انحدار الأخلاق وتفسّخ السلوكيّات فـي المجتمع العراقي

                                                 

                                د. سيّار الجميل

|  1 - 2  |

أتمنّى مخلصاً أن لا يتشدق البعض بالقول لإننّا نتجنّى على الشعب العراقي إذا ما تدارسنا سايكلوجيّاته وأمراضه وتعقيداته اليوم، وما آلت إليه أحوال العراقيين بعد أزمنة توالى خلالها الدمار والخراب يوماً بعد آخر، وحلّت الانقسامات الاجتماعيّة الضاريّة إثر الانشقاقات السياسيّة المدمرّة، واستفحل اليوم دور الملالي متدني المستوى سواء كانوا بالعمّات السوداء أو البيضاء أو بغيرها فهم من الدجالين الكذابين ،

وحكم البلاد الشقاة والطائفيون والمليشيات والمتحزّبون والمرتزقة والمتعصبّون واللصوص الذين أتى بهم أولئك الانقلابيون من المجانين الحمقى اولاد الشوارع ، أو أولئك المحتلون البغاة الذين تقاطعت مصالحهم مع حكم المستبدّين وهيمنة أبناء العائلة ومن أحاطها من أحلاف العشائر التي ضمت شرائح من الجهلة القساة والأغبياء العتاة ، ومن صفّق لهم من المنافقين (اللوكيين) والمرائين والملالي والمرضى النفسيين وانصاف المثقفين .

إن المجتمعات السويّة، كائنات جمعيّة تتمتّع بصفات الطبع والتطبّع كالبشر السوي، وهي تتعرّض لأمراض وأوبئة وطواعين في عاداتها وسلوكيّاتها، وقد تكون الأمراض مزمنة متوّطنة ، أو تكون عابرة للبيئات والمناطق حسب عادات وقيم كلّ بيئة .. ومجتمعنا العراقي يتعرّض منذ أزمنة مضت إلى أشدّ أنواع الامراض المستعصيّة التي لم يعالجها احد ، لا من العلماء ولا من القادة والحكماء على مهل شديد بسبب شراسة المجتمع اولا والدولة معا ، بل إن العراقيين قد ابتلوا بأوبئة وامراض سايكلوجية تعود في بعض عواملها الى ازمنة طويلة جدّا ، وتمتد الى مئات السنين ، كما مرّوا بمحن ومراحل صعبة جدا طالهم فيها الاستئصال والكراهيّة والاحقاد والايذاء والانقسام والاضطهاد والبطش والغزوات والقحط والتهجير والرعب والطواعين المعدية .. وكلّها كانت لها آثارها وتداعياتها على سلوكيّاتهم وعاداتهم ومأثورهم الشعبي ، بل كانت افعالها وردود الافعال تنخر افكارهم واذهانهم وسايكلوجياتهم، فتجدهم يظهرون في حالة ويبطنون حالات اخرى ، تجدهم لا يفصحون عن كلّ ما في دواخلهم ويستقوون ويضعفون حسب المناخات السياسيّة .. يخافون من القويّ ، ويستبيحون الضعيف ، ينفرون من اناس لا يعرفونهم ، بل يحقدون عليهم ويريدون سحقهم ! يصبح الحقّ عندهم باطلا والباطل حقّا مشروعا .. ويناصرون غيرهم حتى لو كانوا من حلفاء من يتعبدّونه ويخلصون له ، ان سجل تاريخ العراقيين حافل بالخيانات ، ما دامت الامراض تستفحل في المجتمع والداء يسري في مفاصله من دون تربويات ومن دون اخلاقيات ومن دون وعي بالقيم  !

عراقيون يدينون حركات ومجتمعات وسياسات وانظمة وآراء ومفاهيم .. كونها لا تلتقي مع معتقداتهم وافكارهم دون ان يعلنوا عن ذلك .. إنهم يكذبون على انفسهم باستغفالهم الآخرين كونهم من ابناء هذا العصر ، ولكنهم في الحقيقة يعيشون قيما ماضوية مهترئة، وبعضهم يكذب على الآخرين كونه من التقدمييّن او اليساريين او القوميين ، ولكن سلوكيّات اغلبهم لم تزل متحجّرة حتّى يومنا هذا . لو سمح لكلّ انسان في المجتمع العراقي ان يكتب قصّته الحقيقيّة والصريحة في الحياة ، لوجدتم ان هناك مسرحا سورياليا مقيتا هائل الابعاد تتنافر فيه التناقضات الى درجة العبث والجنون من الكراهيّة والاحقاد .. ويقابله مسرح صغير جدا تتحرّك فيه القيم الجميلة والسلوكيات الرائعة لنخبة من العراقيين الذين لا يمثّلون إلا عشر معشار ذاك العبث المجنون !

أقرّت المجتمعات المتمدّنة ضمن سلوكيّات الناس تقدّما ملحوظا منذ القرن السادس عشر ، اذ تشير بعض الادلّة التاريخيّة ان منع الناس من البصاق في الشوارع والاماكن الخاصّة والعامة لها دلالات حضاريّة في التخلّص من سلوكيّات العصور الوسطى، ثم غدت هذه العادة منذ اكثر من خمسة قرون هي الدالة على الخلق الحسن، وكعادة حسنة تخلّص عموم الناس من انتشار المكروبات في ما بينهم ، لتغدو هذه " الظاهرة " دلالة على مدنية المجتمع من تخلفه ، وكلّما مضت الايام ، تحسنّت اخلاقيّات الانسان وتميّز عن الآخرين ليس بحسن الخلق او قوّة الثروة ، بل بحسن السلوك وقوّة الاخلاق . ومن يراقب تاريخ سلوكيات المجتمعات المتقدّمة ، يرى بعد ذلك، ان البصاق أصبح أكثر تقييدا من أيّ وقت مضى حتّى تمّ حظره تماما.

في عقد الستينيات من القرن العشرين، حيث وصل المجتمع البريطاني الى ذروة تقدّمه ، كنت ترى معظم الحافلات البريطانية لم تزل تحمل في دواخلها علامات "يمنع البصاق قطعيّا " . ان التأكيد على ذلك بعد مرور اكثر من اربعة قرون على منعه دلالة ليس على منع انتشار الامراض حسب، بل التأكيد على جماليات السلوك .. وهذا ما نجده في قراءتنا لتواريخ مجتمعات الغرب، عموما، حتّى اختفت عادة البصاق نهائيا . وعندما نتعمّق في قراءة تاريخ السلوكيّات الاجتماعيّة لمجتمعات العالم كلّه، نجد ان المجتمعات المتمدّنة قد اكدّت على القطيعة مع عادات الناس في القرون الوسطى، وجاءت بالبدائل القيميّة الجديدة ، فمثلا انتهى نهائيا لعب الانسان بأنفه باستخدام اصبعه امام الآخرين، إذ يعدّ ذلك مثلبة وعيبا كبيرا . وفي عام 1885، حذر يوليوس هارت احد كتّاب الأدب الألماني قرّاءه، قائلا: "حذار ان تقوم بتنظيف أنفك بإصبعك او بايّ قطعة من ملابسك، وان يكن ذلك، فينبغي ان يكون ذلك وحدك مع استخدام منديل" !

من الواضح انها كانت عادة عامّة، ولكنها سيّئة جدا، لم تزل حتّى اليوم لمن يوظف اصبعه او كمّ قميصه أيضا لهذا الغرض، لكن تجد من خلال هذه الالتفاتة المفارقة، ان مسافة شاسعة تفصل بين مجتمعات واخرى ، مجتمعات تتفّوق بعاداتها الجميلة وسلوكياتها القيمية ومجتمعات لم تزل تعيش مثالب العصور الوسطى او حتّى توّحش العصور البدائية! وكثيرا ما المحتُ للعديد من الاصدقاء الى فعل لا انعكاسي – كما يبدو – لدى نائبة برلمانيّة عراقيّة محجبّة وفوق الحجاب عباءة ، كانت تخرج على شاشة التلفزيون، وهي تمسح بظهر يدها، او بكم عباءتها انفها ، اذ كانت تمخط دوما اثناء حديثها الى الناس بين الحين والآخر!   الكارثة، ان تجد في مجتمعاتنا من يدافع اليوم عن تلك الترسّبات من العادات والتقاليد البالية، ويحاول ان يجد الاعذار والتبريرات لسلوكيّاته المهترئة اولا، او يحاول ان يجد مثالب وسلبيات في سلوكيّات مجتمعات متمدّنة ، ويقرنها مباشرة بالدّين او المذهب اولا وبجاهليّة تلك المجتمعات ثانيا ..

المجتمع عموما، ان لم يكن صاحب حركة تمدّن تقودها نخبة متمدّنة ومستنيرة من اجل التغيير والمطالبة بتبديل السلوكيّات واحلال اخلاقيات جديدة ، فستبقى مجتمعاتنا تثوى في حياة العصور الوسطى وتوحش الازمنة البدائية، وعلى المستنيرين من المفكرين والمثقفين والمتخصّصين الاقوياء ان يعترفوا بأنّ هذا الواقع الاجتماعي المريض قد خلق من امامه امراض واقع سياسّي متهتّك جدّا ، وان تبديله يتطّلب نخبة من البناة المتمدّنين الذين يمتلكون شجاعة قوية ، وبدئهم تبلور حركة فكرية واصلاحية وسيادة سايكلوجية تطمح للقطيعة مع الواقع ، لا التسبيح بحمد الواقع او الخوف منه، من أجل أن تكون قادرة على السيطرة على نفسها واستمرار ذلك على الدوام، ولجم كل المعترضين من الافاكين والمنافقين والمتخلفين والملالي ورجال الدين الذين لا يريدون تبديل سلوكيات الانسان ولا تحريك عقله كيلا يرفضهم برفضه الواقع المر، ولكن بهذه الطريقة فقط يمكن للمرء ان يخضّ المجتمع ويهزّه وتعويد نفسه على رفض السلوكيّات المريضة والخروج بسلوك لائق دون انقطاع . ولكن المشكلة لدى تلك النخب التي باتت تتآكل جرّاء صراعاتها وامراضها هي الاخرى، وخصوصا السايكلوجيات الطائفية التي نخرت عظام العراقيين بشكل مخيف من خلال هيمنة طوابير خامسة وسادسة من المرضى النفسيين على حكم العراق .

إن الامراض الاجتماعيّة التي اصابت جميع العراقيين بكلّ مستوياتهم ومحليّاتهم سواء في دواخل بلدهم، ام في مهاجر شتاتهم، تكاد تكون اوبئة متفشيّة تزداد ضراوتها يوما بعد آخر، بل شملت حتّى فئات المثقّفين من ذوي الجهالة الصبيانيّة الذين يُغلّفون مخارجهم بالوعي المزيّف .. لقد كثرت تجنيّات العراقيين على بعضهم الآخر منذ زمن الانقسامات السياسيّة ، أما اليوم ، وفي زمن التمزّقات الاجتماعية، فقد عمّ الجهل وكثرت المزايدات وانتشرت الكراهيّة .. وافتقدت القيم العالية ، واضمحل الوفاء ، وأُسيء للعلاقات العامة والخاصة ، واضمحلّت روح المواطنة ، وانتهت الأخوّة سواء على مستوى الجيرة ام القرابة ام الصداقة ام الاستذة والتلمذة ، ام الروح المهنيّة او الوظيفيّة .. وذهب احترام المواقف والثبات على المبادئ، وماتت الضمائر، وزاد المنافقون والمراؤون والطفيليون وتفاقم عدد "اللوكيّة " (= المتملقون بالتعبير العراقي ) سواء في مجتمعاتنا في الداخل ام حتّى لدى الجاليات بالخارج وفي كلّ بقعة من شتات الارض، وهم بمجاملاتهم المزيّفة وعواطفهم الكاذبة قد تلوّنوا بالمظاهر الخدّاعة، وانحدرت الاخلاق انحدارا مريعا في زمن كثر فيه المعمّمون والملتحون والملالي والكذابون والمهاترون ومن تطبّع بثقافتهم الضحلة .. وازدحمت الحياة بالتافهين والوصوليين والافّاقين .. وتلوّن البشر مذ لبسوا الاقنعة، وتفاقم امر المرتزقة، وكثر الاشرار وقلّ الاخيار، وتناقص ذوو الاخلاق الحميدة والقيم النبيلة .. وتخدّر المجتمع على ايدي رجال الدين الافاقين والدجالين والسقعاء الذين دجّنوا الناس على امزجتهم الرديئة وعقولهم الخاوية وعلى احاديثهم المثيرة للاشمئزاز والقرف .. وبدا للعيان ان المسؤولين العراقيين يرتكبون جملة هائلة من الاخطاء والتصرفات الصبيانية التي لا تستقيم ابدا والسلوكيات الجميلة ، ناهيكم عما اقترفوه من جرائم وجنايات بحق الدولة والمجتمع ، فاذا كان القادة بمثل هذه المستويات ، فكيف ستكون التوابع ؟

انعدم الوفاء نهائيا، ولم يعد ايّ انسان يثق بالآخر وتبددّت جماليّات الحياة العراقيّة  .. حدثتني سيّدة عراقيّة محترمة لها عمق تفكير ، وبعد نظر ، بأنّها مشيت في مناطق كانت في يوم ما راقية بالعاصمة بغداد، فوجدتها كسيحة وبدائيّة، ذلك ان الناس اختلفت بغير الناس، وان تعاملهم يبدو على غير ما اعتدنا عليه كعراقيين ! فهم ليسوا جهلة فقط ، بل بلا ذوق ، وبلا اخلاق ، ولا اي اصول .. وان وجوها غريبة على العراقيين تسير في الشوارع بكلّ فجاجتها ، ولغتها الجلفية ، ومفرداتها الرديئة. قلت لها: لقد مرّت بالعراق تواريخ مريرة متنوّعة، فكان تارة يشهد كثرة من الاخيار سائدة فينعم الناس ، وتارة نجد ان الاشرار هم الذين يملؤون العراق ويحكمونه فيتردّى المجتمع . المشكلة اصعب من هذا بكثير، واذا كانت مجتمعات اخرى عربيّة او غير عربيّة في العالم لها مشاكلها الصعبة ايضا ، إلا انني اعتقد بأنّ مشكلات المجتمع العراقي لها احاديتّها وضراوتها، وقد لا تنفع معها ايّة حلول آنية معاصرة او حتّى تجريبيّة ثبت نفعها في مجتمعات اخرى .   ان   مشكلات العراق الاجتماعية لها مسببات جيوتاريخية وسوسيو اثنوغرافية وانثربولوجية وثقافيّة بيئيّة ودينيّة مذهبيّة وسياسيّة تربويّة .. إنها ليست مشكلات تاريخ اللحظة ، بل انها حصيلة تحكّم التاريخ في الراهن ، وإثارته بشكل متشنج ولا أخلاقي البتّة ..


انتظروا الحلقة الثانية

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

781 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع