د.عبدالقادر القيسي
يطيب للحكومة العراقية وأحزاب السلطة وسياسيي الاحتلال ووسائل اعلامهم التغني بسيادة العراق والتباكي عليها وصحت من غيبوبتها على إيقاع وادعاء انتهاكها من جانب تركيا فقط متناسين كل الانتكاسات والهزائم السياسية والعسكرية وقضية النازحين وسيطرة المليشيات والوضع الاقتصادي وتفكك الجيش وتراجع سلطته الأمنية والادارية الى أقل من نصف مساحة البلاد، واعتبرت دخول قوات تركية لتدريب البيشمركة وأبناء العشائر اعتداء على الاستقلال والسيادة الوطنية ويتصورون عمدا؛ أنهم باعتراضهم هذا يجسدون قيم الوطن وسيادته، ونسوا ان هناك نفط تستنزفه الجارة ايران ما قيمته (17) مليار دولار سنويا حسب ما ذكره(المركز العالمي للدراسات التنموية) .
فالسيادة مجموعة القواعد التي تسيّر حياة الشعب لتضمن له استقلاله الذاتي وتطوره لكي تحفظه كوحدة جغرافية وككيان اجتماعي وسياسي وقانوني متميز، والسيادة لها خمس خصائص هي انها:
ألف- مطلقة: بمعنى انه ليس هناك سلطة او هيئة اعلى منها في الدولة وهي اعلى صفات الدولة( وهذا غير متحقق فعليا في ظل سيطرة المليشيات والعصابات).
باء- شاملة: اي انها تطبق على جميع المواطنين في الدولة( وليس كذلك).
جيم- لا يمكن التنازل عنها: بمعنى ان الدولة لا تستطيع ان تتنازل عنها والا فقدت ذاتها( وقد تنازلنا عنها منذ الاحتلال الامريكي ولحد الان).
دال-دائمة: بمعنى انها تدوم بدوام قيام الدولة والعكس صحيح (والعراق وفق المعايير الدولية لا زال ناقص السيادة).
هاء- لا تتجرأ: بمعنى انه لا يوجد في الدولة الواحدة سوى سيادة واحدة لا يمكن تجزئتها، أي ليس هناك سيادة على الأرض تختلف عن السيادة في السماء( والحكومة تعتبر الأرض سيادة والسماء ليست بسيادة).
وجميع هذه الصفات لو أردنا مقارنتها مع المعطيات الموجودة والوقائع المبسوطة في المشهد العراقي نجدها منقوصة وغير مطبقة والشواهد عديدة لسنا في مجال الاتيان بمجملها.
وللعودة للتواجد العسكري التركي في العراق (اننا ضد تواجد أي عسكري غير عراقي ونعده جريمة)، السيادة باعتبارها السلطة العليا للدولة في ادارة شئونها، سواء كان ذلك داخل اقليمها او في أطار علاقتها الدولية، فمتى يكون هناك انتهاك للسيادة وكيف يمكن حمايتها؟
هناك حالات انتهاك مبدأ السيادة الوطنية تضمنتها مجموعة من القرارات والمؤتمرات الدولية ويمكن أن نذكر بهذا الخصوص، أبرز اربع حالات:
الحالة الاولة/ مبدئي: وحدة الأرض وسيادة الشعب: المكرسين في ميثاق عصبة الأمم وفي ميثاق الأمم المتحدة وفي قرار رقم 2625 (XXV) لعام 1970 وفي بيان هلسنكي، علماً أن هذين المبدأين يؤكدان على المساواة في السيادة بين الدول وعلى احترام الحقوق المرتبطة بالسيادة وعدم شرعية انتهاك الحدود الدولية، ومن مقارنة التواجد العسكري للقوات التركية نجده لم ينتهك هذين المبدأين نهائيا، لعدة مظاهر ومؤشرات:
الف- التصريحات التي رافقت التدخل العسكري التركي، منها ما اكد انه جاء بناءا على اتفاقات مسبقة بين الحكومة العراقية الحالية والسابقة وتمتد الى ما قبل الاحتلال، والتصريحات صدرت من قيادات حكومية وبرلمانية وسياسية عراقية تؤكد ان التواجد التركي جاء بناءا على اتفاقات مسبقة، ولا نريد تفصيلها لأنها باتت واضحة، والحكومة العراقية اعترضت على التواجد التركي واعتبرته خرقًا خطيرًا للسيادة العراقية، ولم تطرح لنا؛ تفسير تواجد تلك القوات منذ اكثر من عام او حتى نفي ذلك او تبريره، ولا نحتاج الى تفحيص وتمحيص لو اردنا ان نضع ميزان لوزن الأدلة المتوفرة على رجحان كفة ان التواجد التركي جاء بناءا على اتفاقات مسبقة، من عدمه؛ لمالت كفة الأدلة على وجود اتفاقات مسبقة اكثر من عدم وجودها من خلال عدة تصريحات تؤكد ذلك الامر، ابرزها:
·تصريح السيد رئيس إقليم كوردستان.
·تصريح وزير المالية هوشيار زيباري.
·تصريح أسامة النجيفي نائب رئيس الجمهورية السابق.
·تصريح اثيل النجيفي محافظ الموصل السابق.
·تصريح نواب برلمانيين عديدين منهم مثال الالوسي ونواب من اتحاد القوى والتحالف الكوردستاني.
·تصريح نائب رئيس أركان البيشمركة لشؤون العمليات، اللواء قهرمان كمال عمر، حول وجود القوات التركية لأغراض التدريب منذ عام.
·تصريح داود اوغلوا رئيس الوزراء التركي.
·تصريح رجب طيب اوردغان رئيس الدولة التركية.(جميع التصريحات التركية متناغمة وموحدة)
·تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو.
·تمديد البرلمان التركي لعدة سنوات التفويض للجيش التركي بدخول الأراضي العراقية.
·القوات التركية قد دخلت وتغلغلت في الأراضي العراقية ورافقتها طلعات وضربات جوية ومدفعية ومنذ سنوات لمواقع حزب العمال الكردستاني في شمال العراق وليس هناك احتجاج بانتهاك السيادة العراقية.
·زيارة وزير الدفاع لمعسكر بعشيقة أكثر من ثلاث مرات اخرها قبل أيام من اثارة الضجة.
· علم رئيس مجلس النواب بالتواجد العسكري التركي وذهابه لتركيا عدة مرات لاجل تعزيز التعاون الأمني والعسكري مع تركيا.
·هناك اتفاقية بين السيد المالكي وتركيا في عام 2007 وتم تشكيل مجلس استراتيجي للتعاون المشترك بين العراق وتركيا.
·تصريحات لمسؤولون في واشنطن؛ إن الولايات المتحدة على دراية بنشر تركيا مئات من الجنود الأتراك في شمال العراق.
·تصريح المتحدث باسم وزارة الخارجية الألمانية (سيباستيان فيشر) إن “الجنود الأتراك موجودون بشكل فعّال في شمال العراق منذ أعوام خلت”.
الحق إن لم تكن له قوة تحمية يداس:
التواجد العسكري التركي في العراق افرز مشكلة؛ حتى على مستوى التصريحات الاعلامية، مما يدل على عدم وجود تنسيق مشترك بين رئاسات الجمهورية والحكومة واقليم كردستان، بالإضافة الى لجنة الأمن والدفاع والعلاقات الخارجية البرلمانيتين وعدة نواب، حيث صرحت جميعها بتصريحات متناقضة، وممثل العراق الدائم في مجلس الامن لم يطلب قرار من مجلس الامن بإجبار تركيا على مغادرة قواتها الأراضي العراقية، ولم يطلب عقد جلسة طارئه لمجلس الامن، فقط طلب مندوب العراق ان يطلع مجلس الامن، ومجلس الامن عادة يتقيد بالطلب وما كتب فيه لأنه يمثل ارادة الدولة فأبدى قلقه فقط من وجود الاتراك .
باء- ان جميع التصريحات الرسمية لدولة تركيا تؤكد احترامها للسيادة العراقية وانها داعمة لها في محاربتها الإرهاب، ومن ملامسة الواقع العراقي واستقراء مجرياته وفحص وقائعه ومقارنتها بالتصريحات الرسمية وغير الرسمية، نجد ان تركيا لم تنتهك الأراضي العراقية الا بموجب اتفاقيات مسبقة، وحسب ما هو واضح مما اوردناه في اعلاه، ولو اردنا مقارنة الخطورة المتأتية من هذا التواجد وقارناها مع هجوم حشود الزائرين الإيرانيين التي وصل تعدادها بالآلاف، من خلال التعدي على الحدود العراقية في معبر زرباطية في أيام الزيارة الأربعينية، وترك الآلاف من الأفغان يدخلون حدود العراق بدون جواز وتأشيرة ولم يغادروها، وشاهدنا بعض القيادات الحكومية والسياسية أخذت تبرر لهم، ان دخول قوات نظامية من حكومة معترف بها وبموافقة الدولة العراقية لا يعد خرقا للسيادة كما تحدث البعض، بل ان اقتحام اعداد كبيرة من الاجانب والتعدي على المنافذ الحدودية في المحافظات الجنوبية دون محاسبة المقصرين يعد خرقا للسيادة، والجارة ايران انتهكت مبدأ السيادة الوطنية بأوسع ابوابه وبأبشع صوره، وهناك خطورة على الامن الوطني والقومي من تواجد زائرين بالألاف بدون جوازات والجانب الإيراني رفض استقبالهم، اذن الامر مبيت وفيه تداعيات مستقبلية مؤلمة ستنجلي اثارها لاحقا.
جيم- أن تركيا هي إحدى الدول التي شاركت في التحالف الدولي لمحاربة داعش في العراق وسوريا، والحكومة العراقية أعطت هذا التحالف حرية التحرك على أراضيها.
الحالة الثانية/ حق كل دولة وكل شعب باختيار نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي بحرية، هذا الحق مكرس في مختلف الإعلانات القانونية والسياسية والاقتصادية (قرار رقم 3281 (XXIX) عام 1947)، ونعتقد ان هذا المبدأ منتهك من جميع الدول التي لها مصالح في العراق، ولو أردنا قياس مدى قوة تأثير الدول في تنصيب الحكومة العراقية التي تحقق المصالح المرجوة والمبتغاة لها، لكان التأثير الإيراني في تنصيب الحكومة يعلوا على التأثيرات الأمريكية والتركية وباقي الدول المجاورة بفارق كبير؛ فاين السيادة التي نتفلسف بها؟
الحالة الثالثة/ مبدأ عدم التدخل: كل الاتفاقيات والمواثيق الخاصة بالأمم المتحدة تؤكد على مبدأ عدم جواز التدخل في شؤون أي دولة من دولة أخرى، وبكافة صوره، وبيان هلسنكي منع بشكل عام كل تدخل مباشر أو غير مباشر فردي أو جماعي في الشؤون الداخلية أو الخارجية للدول، ولو اردنا قياس حجم التدخل التركي بالتدخل الإيراني بالشؤون العراقية؛ لوجدنا المنسوب واطئ جدا، والمعلن في التدخل الايراني غير حقيقي، وايران تقول انها ترسل مستشارين لكن الوقائع على الأرض تشير عكس ذلك وهذا واضح من حجم القتلى في القادة الإيرانيين وحجم المليشيات التي تدعمها ايران، ولم نجد تصريح لمسؤول تركي او عربي او حتى امريكي يفصح به عن تدخل بلده في شؤون العرق، في حين لو رجعنا للتصريحات الإيرانية ومن مسؤولين كبار يفصحون علنا تدخلهم بالعراق وبتصريحات كان لا بد للحكومة ان كانت تعتبر السيادة خط احمر، ان ترد على تلك التصريحات وتستنكرها، وبعضها فيه تجاوز قاسي على قيم العراق كدولة وكشعب، ومن توثيقنا لهذه التصريحات، التي تراوحت بأكثر من ثلاثون تصريح واخرها تصريح الجنرال عطا الله صالحي قال فيها: (ليس من حق العراق منع الإيرانيين من دخول اراضيه لأنها ارض اجدادنا سابقا، ونحن لحق فيه لذا يتوجب على العراقيين معرفة هذا الحق وتجنب استفزاز الامة الإيرانية) والوقائع التي ينقلها أهالي كربلاء والنجف عن مظاهر التدخل الإيراني في شؤون محافظاتهم كارثية، وتجسد تدخلا سافرا في شؤون العراق بطريقة جعلت من السيادة في العراق مستباحة، والعراق اصبح دولة فاتحة حدودها وسمائها للجميع، والطائرات الأمريكية والغربية تخترق أجواءنا يومياٌ وطائرات أجنبية تنقل أسلحة وأموالاً غير مرخص بها تمر من أجوائنا وتهبط في مطاراتنا وصواريخ تعبر اجوائنا، وبنفس الوقت نطالب باحترام سيادة وكرامة العراق، وعلى قول احد الكتاب(ان العراق والجارة ايران اصبح كزوج وزوجته لكن حتى الزوجة لها حقوق لكنها مع ايران لا تتمتع بها) والامثال تضرب ولا تقاس، وانا أقول العراق اصبح حوض سمك يرمي به من يشاء سنارته لصيد الأسماك دون وجل او خوف من احد؛ بسبب سياسة الكيل بمكيالين.
إن مفهوم الكرامة الوطنية ينص على وجوب رفض أي تدخل عسكري او مدني خارجي ليس فقط التواجد التركي (وكما صرح السيد السيستاني).
الحالة الرابعة/ دور الإرادة في سلب إرادة الدول: وتحقق ذلك عندما فرضت أمريكا ارادتها بالقوة على العراق واحتلته على مزاعم كاذبة، ولا زالت بعض الدول تمارس هذا الدور وبأشكال متعددة، بخاصة في تنصيب القيادات التي تقود الحكومة.
ان ساسة العراق، تارة يتغنون بالسيادة بالصبغة المذهبية عندما يتعلق الامر بتركيا والمحافظات السنية وتارة بالصبغة القومية للسيادة عندما يتعلق الأمر بإقليم كردستان، والزوبعة الأخيرة التي أثيرت بحق تواجد القوات التركية في معسكر بعشيقة كان واضحا في سبيل تنفيذ سياسات تخدم المحور الايراني السوري الروسي ضد دول وحكومات من محور آخر مثل تركيا وبلدان الخليج، إن تحرك بغداد للضغط على انقرة في مسألة إرسالها جنودا الى شمال العراق، ربما يأتي ردّا على إسقاط تركيا للطائرة الحربية الروسية ومتناغما مع إيقاع موقف أنقرة من قضايا الصراع الطائفي في المنطقة وعلى نحو خاص في سوريا، وهناك من يريد اثارة هذا الموضوع والمبالغة فيه ليس من أجل السيادة العراقية المشروعة بل ضد تركيا ودعما لروسيا.
ونقول: هل يحق لتركيا بعد أن أعلن العراق، حكومة وبرلماناً، رسمياً وبكل الطرق الممكنة، عن رغبته بسحب هذه القوة عن أراضيه، أن تقرر من جانب واحد، الإبقاء على هذه القوة، شاء العراقيون أم أبوا، شاءت حكومة العراق الشرعية أم أبت؟
ان الحكومة العراقية كان عليها ان لا تقوم بتصعيد الموقف بخاصة؛ ان العراق لم تكتمل سيادته وفق المعايير الدولية، فلا زال العراق يرضخ لبعض بنود الفصل السابع ولا زالت أمواله تحت الوصاية الدولية، وكان على العراق تهدئة الموقف وعدم التمترس مع محاور لا تحقق مصلحة للعراق، والطلب من تركيا التفاهم حول الاتفاقات المبرمة، والعمل على الغاء ما لا يناسبها وفق الطرق المتبعة، وبعدها لا تكون هناك حجة لبقاء القوات التركية في العراق وبعيدا عن خلق توترات ليس لها ما يبررها في خضم المصالح التي تحققها تركيا للعراق، وعدم محاولة التباكي وبكل وقاحة على شاشات الفضائيات وفي صدر الواجهات العريضة للصحف عن مخاوفنا على السيادة العراقية، وخلق مفاهيم تفرق بين السيادة في الجو عن الارض لان السيادة واحدة لا تتجزأ.
ان السيادة واحدة في كل الأحوال فالذي يعتبر وجود القوات الأمريكية على الأرض العراقية خرقاٌ للسيادة عليه أن يعترف بذلك عند خرق القوات الإيرانية والتركية وقوات حزب العمال التركي لأراضينا وأجوائنا كذلك وعند اقتحام الإيرانيين والأفغان لمنافذنا الحدودية بالقوة، والسيادة تشمل الأرض والأجواء والمياه والحدود وكل المصالح العراقية داخليا وخارجيا ٌ.
ويقول الامام الغزالي رحمه الله:
انما فسدت الرعية بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء، فلولا قضاة السوء وعلماء السوء، لقل فساد الملوك خوفا من انكارهم)
ويقول المتنبي:
ومن نكدِ الدنيا على الحرِ أن يرى عدوٍ له ما من مصاحبته بدُ
952 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع