنك تبكي وتضغط على أسنانك .. إيه أرجوك أن تعلم شخصياً أني لم أبك حين كتبت هذا"( ).وبهذا المعنى؛ فإن اللذة التي تخلقها الفنون جميعها تتأبى عن التنميط أو التحديد؛ إذ إن لكل منتج فني لذته وفنيته ودهشته الإبداعية؛ فما يستثير منتجاً فنياً ما قد لا يستثير منتجاً فنياً آخر، وما تحققه بعض المنتجات الفنية قد يكون سلبياً في منتجات فنية أخرى، وهذا يؤكد صحة ما ذهب إليه جان برتليمي في قوله:" إن العوالم الفنية حقائق أصلية لها وسائل عمل خاصة لها، تستعيرها بعضها من البعض الآخر أحياناً، ولكنها تتأبى عن أي تصنيف، أو مواجهة منطقية، ولعل أكثر الوسائل خصوبة وجمالية هي التي تعمل على اكتشاف كل منها لذاته اكتشافاً مستقلاً؛ ولا يمكن أن يكون هناك منهج للفنون الجميلة"( ).
وبما أن لذة الفن لذة متأبية عن التنميط والتحديد؛ فإنها كذلك لذة لها مصادرها المختلفة؛ تبعاً للطبائع الفنية أو القدرات الفنية التي ينماز فيها فنان عن آخر؛ لهذا، يقول فاليري :" أما عن نفسي فإني أعتقد أن جميع الناس على حق، وأنه يجب أن يعمل كل كما يريد"( ). وتبعاً؛ لذلك تختلف اللذة في كل منتج فني عن الآخر؛ وفقاً لقدرات المبدع الخاصة، ودرجة تأثيره في المتلقي، وامتلاكه لغريزته الفنية، وحساسيته الجمالية.
وبتقديرنا: إن الفنون الإبداعية لا تحقق متعتها وجاذبيتها الفنية ولذتها الجمالية بمقاييس محددة؛ إن لكل فن منهجاً وأسلوباً خاصاً وطاقة جمالية إبداعية متخيلة لا تتوفر هي ذاتها في منتج فني آخر إلا مصادفة؛ ومن هنا يمكن أن نوافق هذا القول:" إن الوظيفة الأساسية للفن- في نظر- هيجل هي أنه.. يظهر الفكرة تحت أشكال ملموسة ومحسوسة، وأن الأدب بناءً على ذلك، هو الذي يقع في أعلى درجة من درجات سلم الفنون، وأن الموسيقا تقع في أسفله ما دامت تستغني عن أي فن آخر، عن كل فكرة"( ).
ولهذا، فإن هذا التقييم الذي يطرحه( هيجل) يؤكدها ما ذهبنا إليه إلى أن تصنيف الفنون والتفاضل فيما بينها يبقى ضرورياً، وليس نابعاً من روز فني دقيق محكم يفاضل فيما بين الفنون؛ فكما جعل " هيكل" فن الموسيقا" في الدرك الأسفل بين الفنون؛ فإن ( شوبنهاور) جعلها في الذروة أو قمة الفنون إثارة جمالية، ولذة، ومتعة، ونشوة روحية؛ وهذا ما استشفه جان برتليمي من متابعته لفلسفة شوبنهاور في إحساسه الفني الموسيقي، إذ يقول:" إن الانحطاط الذي تتصف به الموسيقى ينقلب في نظر شوبنهاور إلى سمو عظيم؛ حيث تصبح الموسيقى عنده وسيلة لتبيان الفكرة وظواهر الطبيعة ، فتعبر عن الطبيعة العميقة للإنسان، والأشياء، والإرادة"( ).
وبهذا التصور؛ فإن درجة التباين في تقييم الفنون؛ نابع عن درجة حساسية المتلقي/ أو المستقبل؛ لهذا الفن دون غيره، وبمنظورنا: إن اللذة الجمالية- في معظم الفنون- ليست فقط متغايرة، وإنما تتفاوت فيما بينها درجات ودرجات، من منتج لآخر، ومن فن لآخر، لدرجة أنه تضيع القيم، وتختلف المعايير، ولهذا، فإن أي معيار يتم اعتماده لا يثبت ولا يستقر، لأن المنتجات الفنية متغايرة، ومختلفة، ومتشعبة كذلك؛وتبعاً لهذا يقول عالم الجمال( بيرتلو) :" الفن شيء غير موجود وعالم الفن في الحقيقة هو عالم الفنون الجميلة التي لا يسهل سردها في قائمة، نظراً لأن الحدود التي تفصلها عن بعضها البعض غير واضحة في أغلب الأحيان"( ).وهذا تأكيد إلى ما ذهبنا إليه: من أن الفنون جميعها يصعب تصنيفها و تحديدها؛ نظراً إلى تداخلها، وتعقيدها ؛ ومن أجل ذلك، تبدو المقاييس الجمالية منزلقة ومتغايرة في الفنون جميعها؛ لدرجة أنها تختلف من منتج فني لآخر، ولهذا؛ فإن تصنيف اللذة في الفنون لأمر بغاية التعقيد، بل لأمر مستحيل؛ وهذا ما أشار إليه جان برتليمي في قوله:" إننا نعلم أن الفنون الجميلة حقائق مليئة، معقدة، متباينة لدرجة نراها بوجهات نظر متعددة للغاية، ومتعددة بقدر تعدد التصنيفات، وكلها مقبولة مشروعة، ولكنها جميعها غير كافية، فالفنون الجميلة توضع في هذه الطبقة أو تلك مثلاً.. لأنها تجمع مصادر كثيرة من فنون متعددة"( ).
وتأسيساً على ما سبق؛ تختلف القيم الجمالية التي تحقق اللذة في المنتجات الفنية، تبعاً للطريقة الجمالية في التشكيل الفني، وقدرتها على الاستحواذ على مؤثرات جمالية تنبع من بنية المنتج الفني ذاته، فالمبدع الذي يمتلك مقومات الفن الإبداعي الحقيقي الأصيل سيقف عاجزاً لا محالة عن استثارة المتلقي جمالياً بمقدرة منتجه على التعبير عن تجربته هو؛ وكأنها تجربة القارئ. ولهذا، قرن علماء الجمال اللذة في الفن بالتناسق والإيحاء الجمالي، وهذا الأمر بغاية الأهمية؛ فما يميز فنان عن آخر هو القدرة على التوليد الجمالي، أو الاستحواذ الجمالي على لذات جمالية لا تكاد تنتهي؛ فالنص ابن لذته التي يخلقها بوصفه منتجاً فنياً جمالياًأصيلاً، ولا تتحدد قيمة الجمال إلا بمقدار استثارة اللذة وتحريكها داخل المنتج الفني ذاته، ولهذا؛ قرن معظم علماء الجمال،[ ابتداءً من هيغل وبيرجسون، إلى برتليمي، وبودلير، ورامبو] اللذة الجمالية بطريقة الاستثارة الفنية المركزة التي ينبني عليها المنتج، فالمنتج الفني العقيم ليس قاصراً فنياً من منظور الكثيرين بطرائقه الفنية؛ وإنما قد يكون قاصراً عن إظهار لذاته وقيمه الجمالية المتغايرة دوماً، تبعاً للحراك الزمني والتسارع في تغاير القيم الجمالية، واختلاف مستوياتها، ودرجاتها الإيحائية.
وتأسيساً على هذا، يمكن أن نعد الفن بوصفه موضوعاً جمالياً خصباً ذروة الاندفاع الجمالي، واللذة الجمالية حينما يحايث قيمة وجودية عظمى، أو حدثاً شعورياً جوهرياً يتعدى حاجز الذات ،إلى ما هو كوني أو وجودي شامل، ليصل إلى قيمة جمالية عظمى ترتقي بالمنتج الفني ، يقول( نيدونسيل):" إن موضوع الفن أنه عنصر شخصي تقريباً، لا يمكن تصنيفه ، أو تعريفه ، لأنه يقع فيما وراء العموميات ، ولا يدخل في نطاق أي مذهب، وهو يبلور أنواعاً من التمثيل والاندفعات لا عدد لها، ولا يمكن امتلاكه كما نمتلك الشيء، بل إنه يتقدم للإنسان ليتقبل منه التبجيل والإعجاب والحب، وهو محمَّل بقيم عالمية ويحمل رسالة تعبر الأزمان والأماكن، لتشيع راحة وشعوراً باللانهائية"( ).
وبهذا المقترب الرؤيوي، نقول: إن اللذة الجمالية – في الفن عامة- تتحقق حينما يعبر هذا الشعور بالتسامي والإرتقاء بالموضوع الجمالي إلى ما هو إنساني أو جوهري عميق يمس القيم الوجودية العظمى، وعلى هذا ، فإن المنتج الفني الأصيل- دون أدنى شك- سيولد شعوراً بالمتعة واللذة في آن، وهذه اللذة رغم تغايرها فإنها تتولد من قدرة المنتج الفني وحيويته الجمالية، وبتقديرنا: إن اللذة الجمالية في المنتجات الفنية جميعها رغم اختلافها من منتج فني إلى آخر فإن ما يجمعها أسس مشتركة منها النضج، والرشاقة، والحس الجمالي، والبعد التخييلي وعنصر التشويق والإثارة. وهذا دليل حسب (مالرو) :" أن الفن لا يصدر إلا عن الجمال الفني"( ). ولهذا، رأى علماء الجمال أن ما يستثير اللذة الجمالية في المنتجات الإبداعية جميعها الصدمة التي تولدها المنتجات الفنية محدثة لذة شعورية من جراء حدة الصدمة الجمالية وإثارتها الفنية؛ وهذا ما أكده جان برتليمي في قوله:" إن عدداً كبيراً من أهل الفن يجمعون على أن العمل الفني صدمة نهائية"( ). وهذه الصدمة هي التي تحدث اللذة، وتخلق المتعة في تلقي المنتجات الفنية على اختلاىف أساليبها، وتعدد مشاربها، ومصادرها الفنية.
وتأسيساً على ما سبق نصل إلى النتيجة التالية:
إن اللذة الجمالية لا تتعلق بمحايثة المنتج لدواخل الذات المتلقية وإحساساتها لإغراء المتلقي بمنتجه الفني فحسب؛ وإنما بالطريقة الفنية التي تصاغ وفقها المنتجات الإبداعية، لتستثير اللذة، وتخلق الدهشة، والمتعة الجمالية إثر تلقيها؛ وتبعاً لهذا؛ جاءت مقولة الناقد الجمالي( شاتوبريان) في ملحوظته القيمة عن أدب القرن الثامن عشر الذي عده ناقصاً وغير ناضج إلى أن:" هذا الأدب كانت تنقصه الطبيعة دون أن ينتقصه الشيء الطبيعي، وليس الإخلاص لمظاهر الواقع والحياة هو الذي يعطي العمل الفني وزنه من الحيوية والواقعية، بل لا بد من ربط أشد قوة وأكثر خفوتاً بجمال العالم حتى وإن لم يذكر هذا الجمال مباشرة"( ). بمعنى أن يبدو الجمال طافياً في المنتج الفني عبر عنصري الإيحاء ، والتأثير، وفنية العمل الفني، وحيويته، وقربه من ملامسته للواقع والتجرد عنه في آن؛ وبذلك، تتحقق اللذة الجمالية بوصفها طاقة حيوية عظمى لا غنى للمنتجات الإبداعية الفنية جميعها عنها في تخليد أثرها، وتأكيد عنصر جاذبيتها للمتلقي على اختلاف المستويات، وتعدد الطرق، والمراحل الزمنية المتقادمة مهما تداخلت وتقادمت
ثالثاً- اللذة الجمالية في الأدب.
ما من شك في أن لكل فن لذته، وتكمن لذة الأدب في أدواته، ولغته، ورؤياه، وأساليبه، ومؤثراته الفنية، ولا نبالغ إذا قلنا: إن اللذة الجمالية في أي منتج أدبي لا تتحقق إلا عبر عنصري الإثارة والتحفيز الذي تولده هذه المنتجات الأدبية، خاصة إذا أدركنا أن فاعلية أي منتج أدبي لا تتحقق بتمامها وكمالها إلا عبر فاعلية النص، وقدرته على ملامسة ذائقة المتلقي من جهة، وقدرته على الثبات كمنتج فني إبداعي مثير يرقى حيز التكامل والإدهاش الجمالي من جهة ثانية؛ وتبعاً لهذا، تختلف درجات رقي المنتجات الأدبية من منتج لآخر، بمقدار سموقه في تحقيق هذه اللذة، وامتشاقه في تجسيدها، وبلورتها فنياً، ومن أجل هذا، نصل إلى حقيقة مؤداها: أن الرقي في أي عمل فني لا يرتد إلا إلى حيز الاستثارة والتأثير الذي تولده النصوص الإبداعية ذات المستوى الفني الرفيع في تشكيلها، وتأسيس منحاها الجمالي المبتكر، وبهذا المنزع تتحدد جمالية اللذة الشعرية بمستوى إثارة المنتج الأدبي وقوته التأثيرية؛ يقول جان برتليمي في اللذة التي يحققها الأدب ما يلي:" إن كل ما يساعد على تقديم اللذة في الأدب يكون شاعرياً، أو محققاً للشاعرية، وبذلك، يصبح الشعر الخالص النقي هو ذلك العنصر الذي يضفي على القصيدة صبغة شاعرية، ويوفر اللذة الذاتية الناتجة عنه"( ). وبهذا الإحساس ، تتحقق اللذة الجمالية في النصوص الإبداعية التي ترتفع أسهمها الشاعرية، وبمقدار ارتفاع الأسهم الشعرية فيها ترتقي درجة لذتها الجمالية، واستثارتها للمتلقي، وهذا ما جعل( ليون بول فارج) يؤكد: "أن الشعر هو الذي يظهر في النقطة التي ينفصل فيها عن النثر"( ). أي في النقطة التي يتحول الكلام فيها من نثريته الباهتة وسذاجة مدلوله، وبساطته إلى نقطة الإيحاء، والتأثير، واللذة الجمالية، الكامنة في الشعر والشعرية، وعلى هذا الأساس- حسب جوردان-"يكون شاعرياً في قصيدة كل ما ليس نثراً فيها، وكل ما لا يستطيع النثر التعبير عنه"( ). وهو، بهذا التعريف، يضع الشعرية في المرتبة الأولى؛ هذه الشعرية التي ترتقي بالمنتج الإبداعي ،إلى حيز جمالي مستثير للذة الجمالية، أوالقيمة الفنية التي تميز النصوص الإبداعية من النصوص اللاإبداعية أو النثرية الباهتة ، وتبعاً لهذا، فاللذة الجمالية هي قرينة النصوص الإبداعية الحقيقية، بوصفها صفتها الجوهرية الملازمة لها، ولا يمكن الاستغناء عنها في تحقيق جاذبيتها، وعنصر تأثيرها في المتلقي، وبهذا المنحى المقارب يقول ( فاليري):" إن النثر كلام مكتوب له هدف يمكن التعبير عنه بكلام مكتوب آخر، أما الشعر فهو لا يخضع لهذه المعاملة أو عدم إمكان معاملته بهذه الطريقة هو الأمر الذي يمكننا من إدراكه ، ولهذا السبب بالذات كان من المستحيل ترجمته، بل الذي يحدث هو نقل الأفكار الموجودة في القصيدة والأحداث التي تحكيها، والعواطف التي تصورها، وباختصار، مادتها الفكرية والنثرية، و نقلها من لغة إلى أخرى... أما مادتها الشاعرية فلا يمكن نقلها"( ).
وهذا دليل وعي دقيق للفارق الواضح بين لغة الشعر ولغة النثر؛ من حيث اللذة، والشاعرية، والإيحاء، من قبل الناقد الجمالي ( فاليري) ، الذي ميز بين كل منهما، من حيث المادة الشاعرية، وليست الفكرية فحسب، ولذلك؛ يصعب ترجمة القصائد الشاعرية العظيمة من لغة إلى أخرى؛ لأنها ستفقد الكثير من شاعريتها، وعنصر جاذبيتها، واستثارتها الجمالية، لأن ما هو جمالي لا يمكن ترجمته أو نقله بمادته الإبداعية المتوهجة التي تشكل منها؛ وهذا المنظور الذي دافع عنه علماء الجمال في الغرب ترك تأثيره على منظوراتنا العربية، لدرجة أن الأمر يكاد يكون مطابقاً لمنظورات الغرب؛ وليس إلا ترديداً لكل ما قالوه، وأدلوا به، ودافعوا عنه؛ إذ إن الكثير من المبدعين العرب أشاروا إلى صعوبة ترجمة النصوص الشعرية إلى لغة أخرى، لأن مصدر جاذبيتها يتمثل في حرارتها العاطفية، ودفقها الشعوري وشاعريتها المرهفة، ولذتها الجمالية المثيرة التي لا يمكن نقلها أو ترجمتها إلى أي لغة في العالم، ومن هنا، يصعب تعريف الشعر تعريفاً جامعاً مانعاً من منظوراتهم، لارتباطه بلذته الصوتية وحركته العاطفية المتماوجة مع رنين الصوت؛ وهذا ما أشار إليه فؤاد كحل في قوله:" لا يوجد تعريف نهائي للشعر الإبداعي، ما هو عظيم استمر وسيستمر في التراث الإنساني، وما هو غير ذلك ذهب ، وسيذهب إلى حيث النسيان الأبدي. والشعر العظيم باختصار هو أن يكون شعراً نابعاً من الوجدان، ومعبراً بصدق عن تجارب ذاتية وبأسلوبية فنية عالية، وباختصار ، أن يكون حياً، فلمخيلة غصن في الأعالي ، وجذر في أعماق الروح"( ).
وبهذا التصور، فإن ما يميز المنتج الإبداعي الشعري المؤثر هو خصوبته الجمالية، وطاقته الإيحائية العالية؛ ولذلك؛ فإن النص الإبداعي اللذيذ هو الذي يستحث الشاعرية، ويستحث المثيرات الخيالية التي ترتقي بأسهم هذه الشاعرية من حيث المعرفة، والإثارة، ، والدهشة، والابتكار؛ يقول نذير العظمة:" القصيدة العربية ليست صدفة ملقاة على شاطئ الدهر، إنها رحم يلد الأشكال الكثيرة، فالقصيدة الموحدة الوزن والقافية، والقصيدة الحرة، وقصيدة الشعر المنثور، وقصيدة النثر، والقصيدة الحرة المرسلة، وقياساً على ذلك: المعلقة، والمعارضة، والموشح ، والمقطوعة ، والدوبيت، والرباعية والخماسية... إلخ ليست آخر الأشكال التي ستتفتق عن هذا الرحم يجب أن نتوقع أشكالاً جديدة في كل المراحل.
وبتجربتي كشاعر، عندما أكتب الشعر أكتبه مكرهاً، بمعنى أني أستجيب وأستسلم إلى إيقاع تجربتي الداخلية ، فإذا جاءت موحدة وحدتها، وإذا جاءت حرة أرسلتها، وإذا جاءت منثورة نثرتها، فتجربتي الشعرية أكثر طبيعية وعفوية من معاصري، لأنني لا أمارس رقابة فكرية على تفجري الشعري، ولا أحدد موقفاً مسبقاً على شكل الكتابة عندي، لذا؛ فإن تنوع الأشكال لدي مرتبط بوحدة الموقف الشعري. المهم ما أقوله وكيف أقوله. الإيقاع، والصياغة، والصورة، والرمز يعبر عن توقعي الإنساني كشاعر مرتبط بالتراث وبتجاوزه في آن . مرتبط باللغة وبتجاوزها في آن. مرتبط بالواقع وبتجاوزه في آن"( ).
وبهذا التصور ، فإن جمالية المنتج الفني الشعري لا تتحقق لذَّته إلا بما يعبر عن موقف الشاعر وإحساسه الجمالي، وغالباً ما يستثير القارئ باللغة الشعرية المعبرة ، ووفق هذا المنظور، لا تتطور الرؤى الشعرية والأشكال الشعرية -لدى الشاعر- لتحقيق لذة جمالية في منتجاته الشعرية إلا بعين حداثوية تواكب الحداثة، وتغير من نمطها السائد، لتجاوز الواقع، وترقى فوقه درجات؛ وتأسيساً على هذا، لا يخلد النص إلا باللذة الجمالية التي تستثيره في المتلقي، لتشحنه بشحنات المجازفة والتآلف مع طقوسه الإبداعية، وشحناته الدلالية الإيحائية المستولدة فيه، وبهذا المقترب الرؤيوي يقول الناقد خليل الموسى:" يخلد النص بالقراءة المتجددة، أو تعددها، واختلاف وجهات النظر بالنص، وسمات النص الخالد كثيرة،بدءاً من موضوعه الإنساني إلى ثراه، وتعدد مستوياته، وطبقاته، وأصواته ،إلى شكله العضوي الذي يشد بعضه إلى بعض ومقوماته، ومكوناته، المخيلة الشامخة المشرئبة، والعاطفة الصادقة، والنزعة الإنسانية الفياضة"( ).
وانطلاقاً من هذا؛ تتحدد جمالية النص الشعري، ودرجة لذّته بمستوى سمو درجة الشاعرية التي يولدها النص؛ بدءاً من موضوعه الإنساني إلى تكوينه ؛ وخصوصيته الإبداعية؛ وبتقديرنا: إن أبرز مثيرات اللذة الجمالية في النص الشعري تتبدى في جمالية اللغة، والشكل الفني الذي تتجسد فيه، وبقدر ما يكون الشكل الفني وليد نبض شعوري وإحساس جمالي مفعم بالحيوية والحساسية الجمالية بقدر ما يرقى المنتج الشعري، ويسمو جمالياً، وبهذا المقترب الجمالي يقول الشاعر العراقي الكبير يحيى السماوي:" فالنص الشعري بناء هندسي فني معماري ونبض شعوري، ولأني أؤمن بهذا، فقد أوليت مادة هذا البناء اللغة الاهتمام الكبير على اعتبار أن اللغة هي الإناء لمادة المعنى، والمداليل التي تتشكل من النفثات الشعورية لحظة المخاض الشعري القابلة للتجدد ، بمعنى أنني في كثير من الأحيان أكتب القصيدة على مرحلتين، الأولى : كتابتها كشاعر ، والثانية: كتابتها كناقد، فأحذف وأضيف، وأعيد صياغة بعض الجمل الشعرية كي يكون البناء الهندسي أكثر استكمالاً لشروط الفن الشعري"( ).وبهذا التصور،والإشارة الفذة من الشاعر العراقي يحيى السماوي يضعنا على محك الرؤية الجوهرية الدقيقة للنص الشعري المؤثر؛ ألا وهي إبراز الصفة الجمالية في المنتج الشعري، لتحقيق عنصر تفاعله وتكامله الفني، وبنظرته هذه: أن النص الشعري بناء هندسي محكم، يدفعنا للقول: كلما تكامل هذا البناء كلما حقق شروط الفن الشعري المؤثر؛ وبهذا يقول الشاعر والناقد العراقي علي جعفر العلاق:" إن القصيدة عمل خاص جداً. لا تذهب بنفسها إلى الآخرين دائماً، ولا تفتح مغاليقها لهم جميعاً وفي كل وقت، فهي ليست أغنية، أو حكاية، أو إعلاناً ، بل هي عمل غائم ومشع في آن واحد، ولذلك، فإن ما فيها من ضوء يظل كامناً أو مؤجلاً في انتظار قارئ مرهف، لا قارئ عام، قارئ غير قادر على إحداث ذلك التماس المقلق بينه وبين النص، وليس كل القراء قادرين ، بطبيعة الحال، على الوصول إلى نقطة التماس تلك، حيث مكمن الضوء أو الرعد، أو الإرادة. وهكذا، كلما ازدادت القصيدة إحكاماً وتعقيداً قل عدد قرائها المتميزين. أعني القادرين على الوصول إلى نقطة الاندماج بالنص، وتفجير مكنوناته الفكرية، والوجدانية، والبنائية، وتأسيساً على ذلك يظل عدد المرهفين من قراء الشعر قليلاً، في العصور كلها، فالشعر- كما يقول الشاعر الأمريكي اللاتيني جوان رامون جيمنز:" هو فن الأقلية الهائلة"( ).
وبهذا الخصوص ، يصلنا الناقد علي جعفر العلاق إلى مسألة بغاية الأهمية ألا وهي: أنه كلما ازداد إحكام القصيدة، والتأنق في صنعتها الإبداعية كلما قل عدد قرائها المتميزين، وهذا القول رغم دقته إلا أنه ينطوي على مبالغة كبيرة، فالنص الإبداعي الحقيقي المتميز من البديهي جداً أنه لا يجتذب إليه إلا المتميزين من نقاد ومبدعين وقراء على مستوى عالٍ من الممارسة، والكفاءة ،والخبرة الجمالية؛ وهذا لا يعني أن النص الإبداعي الحقيقي هو نص متعالٍ فنياً؛ لأنه لا يستقطب إلا هذه الشريحة العليا من القراء والمبدعين المتميزين، وإنما يعني أن النص الإبداعي المتميز هو نص جمالي بامتياز، وهو محط اهتمام القراء على مستوياتهم المختلفة، وبما أن النص الإبداعي الحقيقي مؤسس على الحساسية والعمق وجودة الصنعة وبراعة الإبداع؛ فمن الطبيعي أن يجتذب إليه القراء على اختلافهم ودرجات وعيهم، تبعاً لإحساسهم بالمنتج الفني وحساسيتهم الجمالية في تلقيه؛ وهذه الخصوصيات التي ذكرناها هي التي تصنع فرادة الإبداع، وجودته من جهة، وتصنع فرادة القارئ وجودته وتميزه كذلك، ومن ثم تصنع فرادة القراء النقاد المتميزين الذين يكون باستطاعتهم تفكيك النص، وكشف مفاصله الشعرية، ومؤثراته الفنية، وبتقديرنا: إن اللذة الجمالية التي تخلقها النصوص الشعرية لا تعود إلى الصورة، أو الإيقاع، أو الرمز، أو اللغة فحسب، وإنما هي عصارة التجربة الإبداعية الحقيقية التي تتمثل في النص الشعري الإبداعي الحقيقي؛ فلكل نص شعري مذاقه الخاص، ونمطه الأسلوبي المتمايز الذي يخلق لذته بفرادته من جهة، وحيازته على رؤيا عميقة، ونبض شعوري دافق بالحساسية والإحساس الشعوري االعميق من جهة ثانية؛ وهنا؛ نصل إلى تعريف جمالي للشاعر العظيم، والنص الإبداعي العظيم أو الخالد حسب ما عبر عنه الناقد فائز العراقي بقوله:" الشاعر العظيم هو الذي يعبر عن الجوهري والخالد في الحياة بأسلوب فني مبتكر يشير إليه ،وإلى فرادته، وتميزه عن كل الشعراء الذي سبقوه، والذين سيأتون بعده، وهذا يعني أنه عبقري ووفلتة من فلتات الزمان التي لا يمكن تكرارها أبداً؛ وهذا يعني أنه سيترك بصمة غير قابلة للنسخ أو التكرار مرة أخرى . أما الشعراء العظام فهي قلة قليلة في تاريخ الإبداع البشري"( ).
وبما أن النص الإبداعي المثير- بتقديرنا- هو النص الذي يحقق قيمه الجمالية العليا ،فإن ما يجعل النص محلقاً إبداعياً هو مستوى التكامل الذي وصل إليه، وهذا ما يجعله في انفتاح حيوي خصب في الإيحاء، والعمق، والتأثير، وبهذا المنظور، يمكن موافقة قول الشاعر العراقي الكبير حميد سعيد:" لا تنفتح القصيدة على كل ما يضيف إليها من طرائق التعبير، ووسائله، ومادامت هذه الوسائل تدخل في البنية الشعرية، لها في تشكل من الداخل، وليس على شكل ملصقات من خارجها. إن قصيدة تنتسب إلى البناء الدرامي. من الطبيعي أن تبحث عن وسائل تكريس هذا البناء وتغذيه، وتجعله أكثر حيوية وفاعلية، وجمالا،ً والبنية السردية من بين أكثر الوسائل حيوية في تكريس البناء الدرامي في القصيدة، وفي قصيدتي، كان ما يشبه التكامل بين السرد والدراما، وهذا ما أبعدها عن الاندماج والتسطيح، وقد كان من علل قصيدة التفعيلة، حيث نجد قصائد شعراء تطول في ما يشبه الهذيان، حتى كأن الشاعر لا يتحكم بحركة قلمه على الورقة البيضاء"( ).
وبهذا التصور، فإن ما يستثير النص الشعري جمالياً هو اللذة الجمالية التي يولدها بتنوع وسائله التعبيرية، وبقدر ما يرقى الشاعر بأدواته ووسائله ومغرياته في التشكيل النصي عبر الوسائل الفنية المبتكرة بقدر ما تزداد درجة شعريته، وتسمو على المنتجات الفنية الأخرى، ولهذا كان للشاعر عبد الكريم الناعم موقف خصب في التدليل على الشعرية واللذة التي يحسها إثرَ تلقي النص الشعري الإبداعي المؤثر؛ إذ يقول:" الشعر- في جوهره- ليس تقريراً نعرضه على مفهوم محدد في أذهاننا، ولو كان كذلك لكان الشعر في العالم يشبه بعضه بعضاً، وليس أن نقول: إن زهرة الأقحوان محاطة بتاج من الأبيض، تلك صفة الوصف، والشعر ليس لوحة منقولة بأمانة عن الطبيعة دون أي تحوير فني من أجل أن يقول الشاعر لحبيبته" أحبك" قد يبدع ديواناً بكامله بصوره وأخيلته وسفره في عوالم الداخل المركبة من عوالم الخارج، ولكن بطريقة إبداعية جد مختلفة؛ وهذه المسألة ليست جديدة في الشعر، ولقد شغلت المهتمين بالنقد قديماً وحديثاً.
أنا لا أطلب من الشاعر إلا نصاً يشدني، ويحملني معه إلى آفاق الكتابة الشعرية، ولا أشترط عليه أن يختار الوسائل، وإنما شرطي الأول والأخير أن أشعر أني قرأت شعراً، وأستطيع الدفاع عن وجهة نظري دون مصادرة ، إذا طلب مني أن أبين مواطن الجمال، ومفردات الجمال كثيرة في الآفاق ، وفي الأنفس، ولكن عملية الاختيار، والبناء، والصياغة هي التي تسمح لهذه القصيدة أن تصبح جزءاً من أعماقي، أو أن تظل عند حدود الكلمات، أو الجمل، أو الصور الباهتة أو الميتة"( ).
وتأسيساً على هذا الوعي لدور الشعر ووظيفته الشعرية في خلق اللذة الجمالية في النص، فإن ما يرفع سوية المنتج الشعري شعريته، وليس سوى شعريته التي يستقيها من معدن التجربة الإبداعية الخصبة التي تتغذى من عظمة الموهبة والخبرة الإبداعية في التشكيل النصي الإبداعي المؤثر، وتأسيساً على هذا، يمكن القول: إن ما يثير اللذة الجمالية في االمنتجات الشعرية مراوغتها للقارئ وتقنياتها ،وأساليبها الفنية المبتكرة، وغزارة القيم الجمالية التي تمتاز بها هذه المنتجات من حيث النبض، والإيحاء، والعمق، والشفافية الشعورية الذي تملكها، والشرارة العاطفية المتقدة التي تختزنها، وتبثها في صور متوهجة براقة تنبض بالحيوية، والخصوبة، والإشراق الجمالي؛ وبهذا المنحى يقول الشاعر الفذ نزار بريك هنيدي:" إن الشعر عندي هو بحث دائم وتجارب متواصلة، ومحاولات مستمرة، تطمح إلى الاقتراب من حالة الصفاء التي يتوحد فيها العالم مع القصيدة، في يقيني أن هذا الحلم المستحيل هو الأساس الذي لا يمكن لأي إبداع أن ينطلق إلا منه"( ).
وبتقديرنا- وفق هذا المنظور- إن اللذة الجمالية التي تخلقها المنتجات الشعرية تختلف من نص شعري لآخر، وبقدر ما يستثير الشاعر الشرارة الإبداعية في نصه من حيث الصورة، والزمن، والحدث، والأسطورة ، والمشهد العاطفي الحار، بقدر ما ترقى هذه اللذة حيزاً جمالياً ينفتح على آفاق الرؤيا الجمالية، وحداثة المنظور الشععري الحيوي المتطور؛ فـ" الحداثة الشعرية هي حداثة الرؤيا، والموقف، وطريقة التعبير، والمعمار الفني، والبناء التخييلي، والاستخدام الخاص للغة، والمناخ الموسيقي العام للقصيدة، وما التفعيلة سوى حجر من أحجار هذا البناء، يكتسب أهميته من الدور الذي يقوم به في تشكيل عالم النص الشعري"( ).
ما نود قوله أخيراً:
إن اللذة الجمالية في كل النصوص الشعرية لا تكمن في قيمة جمالية أو قيمتين، وإنما في مجموعة القيم الجمالية التي تختلف من نص لآخر، تبعاً لحساسية الشاعر من جهة، وتبعاً لدرجة عمق الرؤيا، والأسلوب الجمالي الحيوي الخصب في التعبير عنها من جهة ثانية، وبما أن اللذة الجمالية متغايرة من نص لآخر؛ فإن ما يستثير اللذة الجمالية مقدار الشرارة الإبداعية التي تفجرها النصوص الشعرية لتحقيق تمايزها، وسموقها الفني.
رابعاً- اللذة الجمالية في النقد:
إن لغة أي منتج نقدي مهم تتحقق عبر فاعلية الرؤيا النقدية من جهة، ودرجة فنية المنتج النقدي من حيث مقاربته الدقيقة للمنتج الإبداعي الأصلي بواقعية فنية وموازة دقيقة من جهة ثانية؛ وبمقدار جودة المنتج النقدي، وموازاته لمنتجه الإبداعي الأصلي في الحساسية، والحيوية، والاستثارة الجمالية، بمقدار ما تزداد درجة المنتج النقدي سموقاً، وجدة، وابتكاراً ومصداقية فنية توازي المنتج الإبداعي في الدرجة، والعمق ،والقيمة الإبداعية؛ وتأسيساً على هذا، ترتقي اللذة الجمالية في النقد بمقدار استجابة المنتج النقدي للمنتج الإبداعي الأصلي، ليبدو جزءاً لا يتجزأ من نبضه، ودفقه الإيحائي، والإبداعي؛ وكأن المنتج النقدي يمثل اقتضاء فنياً للمنتج الإبداعي، لتحقيق تفاعله الفني ولذَّته الجمالية، وبهذا الخصوص تقول الناقدة بشرى البستاني:" أما عن مستلزمات العملية النقدية، فإنها باعتقادي قضية ذات أهمية خاصة، كون الناقد بحاجة لموهبة استشرافية وثقافة عالية توازي ثقافة المبدع الذي شكل النص، وقد يحتاج لبحث وتنقيب يفوق ما بذل المبدع الأول في نصه، كون الأول يطلق إشارات لكن بوعي. أما الناقد فيفكك هذه الإشارات بالوعي، والمعرفة، والتنقيب، والقدرة على إعادة البناء بعد تحليله، لكن بعد جلاء مكنوناته، والكشف عن مضمراته، ذلك هو الناقد الجيد الذي يتسلح بصبر ووعي وموضوعية باحثاً عن بؤر الجمالي في النص المدروس، ومستشرفاً فعل القيمة في صميم الجمال، فالفن الحقيقي هو الفن القادر على دمج القيمة بالجمال، ليحقق تواصلاً من نوع خاص ؛ حيث تتضمن القيمة جمالها المندمج بجمال المتعة الفنية، وهي تقدم لنا عالماً ينأى بنا عن العالم المادي القائم على ثقل الأشياء وصلابتها، وهو بقدرته على عزلنا عن فداحة عالم الواقع، يسمو بنا نحو خلاص روحي هو الانعتاق الفريد، وذلك أسمى ما يضطلع به الفن من مهمات"( ).
وبهذا التصور والوعي الذي أثارته الناقدة بشرى البستاني في مستلزمات العملية النقدية تضعنا على نقطة مهمة في الكشف النقدي، وهي أن أبرز ما يميز المنتج النقدي المهم موازاته للنص الإبداعي الأصلي قيمة وأهمية، وبهذا الخصوص قال الشاعر نزيه أبو عفش:" أجمل كتاب نقدي قرأته هو الذي عمله( هنري ميلر) عن رامبو[ رامبو وزمن القتل] هذا أجمل كتاب نقدي استمتعت به، لأن الناقد هنري وصل في سوية نقده لشعر رامبو إلى مستوى سوية شعر رامبو الإبداعية بل فاقه في الأسلوب الجمالي"( ).
وبتقديرنا: إن قيمة المنتج النقدي تزداد أهمية حين يتغلغل إلى أعماق النص، مستكنهاً قيمه الجمالية والإبداعية، ولا يرقى المنتج النقدي إلا بالقيم الجمالية، ودقة ما يصيبه من مغزى المنتج الإبداعي ومحتواه الدلالي، ولهذا يرى الشاعر صالح هواري أن واقعنا النقدي لا يلبي الطموح؛ إذ يقول:" لا زالت الساحة الشعرية تفتقر إلى نقاد حقيقيين يستطيعون تشقيق أغلفة النصوص والنفاذ إلى أعماقها، وعدم طرح التنظيرات المجردة العامة، وإصدار الأحكام الجاهزة التي قالها السابقون من النقاد.. وبعض الذين يدعون النقد يقفون على عتبات النصوص عاجزين عن استيعاب مكنوناتها، وكشف مواطن الجمال والرداءة فيها، ولذا يطلقون انطباعاتهم السريعة المختصرة، فيشوهون النصوص بإخضاعها لأدوات نقدية تفتقر إلى المعرفة، والقدرة على إمتاع القارئ، بأحكامه الفجة.. واللافت للنظر اليوم أن الشكلية أخذت دورها السلبي في تقييم النصوص، ذلك أن المجاملة المنحازة إلى صاحب النص، والافتقار إلى الموضوعية أساءت كثيراً إلى عملية النقد، لأن الشكلية اعتمدت على نقد مجامل عمَّ الدراسات المعاصرة، فأحدث هدماً وتخريباً، وظل صاحب النص الذي انتشى مخدوعاً بإفراز شبه الناقد الذي أساء إليه، ظل يراوح في مكانه خارج الضوء دون أن يدري. وكل هذا لا يمكن أن ينطلي على المتلقي الواعي الناضج الذواق الذي يرفض أحكام الشكليين النقدية المراوغة؛ فكيف بنص رديء لا يملك شرائطه الفنية أن يسود على الساحة الأدبية؟ أليس من الأجدى لهذا الناقد الذي جامل صاحب النص لسبب ما أن يكشف له المواطن السلبية والإيجابية ليعرف موقعه الحقيقي؟! فإما أن يتابع مسيرته الإبداعية على ضوء الأحكام الموضوعية، أو أن يكسر قلمه ويكف عن التحليق الوهمي بأجنحة من الرغوة التي سرعان ما تنطفئ إذا لا مستها أصابع الريح؟! وتسود اليوم نظريات نقدية يتبجح بها أصحابها دون أن يفقهوا مدلولاتها، نظريات تعتمد على أسس نقدية جاهزة لا تضيف شيئاً إلى النص؟ بل تسيء إليه وتشوهه، أما الاعتماد على وجهات النظر فهو السائد أيضاً وهذا لا يكفي لإضاءة زوايا النص، وإخضاعه لنار النقد الكاشفة للعلل المخبوءة وراء التراكيب. هذه النار التي تقشر جلد النص بمبضعها الكاوي حتى يتبين الخلايا المريضة من الخلايا الناصعة التي تخفق بالحياة في فضاء الروح"( ).
وبهذا القول، تتحدد الخطى الجمالية في تأسيس المنتج النقدي الجمالي ، وفي مقدمتها الوعي الجمالي، والمقدار الفني في تعزيز الحكم النقدي الذي يرتكز على أسس منطقية، ومعايير موضوعية دقيقة تنطلق من بنية النص ذاته، ولا علاقة لها بما سواه ، وبتقديرنا: إن الفهم المغلوط للدور الذي يضطلع به النقد حجب الكثير من النقاد عن جادة الصواب؛ فالنقد المبدع هو النقد الذي ليس من شأنه ترجمة مخزون النص الدلالي؛ وإنما مخزونه الإبداعي، وتسليط الضوء على القيم الجماليةالمبتكرة التي من شأنها أن تميز المنتج الإبداعي المثير عما سواه من المنتجات الفنية الأخرى؛ وهذا يعني بشكل أدق: إن النقد الجمالي لا يتأسس إطلاقاً على ما هو جمالي فحسب، أو على ما يدخل ضمن نطاق القيمة الجمالية فقط، بل إن كل ما هو جمالي لا بد وأن يقترن بكل ما هو مثير دلالياً، وإيحائياً، وبنيوياً في الآن ذاته؛ والقيمة الجمالية لا تتحدد – بتقديرنا- بوصفها قيمة جمالية في بنية النص، وإنما تتحدد بكونها قيمة منطقية موضوعية، تكشف عما هو خفي ومستور في باطن النص، ولهذا، تم الفصل بين النقد الجمالي والنقد العلمي الموضوعي، وهذا ما ولد العزلة، وفقدان الدقة، واللذة، والمتعة في كل منهما، فما هو جمالي ينبغي أن يكون مرتكزاً على ما هو علمي موضوعي؛ وما هو علمي وموضوعي ينبغي أن يرتكز على ما هو جمالي، ولا غنى لأحدهما عن الآخر في رفع سوية المنتج النقدي فنياً، ليواكب فنية المنتج الإبداعي الأصلي، ويزاحمه إبداعياً في ذلك، وبهذا المقترب الرؤيوي ، يقول الشاعر الكبير نذير العظمة:" النقد تجربة ثقافية كيف يمكن لإبداع الآخر أن يكون إبداعك كناقد... وفي الجوهر : النقد معرفة، ومنهج معاناة، ومحبة لا تستطيع أن تنقد نصاً لا تحبه.. والنقد لا يحيا بدون الخلفيات الثقافية، وإدراك أهمية التجارب الإنسانية والاستعداد للدخول في عالم الآخر، والتميز عنهم.. والنقد إبداع لا استتباع؛ من هنا يمكن للناقد أن يزاحم المبدع في هذا الإطار"( ).
ووفق هذا المنظور، نقول: إن الناقد الماهر هو الذي يجعل المنتج النقدي عنصراَ مكملاً للنص الإبداعي لا غنى عنه إطلاقاً في ترجمة مخزونه الداخلي، واستكشاف غناه الفني، والنقد لا يكون استتباعاً، وإنما يكون إبداعاً؛ وشتان ما بين النقد بوصفه ممارسة إبداعية، والنقد بوصفه تقليداً أو استتباعاً؛ وبهذا المعنى المقارب يقول أدونيس:" إن النقد ليس فقط ممارسة، وإنما هو إبداع ، على النقاد أن يخوضوا النقد مبدعين؛ وليس فقط ممارسين، وثمة فرق واضح بين النقد كإبداع والنقد كممارسة؛ وإن كانت الممارسة ضرورية لتنمية زخيرة الإبداع وتحفيزه كذلك، على الناقد المبدع- إذاً- أن يخلق المتعة النقدية ليكون أكثر فاعلية على التأثير، والإقناع، والإمتاع"( ).
وما ينبغي الإشارة إليه: أن اللذة الجمالية في المنتجات النقدية لا تتحقق بتمامها وكمالها إلا بتوافر شرطين، أولهما عمق النظرة النقدية الموضوعية ، وثانيهما وعيه ما استطاع بالنقد الجمالي إلى ذلك سبيلاً، وبهذا يتفاضل النقاد فيما بينهم من ناقد أسلوبي جمالي بارع ،إلى ناقد تقليدي مقلد أو مستتبع، وتبعاً لهذا، يحدد الشاعر العراقي الكبير يحيى السماوي المعايير الجمالية التي يتم بها تحديد الناقد الجيد أو المبدع؛ بقوله" الناقد الجيد هو أولاً قارئ جيد، ملم بأدوات النقد، يفكر تفكيراً منطقياً نابذاً التفكير العاطفي، منفتح الذهن على الجيد من الأفكار والنظريات، ومنحاز إلى الصدق انحيازاً تاماً يحسن تنظيم أفكاره، وتسلسلها، وربطها ببعضها، ليفضي بطروحاته إلى رؤى واضحة المعالم، تستند إلى حجج مقنعة، وأن يكون دقيقاً واضح العبارة والمقصد في تقييمه الاستدلالي والنقدي، مفرقاً بين الحقائق والآراء، وباختصار فالناقد هو مبدع آخر للنص المنقود، وهو، في ذات الوقت، مفكر، ولأنه مفكر عليه أن يكون ملماً بمهارات التفكير الاستقرائي الاستدلالي العقلي بغية التوصل إلى استنتاجات مقنعة، والتفكير الاستنتاجي المنطقي، ومهارة التفكير التقويمي هو الذي يجعل الناقد جديراً بإصدار حكمه على سلامة أفكار النص المنقود، واقتراح الحلول والبدائل. الناقد الجيد هو مكتشف يرى بالبصيرة وليس بالبصر"( ).
إن ما أدلى به السماوي لدليل أكيد على فهمه الدقيق للعملية الإبداعية التي يضطلع بها النقد بوصفه ممارسة إبداعية تنطوي على سلسلة مقومات وعمليات ترتكز على معايير وأسس منطقية؛ تتغلغل إلى أعماق النص، لترصد مؤثراته، ومهارته الإبداعية، ورؤاه المنطقية ، وقيمه الجمالية التي ينطوي عليها؛ لتحقيق لذَّته الجمالية؛ أو مصداقيته الإبداعية بوصفه ممارسة إبداعية لا غنى عنها في ترجمة مخزون النص الإبداعي ومؤثراته الفنية؛ وبتقديرنا: إن اللذة الجمالية في المنتجات النقدية الإبداعية لا تتحقق بفاعليتها المثلى إلا عبر جسور التواصل الفني بين الناقد والمتلقي، وبقدر ما تأتي الأحكام النقدية دقيقة واضحة في إصابتها مرماها الفني، بقدر ما يحقق المنتج النقدي قيمته ويسمو على النص الإبداعي درجات في سلم الإثارة والتحفيز، وهذا القول قد لا نغالي به كثيراً خاصة إذا أدركنا أن النقد فن كسائر الفنون لا غنى عنه في كشف المؤثرات الإبداعية، والقوى الجمالية الخفية التي تحكم المنتجات الإبداعية الأصيلة؛ والناقد الممتع- بتقديرنا- هو الذي يستثيرنا بلذة منتجه الإبداعي لتطغى بصمته الإبداعية الفنية على النص من جديد بفنية جديدة تفوق فنية المنتج الإبداعي الأصلي أحياناً؛ وبهذا الشأن يقول الناقد خليل الموسى:" الناقد الجيد باختصار شديد هو القادر على الإمساك بالنص من أي جانب من جوانبه والدخول إلى عالمه لافتضاض بكارته، وقراءته قراءة جديدة... أما الناقد الذي يشتغل على التنظير فهو كالمتكلم على الفحولة وهو عنين... نحن نردد ما يقوله الغرب في مجال التنظير وسنبقى إلى وقت غير منظور على هذه الحال لافتقار عالمنا إلى الفلسفة، وكل ما يقال عندنا عن فلاسفة ومفكرين وهو زائف وسراب خادع، والنظريات النقدية كانت وستبقى ذات تربة فلسفية، بدءاً من أفلاطون إلى ديريدا. ومشكلة النقد عندنا أنه كالمرأة المستأجرة تغوي هذا وذاك فقد يأتيك من الغرب متخرج قرأ لأساتذته هناك فإذا هو ينظر علينا.. الناقد من يتعامل مع النص بمهارة.. وأهم سمات الناقد الجيد النزاهة، والحيادية، والموضوعية، والالتفات إلى النص بعد إقصاء صاحبه، والابتعاد عن الأفكار السابقة. الدارس غير الناقد"( ).وتبعاً لهذا، فالمنتج النقدي المثير هو ما يترك أثره في نفس المتلقي بالمقاربة الدقيقة للمنتج الإبداعي الأصلي، وسبق أن قلنا:
إن النقد الجمالي ليس من حقه استخلاص القيم الجمالية فحسب، وإنما استخلاص القيم الموضوعية التي تحكم سيرورة النص الإبداعية، وتقف على دقائقه ومؤثراته الفنية كذلك، وبما أن النقد ممارسة إبداعية لا تقل شأناً ولذة عن ممارسة الخلق الفني؛ فإن ما يرفع سوية العمل النقدي قيمة وأهمية مقدار المجاذفة الجمالية أو الفنية بينهما، وبقدر ما يرتقي المنتج النقدي بسيرورته الجمالية حساً ونبضاً وشعوراً بقدر ما يرتقي في مجاذبته الفنية قرباً وائتلافاً بحيث يبدو النسيج النقدي جزءاً لا يتجزأ من النسيج النصي في إكمال عنصر تأثيره ، واستثارته الجمالية في تحفيز المتلقي وجذبه إلى دائرة المنتجين[ النص/ والنقد] في آن. وبهذا المقترب المحايث لمنظورنا يقول الشاعر حميد سعيد في المعادلة الجمالية التي ينبغي أن تتوفر في المنتج النقدي والإبداعي لتتحقق فاعلية تلقيها جمالياً في ذهن المتلقي، إذ يقول في المنتجات النقدية الإبداعية المثيرة ما يلي:" إن الشعر الجيد يستدعي نقداً جيداً، وإن الناقد مهما كان رائياً، لا يصنع مبدعاً، فإن حاول ذلك لا تنتهي محاولته إلا إلى ما تنتهي إليه الصناعات الفاسدة. إن أهمية النقد تظهر في اكتشاف خصائص النص الذي ينقد، ولذا، فإن النص المتميز، يستوعب قراءات نقدية عديدة ، حتى لتبدو أحياناً قراءات متناقضة ومختلفة عن بعضها. ثم إن الناقد ، ليس شيخ طريقة، يقود مريديه على هواه، ويرسم لهم طريقاً يلتزمون به، ولا يتجاوزونه، كما أن المبدع ليس مريداً يكتب نصه على هوى شيخه. ولا نتجاوز الحقيقة، حين نقول: إن الكثير من النصوص الشعرية التي تبدو جميلة ومقبولة ، لا تستهوي النقاد ولا يجد فيها الناقد ما يستدعي قراءة نقدية.. إن ما يبدو للبعض إن النقد العربي في حالة ابتعاد عن مواكبة الشعر العربي، بحاجة إلى إعادة نظر ذلك أن المكرور والمتشابه لا يصلح للنقد، ولا أظن أن النقد يصلحه، وفي الواقع هناك تواصل بين الشعر في ذرى تجلياته والنقد في ذرى رؤاه، حيث ينفتح النقد العربي على ما هو جديد ومهم من مدارس وتوجهات نقدية في العالم ، وينفتح في الوقت ذاته على إنجازات النقد العربي القديم، وفي هذا التواصل يأخذ النقد مكانته كعمل فكري إبداعي، وليس مجرد هوامش على النص ، أو مجرد فتاوى تجوِّز هذا ولا تجوِّز ذاك، أو هذا حسن، وهذا غير حسن..
ولا أجاملك ، حين أشير إلى كتابك:" رؤى جمالية في شعر عبد الكريم "، حيث اشتغلت نقدياً بما نحن بحاجة إليه من جهد نقدي يفيد من مدارس النقد الحديث، ويدمجها بما هو معياري في النقد وتقويم النص، وهذا الاشتغال النقدي لاحظته في عملك النقدي ، في أول كتاب قرأته لك وهو " تجليات الحداثة الشعرية بين مغامرة الكشف ودقة الاستدلال" حيث ظهر مثل هذا الدمج في معظم الفصول التطبيقية في كتابك آنف الذكر"( ).
إن ما أشار إليه حميد سعيد لدليل على فهمه الدقيق لأهمية المنتج الإبداعي النقدي في إحياء النص، وضخ دماء جديدة في عروقه ونسيجه الحيوي ، لتحقيق لذته الجمالية ، وخلق عنصر جاذبيته وتأثيره في المتلقي؛ فالمنتج النقدي- من منظورنا- هو حصيلة إحساس وجهد وخبرة ووعي جمالي بأهمية النص الإبداعي المدروس من جهة، ووعي بأهمية مقاربته فنياً بما يوازي قيمة الجودة، محايثة لجودة النص الإبداعي ، وإنما أن يخلق الناقد أسلوبه الخاص المثير ، ويترك بصمته الإبداعية طافية على المنتج. كما لو أنه كاتب النص الإبداعي الحقيقي، أو أن يعيش حالته أو طقسه الإبداعي الذي نشأ فيه المنتج الفني، وترعرع حتى آلى إلى ما آلى إليه من النضج والاكتمال، والتخليق الإبداعي المتميز، وهذا ما حاولنا الاشتغال عليه نقدياً في كتابينا المذكورين اللذين أشاد بهما الشاعر العراقي الكبير حميد سعيد، إذ تم معالجتها بطريقة فنية مخصوصة من جهة، أو موضوعية دقيقة في إصابة مرماها الفني من جهة ثانية ، خاصة فيما يخص الأحكام النقدية، واستخلاص القيم ولأحكام الجمالية. وبهذا الشكل- بمنظورنا- يتجذر النقد بوصفه فناً إبداعياًيقوم بتتبع الظاهرة المدروسة، ثم معالجتها بطريقة فنية مخصوصة من جهة، أو موضوعية دقيقة في إصابة مرماها الفني من جهة ثانية، خاصة فيما يخص الأحكام النقدية واستخلاص القيم والأحكام الجمالية. وبهذا الشكل- بمنظورنا- يتجذر النقد بوصفه ممارسة إبداعية لا استتباعية، ويحقق النقد لذَّته عند الغالبية العظمى، ممن يدركون اللعبة الشعرية، ويدركون مدى أهمية المقاربات النقدية الفاعلة التي تحيي النص، وترتقي به جمالياً.
وأخيراً يضعنا الشاعر نزار بريك هنيدي على المواجع التي وقع فيها النقد العربي المعاصر من عوائق وسلبيات لم يستطع تجاوزها، إذ يقول: " لا بد لأي متابع للحياة الثقافية اليوم، من ملاحظة الافتراق الحاصل بين الحركة الإبداعية، وبين الكتابات النقدية التي نقرؤها في الصحف والمجلات، فبينما نرى على الجانب الإبداعي نشاطاً محموماً ، يتجلى في العدد الكبير من القصائد وتجلياتها الجمالية، ومن حيث رؤاها النية وتجلياتها الجمالية ، ومن حيث نظرتها للواقع وموقفها منه، وتفاعلها معه ، فإننا على الجانب النقدي، لا نكاد نعثر إلا على كم من الكتابات الصحفية السريعة، التي تكتفي بالإشارة والعرض دون أن يبذل كاتبها أي جهد حقيقي في كشف جماليات العمل المنقول، أو في نبش خفاياه، أو تقريبه من القارئ العادي، فضلاً عن إطلاق حكم القيمة النقدي الواعي عليه، وإدراجه في مكانته التي يستحقها في تاريخ الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه . ومن ثم يصبح قولنا أن هذه الكتابات لا تفتقر إلى شيء قدر افتقادها للنقد، بمعناه الأدبي الحقيقي، وإن كتَّابها لا يمتلكون من أدوات النقد ما يلزم للتنطح لمثل هذه المهمة. هذه الأدوات التي تتجلى أساساً في الثقافة الموسوعية، والحس الجمالي المرهف، والخبرة التي يتجلى أساساً في الثقافة الموسوعية، والحس الجمالي المرهف، والخبرة الفنية العالية، والقدرة على الغوص في أعماق النص الأدبي، لتبيين مراميه وأغراضه والدوافع التي صدر عنها، والمصادر التي تناص معها، والأساليب والتقنيات التي لجأ إليها، وبالتأكيد، فإن قلة قليلة من الكتَّاب الذين يمارسون النقد الأدبي هذه الأيام، هي التي تتمتع بهذه الصفات، وتمتلك مثل هذه الأدوات، لذلك فإن عدداً منهم، إذا أراد كتابة دراسة موسعة يلجأ غالباً إلى الحراثة في أرض ممهدة ومحروثة سابقاً، فيكتب عن الشعراء الرواد أو الكبار ، معيداً إنتاج ما أنجزته الدراسات النقدية السابقة. وإذا كان من الصحيح أن أي عمل أدبي يستحق إعادة النظر إليه أو دراسته مجدداً في ضوء ما استجده من مناهج نقدية حديثة، فإن ما يكتبه هؤلاء لا يدخل في هذا المجال، لأنهم نادراً ما يقدمون ما هو جديد، ونادراً ما يغوصون بنا إلى أعمق ما وصل إليه النقاد السابقون. وكثيراً ما يحتج النقاد المعاصرون بأن كثرة الإنتاج الأدبي الراهن، وغلبة الأعمال الهزيلة والضعيفة عليه، يحول بينهم، وبين متابعة ما يصدر من إبداعات حديثة، وفي الحقيقة ؛ فإن مثل هذه الحجة لا تكشف إلا عن كسلهم، وتخليهم عن مهمتهم الرئيسية التي تتمثل في فرز الغث من السمين في تلك الإبداعات، وتوجيه جمهور القراء إلى الأعمال ذات السوية العالية، وإضاءتها أمامهم، وإرشادهم إلى مواطن الجمال والجدة فيها"( ).
وبهذا التصور فإن اللذة في النقد -من منظور الهنيدي- غابت عن دراساتنا النقدية إلا ما ندر بسبب تكرارها ونتائجها المستعادة والحراثة في أرض معتادة؛ وعدم استطاعتها فرز السمين من الغث وتبعاً لهذا؛ تبدو النظرات متفاوتة بين الشعراء والنقاد حول رجاحة النقد ومتابعته للإنتاجات الإبداعية بعين نافذة دقيقة حساسة جمالياً ، وبين تلك النظريات القاصرة التي تعتقد أن النقد ما زال هشاً عقيماً، عاجزاً عن المضي قدماً في مواكبة الإبداعات الراقية، بكشف فني وإضاءات عميقة؛ وهذا التفاوت في النظرة إلى المنتجات النقدية لا يمنع من التأكيد على أن عملة النقد الجمالية خصبة في عالمنا العربي وثمة الكثير من الأسماء النقدية التي أضفت حركة جمالية على النقد العربي، وأسهمت في تطوره؛ لدرجة أنها فاقت النصوص الإبداعية لذة، وإثارة جمالية، في تقصيها، وتحليلها النصي العميق، وما على القارئ إلا أن يطالع تلكم الدراسات القيمة التي أجراها : صلاح فضل، ومحمد العبد، ومحمد عبد المطلب، وخليل موسى، وحسين جمعة، وحاتم الصكر، وعلي جعفر العلاق، وأدونيس ، وكما أبو ديب، وعبد الملك المرتاض، وفوزي كريم، ومحمد صابر عبيد، وعبد المجيد زراقط ومحمد لطفي اليوسفي،... إلخ؛ وهذه الأسماء أضفت تطوراً هائلاً على حركة النقد العربي الحديث، واستطاعت أن تواكب تطور القصيدة الحداثية وتحرك الذائقة الجمالية في تلقي النصوص الإبداعية جمالياً ، يؤكد تطوره كل حين.
806 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع