احسان الفقيه
العلماء بين الأمس واليوم... أين أنت يا ابن عبد السلام؟
لما تحالف الملك الصالح إسماعيل مع الصليبيين، وسلّمهم بعض المدن ليكونوا له عونا على نجم الدين أيوب حاكم مصر، وأذِن لهم بدخول دمشق وشراء السلاح لقتال المسلمين في مصر، انبرى عالم جليل يقف بصلابة الجبال أمام هذه الخيانة التاريخية للأمة.
إنه الإمام العز بن عبد السلام، ذلك العالم الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، وأصدر فتواه صراحة دون مواربة في حُرمة بيع السلاح للصليبيين لأنه تحقق من كونهم يشترونه ليقاتلوا به المسلمين في مصر.
وعلى منبر المسجد الأموي الكبير، تعالت صرخات الحق، وذمّ الشيخ موالاة الأعداء، وشنّع بالخيانة، وشدد النكير على السلطان، وقطع الدعاء له بالخطبة، ودعا أمام الجماهير بما يُفهم أنه خَلعٌ وعزلٌ للسلطان.
وسارع إسماعيل بإصدار أمر بعزل الإمام من الخطابة والإفتاء وأمر باعتقاله، ثم أفرج عنه وحدّد إقامته، ومنعه من الفتيا.
وأثناء مسيره لقتال المصريين، أرسل إسماعيل إلى العز من يحثه على مداهنة السلطان والتلطف معه، ووعده بالعودة إلى منصبه شرط أن ينكسر أمام السلطان ويُقبّل يده.
فما كان من الإمام إلا أن قال لمُحدّثه: يا مسكين، ما أرضاه أن يقبل يدي فضلا على أن أقبل يده، فأخذه واعتقله في خيمة إلى جانب خيمة السلطان.
وبينما السلطان في الخيمة مع حلفائه الصليبيين، إذ تناهي إلى أسماعهم صوت الشيخ وهو يتلو القرآن، فقال السلطان لجلوسه: هذا أكبر قُسُوس (علماء) المسلمين، وقد حبستُه لإنكاره عليّ تسليمي لكم حصون المسلمين وعزلتُه عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه، فقال ملوك الصليبيين:
والله لو كان هذا قسيسنا؛ لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها.
*هو نموذج لما كان عليه علماء الأمة السالفون من مهابة ومكانة وقوة في التأثير وتفاعل مع الأحداث، جعلت الساسة والحُكّام يدمجونهم في أي حسبة سياسية.
لقد صارت هذه النماذج القوية لنا كأساطير إغريقية أو حكايات ألف ليلة وليلة، بعد أن غابت عن واقعنا، وصار العلماء ما بين أفّاق مدلس يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، أو مُخلص ضعيف مغلوب على أمره أقصى طموحاته أن يكون صمته عن قول الباطل محفوفا بالسلامة، وقليل منهم يصدع بالحق ويقوم بدوره المنوط به، وربما تعرّض جراء ذلك للقتل أو التعذيب أو السجن.
راودني سؤال:
هل من الإنصاف أن نعقد مقارنة بين علماء اليوم وعلماء الأمس؟ أقول نحن مضطرون لعقد هذه المقارنات، ونُقرُّ في الوقت ذاته بضعفها لاختلاف المقوّمات والمناخ بين الحاضر والماضي.
لماذا فقد علماء العصر تأثيرهم في الجماهير ومن ثمّ فقدوا تأثيرهم لدى صناع القرار؟ لماذا انتُزِعت هيبتهم من أعين وقلوب الحكومات؟ ذاك ما أرسلتُ فكري للتجوال فيه والوقوف على أسبابه، واهتديتُ إلى أن هذه الأسباب لها وجهان، فهي من وجهٍ تُظهر عوامل ومؤثرات خارجية هي من صاغ مكانة العلماء وحدد تأثيرهم، ومن وجهٍ آخر تُظهر مسئولية العلماء عن اختزال دورهم وضعف تأثيرهم.
السبب الأول: غياب الحاضنة الشعبية
فتأثير العلماء في السابق كان نابعا من وعي جمعي ونضج جماهيري عام، فكان السياق التاريخي في كثير من الحقب مُفعما بوعيٍ عام يدرك أهمية العلماء وحاجة الناس إليهم، وضرورة الالتفاف حولهم باعتبارهم القيادات الجماهيرية التي تلتحم مع الشعوب، وتقود مسيرة تطلّعاتهم، وتقوم بدور الوسيط الأمين بين الرعية والوالي.
هذا الوعي خلق نوعا من الرهبة في أروقة السياسة ودهاليز الملك تجاه هؤلاء العلماء، الذين يشكلون الرأي العام، ويستطيعون تعبئة الجماهير بخطبة رنانة، فكان الساسة لا ينفكون عن مراعاة هذا الجانب في أي معادلة سياسية.
*مرة أخرى نلتمس من حياة (العزّ بن عبدالسلام) دعما لما نقول، فعندما وصل العالم الجليل إلى مصر، رأى أن الأمراء الذين يعتمد عليهم الملك الصالح أيوب لا يزالون في حكم الرق، فهم في الأصل مماليك تم جلبهم من أسواق الرقيق صغارا وتدريبهم حتى شبوا وتنفذوا في السلك الأمني والإداري.
وبناء على ذلك رأى الشيخ أن هؤلاء لا تثبُت لهم ولاية ولا تَصَرُّف في الشأن العام، ما لم يُحرَّروا، فأدى ذلك إلى تعطل مصالح الأمراء، كان من بينهم نائب السلطان نفسه، فحاولوا مساومة الشيخ لتمرير المسألة دون ضجيج، فأبى إلا أن يُباعوا وتُرد أثمانهم إلى بيت مال المسلمين، ويُعقد لهم مجلسٌ ليباعوا فيه وينالوا العتق بطريقة شرعية.
وأبى الشيخ أن يستجيب لمراجعة السلطان نفسه، والذي أصر على أن المسألة لا تتعلق بسلطات وصلاحيات العز بن عبد السلام، فانسحب الشيخ، وعزل نفسه من القضاء وغادر القاهرة.
ولك أن تتخيل عزيزي القارئ هذا المشهد التاريخي، إذ خرج الشعب وراء العز مغادرا بدوره، احتجاجا على موقف السلطان من العالم الجليل وتأييدا للحق، فما كان من السلطان بعد أن أدرك خطورة الموقف إلا أن ركب في طلب العز واسترضاه للرجوع، فوافق الأخير على أن يتم بيع الأمراء، وبالفعل وقف الشيخ في مجلس البيع ينادي على الأمراء، ويغالي في أثمانهم لإفادة بيت المال، وسُمّي من وقتها "بائع الأمراء".
*هذه الحاضنة الشعبية والالتفاف الجماهيري، خدم الشيخ في قضيته في إقرار الشريعة رغم أنف الحاكم.
وبالنظر للوجه الآخر للعملة، نسأل علماء عصرنا كذلك: أين أنتم من التأثير في الناس، أين أنتم والعمل في الميدان والخروج عن حيّز جدران المساجد كما فعل الأولون؟!
نأيتم بأنفسكم -إلا من رحم الله وقليل ما هم- عن النزول للناس، ومعالجة قضاياهم، وتقديم الحلول العملية لأزماتهم..
وعفوا..
لا مجال للتذرع بالظروف والأحوال، فأنتم القدوات، وتدخلون في مصطلح "أولي الأمر" وهو ما نص عليه ابن عباس ومجاهد وعطاء والحسن البصري وغيرهم من أئمة التفسير.
هي إذن قضية مشتركة، غياب تأثير العلماء في الساسة جاء نتيجة غياب الوعي الجماهيري، والذي يُعتبر العلماء سببا من أسبابه.
السبب الثاني: هيمنة العلمانية
عندما بسطت العلمانية سيطرتها على أروقة الحكم وأنظمته في قوالب وأشكال متعددة، وعبْر مسارات مختلفة، وعزلتْ الدين عن السياسة والاقتصاد والإعلام.. تحوّل العلماء من قادة للجماهير إلى وُعّاظ وأئمة مساجد، لا علاقة لهم بالقرارات السياسية، وغاب دورهم في تنقيح القرار السياسي ومتابعة الحُكام، وتقوقعوا في بيوت الله، وصار جُلّ عملهم إلقاء خطبة أو محاضرة، وفقدوا تلاحمهم الميداني مع الجماهير، وصارت هيئاتهم مجرد مؤسسات روحية أخلاقية.
*في السابق كان العلماء في صدارة الصفوف في ميادين الجهاد، تراهم على رأس الحاكم يعترضون على قراراته إذا ما خالفت الشريعة، يقودون الجماهير في الثورات، يتقدمون المسيرات في عرض مطالب الشعب ورفع الظلم، ويفتون في النوازل، ويقدمون الحلول العملية للناس.
*العالم الجليل شيخ الإسلام ابن تيمية، كان مع غزارة علمه وعِظم جهده في الدعوة والتعليم والإرشاد، كان في ميدان الجهاد مقاتلا ومرشدا يبثّ روح النضال، يثبت الجند، ويوقظ الهمم، وقف يوما في أرض المعارك يصرخ: "والله إنكم منصورون ،فيقال له: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا".
*وحين توجه غازان ملك التتار الذي ادّعى الإسلام لغزو الشام، خرج إليه ابن تيمية وعنّفه وحذّره من قتل المسلمين، وكان يرفع صوته أمامه ويُخوّفه، حتى خافه ملك التتار وأنصت له.
ولكن في المقابل يُلام العلماء لأنهم أناخوا مطاياهم لتنفُّذ العلمانية، وانزوى كثير منهم إلى الحكام إيثارا للراحة وطلبا للسلامة، مع أن التاريخ قد امتلأت صفحاته بعلماء صمدوا أمام تغيير الهوية الجارف، على رأسهم الإمام أحمد في محنته أمام المعتزلة الذين تسلطوا بسيف الخليفة.
السبب الثالث: الاسترزاق بالعلم
فقد العلماء تأثيرهم ومهابتهم لدى الحُكّام، عندما صارت جهودهم وظيفة يتكسبون منها، بعد أن عمدت الأنظمة العلمانية إلى إدراج الأنشطة الدينية في ميزانية الحكومات وسلب الأوقاف التي كان يوقفُها أهل البر على العلماء لكفايتهم، وعلى سبيل المثال: قيام عبد الناصر بسحب معظم أوقاف الأزهر من الأراضي الزراعية وإصدار قانون 1961 وبموجبه تم سحب أوقاف الأزهر مقابل إدراجه في الميزانية المعتمدة من الحكومة، حيث صار مؤسسة تابعة للدولة، فتم تسييس وتطويع هذه المؤسسة العريقة لخدمة النظام.
*لكن في المقابل أيضا، ليس ذلك بعذر للعلماء في التنكّب عن أداء دورهم، وقبول هذا التلاعب بهم وبمكانتهم من أجل لقمة العيش.
ويحضرني في ذلك المقام موقفٌ فريدٌ للشيخ سعيد الحلبي أمام إبراهيم باشا (والي محمد علي في سوريا) فعندما دخل إبراهيم باشا المسجد وأقبل عليه الناس، ظل الشيخ الحلبي جالسا مادَّا رجليه، فاستشاط إبراهيم باشا غضبا، وأراد إنهاء هذا المشهد المزعج بألف ليرة أرسلها للشيخ مع وزيره، فما كان من الحلبي إلا أن قال للوزير: عد نقود سيدك وردّها إليه،وقلله: إن الذي يمدّ رجله، لا يمد يده".
أضف إلى هذه الأسباب ما شئت، غير أنني أُنبّه على أن الأمة لا تعدم الخير ولا العلماء الربّانيين، ولكن ما عرضتُه هو الأعمّ الأغلب في واقع أهل العلم، نسأل الله لنا جميعا عودة صادقة، يعود معها أمثال العزّ.
965 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع