من دفتر الذكريات حكاية من جامع النبي شيت في الموصل

                                                            

                               بدري نوئيل يوسف ـ السويد

لقد فتح الزمن بابه ليمد الناس اقدامها في مسالكه الواسعة الممتدة في اغواره وتفتح اعينها لترى العقد العشرين وتشاهد احداث خاصة وعامة وتصور وتكتب وتؤرخ ما يطرأ على بلادنا والعالم من حروب ودمار وأساليب مبتدعة في الحياة وتعد الخطى الجريئة التي تمكن الانسان من أن يخطو في العالم المجهول المليء بالإلغاز لينشر النور في طريق الاجيال الصاعدة ويزرع السعادة في ساحاتها التي ملأها الجهل ، والكل يحدوهم الامل لخلق إنسان أرفع .

هذه الحكاية القصيرة انها من مسيرة الزمن الصاخب فهدير الايام يتراقص امام مسامعنا يلوح للناظرين العتمة الكثيفة فإذا بها تبدو واضحة لحوادث تاريخية واضحة احيانا وغامضة احيانا اخرى حدثت في مدينة الموصل ،
اسجل هذه الحادثة التي وقعت في بداية القرن العشرين حدثتني والدي أنه سمع هذه الحكاية من والده (رحمة الله عليهما)  ، وكانت من الاوراق الاولى في دفتر ذكرياتي .
رأى والي الموصل مصطفى باشا النشانجي في المنام النبي شيت ودله على قبره  ، فأمر الوالي الحاج علي بن النومة أحد تجار الموصل ان يحفر على الموضع الذي رآه في المنام ، فحفر واخرج القبر وبنى عليه الحاج علي المذكور قبة وصار يعرف بمرقد النبي شيت ، ثم اقيم بناء مسجد بجانبه تقام فيه الصلوات الخمس ، وصار يعرف بمسجد النبي شيت ، ومن بعد ذلك بناه احمد باشا بن سليمان باشا الجليلي والذي تولى ولاية الموصل مرتين بإضافة أرض واسعة مما يجاور المسجد وبناه من جديد جامعا كبيرا وبنى فوق القبر قبة كبيرة وبنى فيه مدرسة ، أما الحرم فظل على هيئته القديمة وخصوصا المحراب والمنبر فقد بنيت من الحجر وزينت بالكتابة عليه والزخارف ولم تفقد الطابع الأثري.
يقول والدي : عن حادثة وقعت اثناء سيطرة الدولة العثمانية على العراق ، في عام 1909 اكمل بناء جامع النبي شيت وأقام الوالي حفلة افتتاح فخمة ودعى المسئولين بالدولة وشخصيات مدنية من الموصل ، وأراد الوالي أن يحصل على صور لبعض مناطق وأروقة وأجنحة الجامع والمصلين فيه أثناء الافتتاح ليرسلها للخليفة العثماني الذي أمر بتجديد بناء الجامع وتوسيعه .
كان المصورون في الموصل نادرين في تلك الفترة الزمنية ، فسأل الوالي حاشيته عن مصور فدله احدهم على مصور ارمني ، ارسل الوالي الجندرمة ( الجنود ) واستدعوا المصور ولما مثل بين يديه اخبره بما يريد ، رفض المصور طلب الوالي وقال له : سيدي الوالي تعرف أن التصوير حرام حسب رأي الجماعة وإن قمت بتصوير الاحتفال سألقي بنفسي بالتهلكة ، وإذا ثار المصلين عليّ سيقطعونني اربا اربا . فهم الوالي ماذا كان يقصد المصور الأرمني ،  ورد عليه بجدية وحزم قائلا له : عليك الحضور ومعك آله التصوير وأنا سأكلف الجنود بحمايتك واضمن لك إلا يصيبك أي اذى ولا مكروه لو اجتمع الناس كلهم عليك ، اقتنع المصور بكلام الوالي بعد وعده بحمايته وفعلا أعد له عدد من والجنود ورجال الامن يقفون خلفه خفية لحماية المصور وآلة التصوير .
في يوم الافتتاح جاء المصور الى الجامع ونصب الكاميرا فوق محل مرتفع يطلّ على المصلين وعلى أجنحة الجامع وأخذ يلتقط الصور ، ولم تمضي إلا دقائق معدودات على بدء الاحتفال وإذا بأحد المصلين يتوجه نظره نحو المصور فيراهُ امام ماكنة عجيبة مرفوعة على ثلاث ارجل من الخشب ويقف خلفها رجل يوجه آله التصوير بعدة اتجاهات لالتقاط الصور ، صرخ الرجل وهو يرتجف من الخوف والرعب ! ايها المسلمون أسرعوا لهذا الكافر فأنه يوجه سلاحه الفتاك نحونا في هذا اليوم البهيج والعظيم ليهلكنا جميعا لان معه مدفع مدمر .
هب المصلين نحو المصور ولكن الجنود والحماية المكلفة بحراسته تمكنوا بعد جهد كبير من انقاذه وأبعاده عن الجماهير الغاضبة وأخرجوه من الجامع وأرسلوه الى مكان أمين لا يقع بيد الثائرين ضده ، غير أن الناس لم تهدأ ، بل اخذوا يرددون عبارات الغضب والتهديد ويقصون ما حدث في مجالسهم ، واعتبروه ما فعله المصور خطة مدبرة من قبله أو مكلف من قبل النصارى المقيمين في الموصل ، ولم يصدقوا حكاية الوالي وتكليفه للمصور بأخذ الصور لأنهم لم يكونوا يعرفون حينذاك شيئاً عن التصوير والمصورين .
انها الاحداث التاريخية المتلاحقة التي تتوالى متسابقة يوماً بعد يوم ، وهكذا دمر الجامع ولن يبقى منه غير اثر  سوى بعض الذكريات ، وتبنى التنظيم المتطرف الذي اعلن “ الخلافة ” في المناطق التي سيطر عليها ، في حزيران 2014 ، تفجير عدد من اماكن العبادة التي يعود تاريخها الى قرون من الزمن ، وبين هذه المواقع مسجد ومرقد النبي شيت الذي يحظى بقدسية لدى المسلمين والمسيحيين على حد سواء ، و عدد كبير من الشواهد والمساجد والتماثيل التي تجسد تاريخ هذه المدينة الغنية بالآثار وقد حولت الى ركام .

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1438 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع