خالد القشطيني
لم أكن أتصور مطلًقا أن للقمل هذه المكانة في تراثنا. على أثر ما كتبته في مقالتي السابقة عن مذكرات الأديبة الفاضلة بلقيس شرارة «هكذا مرت الأيام»٬ وما جاء فيها من ذكر طيب لشخصية القمل٬ نبهني أحد الزملاء٬ صديقي أبو نبيل٬ إلى خطأ فاضح فيما كتبت عن هذه الحشرة العريقة والصحيحة النسب. كنت قد قلت إن
القمل نوعان؛ نوع أسود ونوع أبيض. لفت نظري صاحبي فقال هذا موضوع انتبه إليه أبو عمرو الجاحظ فعالجه حين كتب وقال إن القمل يتلون حسب الظروف٬تماًما مثل البعض من ساستنا وكّتابنا. فعندما يكون الشعر أحمر يصبح أحمر وعندما يكون أسود تراه يسود.
وهو أبيض في الجلباب أو الفانلة تماشًيا مع لونها الأبيض. والحقيقة٬ كما تبدو لي أن بعض ساستنا وكّتابنا تعلموا هذه المقدرة في التلون حسب الظروف من القمل.
وليس في ذلك أي شيء غريب٬ فالقمل جزء حي من تاريخنا ومجتمعنا بحيث استطعنا أن نميز بين ذكر القمل٬ فسميناه أبا عقبة٬ وأنثى القمل٬ فسميناها أم عقبة٬ وأحياًنا وتلطًفا باسم أم طلحة. سيتساءل القارئ فيقول٬ وكيف تستطيع أن تميز بين أبي عقبة وأم عقبة؟ هذا يا سيدي أمر هين على أكثرنا فنحن نستطيع أن نشم رائحة امرأة من مسافة ميلين وأكثر.
وكان بعض الأعراب يقتاتون من أكل القمل٬ ومنهم بنو أسد والهوازن. وقد أشار لهم أحد الشعراء:
ألم تر جرما أنجدت وأبوكم
مع الشعر في قص الملبد شارع
إذا قرة جاءت تقول أصب بها
سوى القمل إني من هوازن ضارع
وعندما أشرت إلى النسب العريق للقمل٬ فإنما فعلت ذلك بناء على ما قالته العرب في هذا الخصوص.
اعتقد بعض القوم أن القمل تكون من الفضلات التي سقطت من خلق آدم عندما خلقه الله تعالى. هكذا قالت العرب.
وقدر لهذه الحشرة الصغيرة أن لعبت دوًرا كبيًرا في تاريخنا الاجتماعي. فقد أصبح اصطيادها وقصعها ملهاة ممتعة عند الكثيرين.
مر شاعر بالفقيه أبي العلاء العقيلي وهو مشغول بتفلية ثيابه فأوحى للشاعر بقصيدة طويلة قال فيها:
وإذا مررت به مررت بقانص
متصيد في شرقة مقرور
للقمل حول أبي العلاء مصارع
من بين مقتول وبين عقير
وقد شغفت النساء بصورة خاصة في التفلي عن القمل. في زماننا هذا تجد المرأة مشغولة بأكل الفستق واللب٬ أو طلاء أظافرها عندما تقرأ لها شيًئا عن جرائم«داعش». في عصور ازدهار الحضارة العربية قبل قرون كنت تجدها٬ تفلي ثيابها وتقصع القمل عندما تكلمها أو تقرأ لها شعًرا. وكن يطربن طرًبا شديًدا عند سماع
طرقات القصع!!.
1176 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع