الأطوار الانتقالية لمركزية العالم القديم تحوّلات العراق من الأحقاب القديمة إلى العصور الوسطى

                                              

                            د. سيّار الجميل

 الحلقة  الثالثة

بدايات اضطهاد المسيحيين الأوائل فـي العراق

شهادة مؤرخ إيراني : 12 قرناً من السكوت !

يرى المؤرخ البحاثة الإيراني ناصر بوربيرار في كتابه " 12 قرناً من السكوت " ( انظر : ناصر پورپيرار ، «پیرامون كتاب 15 قرن سكوت (. ایسنا. تهران: خبركزاری دانشجویان ایران (ایسنا)، 17 تیر 1381. بازبینی‌شده در 8 فروردین 1391.) .

قائلا: "إن الغرابة تكمن في تاريخ إيران القديم، ذلك ان تلك السلالات الثلاثة من" الاخمينيين والاشكانيين والساسانيين" غريبة جدا عن محيطها الجغرافي وعن السكان الاصليين في هضبة إيران، إذ لم يبق لهم أي أثر في تلك الأرض بعد توالي هزائمهم النهائية " . ويستطرد قائلا : "لم يبق من تلك السلالات الثلاث التي حكمت بالقوة والسيف والبطش والاستبداد تلك الشعوب القاطنة في أعماق الهضبة الإيرانية ، لم يبق منها أي أثر حضاري مهم يُذكَر قياساً بالاغريق اليونانيين ومقارنة بالرومان الذين حكموا الاوروبيين وحتى بالعرب الجاهليين. ما عدا أنها كانت تتقن استخدام الرمح والترس الفارسي لمحو الشعوب التي سبقتها في نطاق جغرافية إيران، وجعلها قاعدة للسيطرة على أراضي الغير وقهر الشعوب الأخرى واغراق كل من اليونانيين والمصريين والهنود والعرب وغيرهم ببحور من الدم".

ويتابع قائلا : " وأنهم جاءوا متأخرين قياساً بشعوب عاشت قبلهم بآلاف السنين. وقد قام علماء الآثار والعديد من المستشرقين اليهود بتهويل منزلتهم وتطهير سمعتهم خلافاً لحقيقتهم في التاريخ " . ويرى المؤرخ بوربيرار كذلك : "أنهم لم يتمتعوا لا بثقافة ولا بفن ولا باقتصاد ولا بسياسة حيث عاشت المنطقة كلها تحت بطشهم في دياجير الظلام حتى مجيء العرب المسلمين محررين فاتحين"!

ويتحدث المؤرخ پورپيرار ملاحظا دور إسرائيل في إعلاء شأن الحضارة الايرانية الساطعة قبل الإسلام من اجل تعميق الهوة بين الايرانيين والعرب. فالتاريخ الايراني اليوم قد استند إلى بحوث قام بكتابتها اليهود المتعاطفون مع سياسات ايران القديمة الممالئة لليهود ، وخصوصا ضد العراقيين . كان اليهود قد بذلوا جهودا لإعلاء شأن الاخمينيين كمحررين لهم في بابل ، وكمدمرين لحضارة بلاد بين النهرين القديمة . فاليهود يسعون دوما إلى ان يقدموا الاخمينيين كمبدعين للثقافة والحضارة او اي شيء يرغبونه وذلك بسبب الخدمة التاريخية التي قدمها لهم الاخمينيون بتحريرهم من سبي نبوخذ نصر ملك بابل في قلب العراق ! فخذ مثلا بعض اشهر علماء الآثار والتاريخ من اليهود أمثال ـ غيريشمن و داريشتيد و اشكولر ، فضلا عن ان 90% من مؤرخي التاريخ الايراني هم من اليهود المتوزعين في انحاء عديدة من اوروبا . اي ان اليهود قاموا بتهويل تاريخ الاخمينيين، فهؤلاء حاولوا خلال المئة سنة الماضية ان يصوروا الامبراطور كورش في التاريخ الايراني القديم بشكل يتطابق وصورته في التوراة ، حيث يتم تقديمه بصورة نبي ، وقد نجحوا كثيرا في ذلك . إذ لم يُعرف كورش في ايران حتي قبل 100 عام مضى " ( انتهى نص بوربيرار ) .

علينا القول بانها شهادة مؤرخ ايراني معاصر  حر التفكير  له جرأته في قول ما لتاريخ ايران وما عليه ، وقد عبّر عن حقائق ذلك " التاريخ " بلا اية التواءات وبلا اية تغطيات وبلا اية مواربات  .. لقد افصح المؤرخ بوربيرار عن قول ما يراه من حقائق واضحة عن نظم ايرانية متنوعة وقديمة استبدت بشعوب المنطقة من اجل اهدافها وطموحاتها على حساب شعوب مجاورة ، وكانت سببا في تدمير حضارات العراق القديمة وسحق ثقافات عراقية متعددة ..  انه يعلن قولته بعد ان خرق الصمت وادان سكوت الاخرين عما جرى من تواريخ البطش بالعراقيين وسحق مدنهم وحضاراتهم والتنكيل بهم تنكيلا بشعا  .. ان الحاضر لا يمكننا فهمه من دون الرجوع الحقيقي لفحص كل مواريث ما حصل في التاريخ منذ القدم .

العراق تحت حكم الفرثيين

لقد بقي العراق تحت بطش الفرس الفرثيين لغاية عام (114) للميلاد ، أي انهم حكموه لحقبة تاريخية طويلة قدرت بـ 253 سنة ، وكانت حقبة مليئة بالمصاعب والتحديات ، اذ عانى المجتمع العراقي من التحولات الصعبة وقد اندثرت القيم العراقية القديمة الموروثة عن حضارات العراق القديم ، وعانى العراقيون من الاندثار الحضاري لمجموعة هائلة من القوانين القديمة والاساليب الاجتماعية ، ولعل اكبر التحديات التي صادفت العراقيين الاضطهاد الذي حل بالمسيحيين الجدد الذين آمنوا برسالة السيد المسيح عليه السلام ، ولقد تحالف اليهود مع الفرثيين من اجل اضطهاد المسيحيين الجدد .. حتى نجح الإمبراطور الروماني تراجان Trajan باحتلال بابل التي كانت قد غدت مدينة يسيطر عليها اليهود الذين كان قد جلبهم نبوخذ نصر اسرى للعراق . ونظير التحالف اليهودي الفارسي ضد العراقيين ، قام تراجان بتهجير من كان في بابل من اليهود مخافة ان يؤدي تحالفهم مع الفرس الى نتائج بالغة الشدة ، خصوصا وان الاضطهاد قد بلغ اشده ضد الانتشار المسيحي في العراق .

وبعد دخول تراجان بابل قام بتقديم القرابين تكريما لمثوى الإسكندر الاعظم Alexander the Great ( حكم للفترة 336–323 BC ) في بابيلون، ثم عطف على العاصمة طيسفون ( تقع عند قصبة سلمان باك حاليا قرب بغداد ) التي أنشأها الفرس الفرثيون عاصمة لإمبراطوريتهم في منطقة (المدائن) كبديل عن العاصمة سلوقية عاصمة السلوقيين ( وهي تقع في قلب العراق ايضا ) . فاستولى عليها تراجان بعد انسحاب الفرثيين منها وكانت جيوش الرومان قد انتشرت في كل اصقاع جنوب العراق حتى بلغت مصب نهري دجلة والفرات في الشط الشهير بشط العرب ، ويقال إنهم امتدوا نحو الخليج العربي. كما توجه تراجان شمالا على رأس جيوشه ليحاصر أسوار مدينة الحضر Hatra جنوب الموصل وكانت عاصمة لمملكة عربايا ( وهي مملكة عربية قديمة نشأت قرب الموصل ) ، لكنه بالرغم من جيشه العرمرم ، إلا أنه لم ينجح ابدا في احتلال الحضر ( او : هترا ) نظرا لاستبسال أهلها والشجاعة الفائقة التي تحلى بها ملكها العربي سنطرق الثاني . ولقد ظلت عصية على الرومان كذلك ، وخصوصا على الإمبراطور سيفيروس Severus ( حكم للفترة April 193 – 4 February 21114 ) الذي قاد جيشه واعاد المحاولة للسيطرة على الحضر لاحقا !

الرومان في العراق

لقد قسم الامبراطور تراجان العراق ( او : بلاد ما بين النهرين ) الى ولايتين رومانيتين اثنتين اولاهما ولاية آشور العليا وثانيهما ولاية بابليون الدنيا ، واعتمد تراجان كثيرا على بلاد العراق ، اذ جعلها منطلقا لغزو بلاد ايران وخصوصا اقليم بارس الواقع في قلب ايران ( هذا الاقليم الذي تحيطه عدة اقاليم على شكل دائري تبدأ بخراسان شرقا ثم قزوين شمالا وكل من كردستان وهمدان وجبال البختياريين وعربستان – خوزستان غربا ، وبلوجستان وسيستان جنوبا ) ، وكان جيشه قد التف من الشمال عبر بلاد الجزيرة الفراتية مخترقا سلاسل جبال طوروس وليس عبر جبال زاكروس شرقا ، إلا أن جيشه تكبد خسائر فادحة وقاتلة في معركة نصيبين الشهيرة . فكان ان اتخذ خلفه الإمبراطور هادريان Hadrian( حكم بين August 11, 117 AD – July 10, 138 AD ) قرارا ستراتيجيا خطيرا بسحب جيوشه الرومانية من العراق عام 117 للميلاد ، اذ بدأ صفحة تاريخية جديدة بالسير على خطى الإمبراطور أغسطس Augustus ( حكم للفترة January 16, 27 BC – August 19, 14 AD) السلمية ، اذ قام بعقد الصلح مع الفرس الفرثيين كي يتفرغ تماما للعمل من اجل إخماد ثورة اليهود الكبرى ..

ثورة اليهود الكبرى

لقد اندلعت ثورة اليهود الكبرى في بلاد الشام ومصر عام 115 للميلاد بقيادة أحد حاخاماتهم المدعو شيمون باركو خيا الذي ادعى بأن السيد المسيح قد بعثه الله الى العالم لكي يحرر اليهود من ظلم الرومان الوثنيين ، كما كانت تلك الثورة احتجاجاً على قرار الامبراطور هادريان الذي منع اليهود من ممارسة بعض طقوسهم اليهودية كـ " الختان" ، فكان هذا الأمر قد اعتبروه اضطهادا رومانيا قويا ضد حقوقهم وتدخلا سافرا ضد عباداتهم. لقد استمرت تلك الثورة قرابة العشرين عاما من قبل اليهود ضد الرومان ..

لقد كانت الثورة اليهودية قد اندلعت أول الامر في برقة ثم امتدت نحو قبرص ومصر إبان كان "تراجان" مشغولاً بحملته في الشرق ، اذ تطلبت تلك الحملة سحب الحاميات الرومانية من كثير من ولايات الإمبراطورية الرومانية شاسعة الاطراف . بدأت الثورة كالعادة بين اليهود والإغريق وسرعان ما تفاقم الامر وتطور بفعل المؤامرات السياسية إلى صراع يائس خاضه اليهود ضد حكومة روما ، وكان اليهود قد اختاروا لأنفسهم ملكاً سمي بـ "أندرياس" Andreas أو لوكاس (لوقا) (Lucuas) . وتجمع كتب التاريخ على مدى الوحشية والقسوة التي مارسها اليهود فى مهاجمتم للإغريق والرومان جراء الاحقاد التاريخية المتراكمة .. لقد وصلت الكراهية الى اقصى مداها عندما كان اليهود يلطخون أنفسهم بدماء الاغريق والرومان ويأكلون لحومهم، ويقدر ديوكاسيوس عدد الإغريق الذين لقوا حتفهم فى برقة فقط بحوالي 220 ألف نسمة عصر ذاك ، كما قام اليهود بتدمير المعابد الإغريقية وتخريب الطرق والمباني حتى غدت برقة فى النهاية مجرد صحراء لا تعرف إلا الخراب الشامل. ولم يلبث لهيب الثورة أن امتد إلى قبرص حيث لقي 240 ألف نسمة مصرعهم وخربت سلاميس عاصمة جزيرة قبرص وصدر قرار يحرم على اليهود أن تطأ أقدامهم أرضها. وسرعان ما امتد لهيب تلك " الثورة " الى مصر وبلاد الشام .. ويبدو واضحا ذلك التأثير القوي عبر زمن طويل بين اليهود والايرانيين القدماء ضد المسيحيين والرومان ..

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1668 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع